ـ 1 ـ
يعيش مجتمعنا العراقي اليوم هاجساً اسمه الانتماء والولاء ، فكثيراً مانسمع مناداة بضرورة أن تنطلق ممارسة المواطنين على اختلاف قطاعاتهم من قناعاتهم وصدق إخلاصهم في كل مايمارسون . هذا أمر أساسه عمق إحساس هذا المواطن بالانتماء والولاء لجذور ومنابت وثقافة مجتمعه ، ولحاضر هذا المجتمع وأهدافه وغاياته ، وكذلك لتطلعاته ومراميه المستقبلية في أن ينعكس هذا الانتماء والولاء في تفعيل دور المواطن في أي مؤسسة يعمل وينشط من خلالها.
ولكن هل مفهومي الانتماء والولاء يتحققان بقرار قسري ؟ أم بقرار سياسي؟ أم عبر سبل تربوية رسمية أو غير رسمية تنطلق من مراعاتها وإدراكها للمرحلة التي يمكن أن يتم من خلالها غرس وبناء المفاهيم ؟
إنني أرى ضرورة الانطلاق من بعد إيماننا وقناعاتنا بمفاهيم الشورى والديمقراطية والحوار في تعريض أبنائنا وأفراد مجتمعنا إلى مواقف وخبرات مدروسة وبعمق كي ننمي فيهم بذور الانتماء والولاء حتى تترعرع هذه البذور وعبر السبل التربوية المناسبة متجنبين في ذلك كل سبل الفرض أو القسر أو الإكراه.
فالتربية هي الأساس والمنطلق والسبيل الأقوم ، من هنا كان المطلوب تطوير نظم تربوية قادرة على إنتاج أشخاص أحرار في شخصياتهم ، أحرار في تفكيرهم ، ذوي عقول حرة نيرة ، نظم تربوية تساعد الفرد على النمو بقدراته وإمكاناته إلى أقصى حد هو مهيأ له ، وفي ذلك خدمة ليس لذات الفرد فقط وإنما لمجتمعه.
هذا النمط من البيئة التربوية يمكّن التربويين من أن يكونوا أكثر حرية وإبداعاً في ممارسة أدوارهم، قادرين على التفكير الناقد يساعدون طلبتهم على النمو وعلى التفكير الذكي الواعي المسؤول . هدفنا البعد بالتربوي عن تكرار نفسه سنة بعد سنة ، سواء كان ذلك في التعليم الابتدائي أو الثانوي أو الجامعي.
أيضاً ، يكمن الهدف في إشعار التربوي بأنه إنسان مبدع وأنه مؤهل لذلك الإبداع بحكم إعداده وخبرته واستمرارية اتصاله مع نمو العلم والمعرفة ، لانريد للتربوي أن يقدم أجوبة مقننة لطلبته مانريده محفزاً لهم على التوصل إلى إجابات مناسبة معتمدين في ذلك على محاكمتهم العقلية وتفكيرهم الحر الناقد البنّاء ، فلاإجابات إنسانية مقننة بعد اليوم ، فكل ما يتوصل إليه العقل البشري نسبي مهما طال عليه الزمن.
ومع التفجر المعرفي التقني وتطور أدوات المعرفة لم تعد الأمور نسبية فقط بل ونسبية جداً ، فبعد أن كانت المعرفة في السابق تتضاعف مرة كل خمسمائة عام أصبحت اليوم تتضاعف في مدة لاتتجاوز الخمس سنوات إذا لم تكن أقل.
وباعتبار نظمنا التربوية نظماً مهمة في مجتمعنا البشري فلابد من أن يتمتع من يعايشونها من تربويين وطلبة وموظفين وإداريين ومشرفين ومسؤولين آخرين بدرجة مسؤولة من الحرية الأكاديمية ، حرية عاقلة تنطلق من التوازن بين مفاهيم الحرية والمسؤولية والمساءلة.
فالبعض يعتقد أنه مادامت المؤسسة التربوية تلعب دوراً في تشكيل الأبعاد البنائية للشباب سواء في جانبها المعرفي أم في الجوانب المتعلقة بالقيم والاتجاهات وما إلى ذلك من أبعاد بنائية أخرى ، فإن على هذه المؤسسة أن تتقيد بحرفية المناهج ورتابة السلطات ، وأن يتم تطوير الأنظمة والتعليمات المشددة لضبط الأمور ضمن عمليات التفاعل والتشغيل التي يشتمل عليها أي نظام تربوي.
مثل هذا الاتجاه مبني على أساس من تعميم خاطئ أساسه الاعتقاد بأن المشكلة والفكرة لن تثور إلا إذا ثار حولها نقاش وجدل ، وأن التربويين والمتعلمين لن يشعروا بها أو يعرفوا عنها إذا لم تتم إثارتها ، وهذا ما ثبت خطأه لدى كل الشعوب والحضارات ، وهو مادفع بالعديد من دول العالم بتضمين مناهجها قضايا وشؤون مختلف عليها لتمكن أجيالها الصاعدة من ممارسة تشاركية فكرية حول هذه القضايا حتى ولو لم يتم التوصل إلى اتفاق . فالهدف ليس نمطية الفكرة بل هو غرس القبول لممارسة التعددية الفكرية وتنمية اتجاهات ايجابية نحو قبول التعامل مع الرأي والرأي الآخر ، وزيادة القدرة على التفكير المبدع والمبادئ ، فمن اجتهد فأخطأ فله أجر ، ومن اجتهد فأصاب فله أجران ، وصدق رسول الله (ص) إذ قال:- لايكن أحدكم إمّعة
ـ 2 ـ
ليس الولاء قصيدة حب ولاهو برقية تأييد يكتفي صاحبها بأضعف الأيمان ، وإنما هو العمل الصالح والمواطنة الصالحة على مبدأ أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه . فالولاء الحقيقي أن يؤدي الموظف واجبه على أكمل وجه ، وأن يبذل العامل والصانع غاية جهده في إتقان صنعته ، وأن يتجنب التاجر الغش فيما يبيع ويشتري ، وأن ينفذ المقاول ماتعاقد عليه بكل إتقان وأمانة ، وأن يؤدي الناس الأمانات إلى أهلها ، وأن يشعر كل مواطن أنه على ثغرة من ثغور الوطن فلايؤتين من قبله.
الولاء الحقيقي أن لايسكت المواطن على إهدار مقدرات الوطن ، والولاء الحقيقي أن يكف جميع المنافقين أنفسهم عن أبواب الحكام والوزراء والمدراء ، وان لايسمح هؤلاء لأولئك بحجب شمس الحقيقة وسواعد المخلصين الشرفاء عن منافذ العمل الطيب والكلمة الصادقة.
وإذا كان الذين يرفعون راية الولاء للسلطة فوق رؤوسهم يعتقدون أن هذه الراية تمنحهم امتيازات تجيز لهم التهاون في الواجب والمصلحة العامة فإنهم واهمون وإننا مقصرون في جانب الوطن والأجيال القادمة إن سمحنا لهم بذلك ، وإذا كانوا يعتقدون أن إعلان الولاء بالكلام يستوجب المكافأة والتميز عن الآخرين، فإننا إذا سمحنا بذلك نكون قد سننا سنُة سيئة جديدة وصنعنا طبقة من المتكسبين الكسالى ، فأحبطنا همة النشطاء المخلصين أحباء الوطن والشعب.
كيف يدخل في قلوبنا وعقولنا أن يصرخ مسؤول بالولاء ويبرق به ذات اليمين وذات اليسار ، وهو يستثمر وظيفته لخدمة معارفه وأقاربه دون وجه حق ويقدم الغني على الفقير والقوي على الضعيف وصاحب الجاه والواسطة على من حرم من كل واسطة أو جاه ، وكيف نقبل الولاء من رجل في جوفه قلبين ، واحد للعراق وآخر للبيع ، وكيف نثق بولاء من يعتدي على المال العام ويتلف المرافق العامة ؟!
الولاء الحقيقي يفرض على صاحبه أن يحاسب على الخطأ مرتين . مرة لأنه يقول أنه أشد ولاء من غيره ، ومرة لأن واجبه أن لايخطئ . والولاء الحقيقي يفرض على كبار المسؤولين في الدولة أن يتحروا المخلصين الشرفاء من أبناء الوطن ، وأن يتجنبوا أفواج المداحين المنافقين ووسطاء السوء وسماسرة المطابخ ومواطن الشبهات.
إن للولاء الحقيقي ثمناً ثقيلاً ، فمن كان لايقدر عليه فليكف الوطن خيره من شره ، وليتق الله ويسكت .
[email protected]