23 ديسمبر، 2024 4:23 ص

الانتقال من مدينة الذاكرة إلى مدينة الرؤى

الانتقال من مدينة الذاكرة إلى مدينة الرؤى

إن صعوبة الجهد الشعري في مجموعة (صبخة العرب) للشاعر عبد الكريم گاصد تكمن في إمكانية تمرير مدينة – الواقع – الذاكرة – (صبخة العرب) إلى ملامح يوتويبا مدينة اللامكان، ومحاولة إيجاد قرائن بينهما ليس على مستوى الأدلة الاقناعية، بل على مستوى التخييل في الفعل الشعري الذي ينافي معطيات الوجود المنفرد لمدينة ويفارقه تماماً، الأمر الذي يتطلب تحويل عملية رؤية العين من رؤية بصرية إلى رؤية تبصرية، فثمة فاصل مترام يفصل بين عبد الكريم گاصد الإنسان الذي عاش في مدينة (صبخة العرب) وبين عبد الكريم گاصد الشاعر المنهمك بالتحليق في أجواء مدينة (صبخة العرب) ذاتها، فذات الشاعر الموصولة بالرؤى تنسخ ذات الشاعر المنشغلة بالرؤية، لذلك فالشاعر يواظب على إيقاد رؤاه ودفعها عبر مشاهد رؤيوية لا أرشيفية، ليضمن استقلالية المدينتين عن بعضهما، ويؤمن انشطاراً لابد منه لذاته الواحدة، ضمانة للاشتغال الشعري الذي يسعى إلى أن يعادل الحضور الفعلي للمدينة، بما ينتج عن غيابها وتواريها، لتصبح المدينة مجرد حكايات مزاحة عن أصلها، في حين تكون مخيلة الشاعر بأكملها خارج مدينته، فنلمس الفرق بين أهمية أن نعيش قياساً لأهمية أن نتخيل، وهي السمة الفارقة للشعر، حيث يتعامل الشاعر مع المدينة بطريقة الحوار مع النفس لا مع الآخر، أما استبدال مدينة بأخرى فأنها تشير إلى قابلية الانفصال عن مركز مهيمن ما لصالح التخييل الشعري، وما يؤكد هذا أن اسم الشاعر يدل على مدينتين منفصلتين ومتغايرتين، حينها يكون بوسع الشعر أن يصنع من احدهن مدينة مغايرة ومختلفة وهو أساس حركية الفعل الشعري الذي يسمو بما ينجبه الأرضي ليكفل رقيه، محققاً وظيفة الشاعر فيما وراء مدينته وهو يرتاد المدى الأبعد في التخييل، وأدواته المتمثلة في الرؤيا المنفلتة نزوحاً من عالم اليقين يرافقها براءة النص من الذات الأولى للشاعر أملاً في تغليب الرؤى الحلمية ومن ثم رؤية اللامرئي الماثل في المرئي، طلباً في إيجاد قاسماً أدنى لتحرير المدينة من وجودها الواقعي:
يا للفجر
حين تمرّ العربات
محمّلة برائحة الحقول
تكاد تمسّ حواف السطوح الخفيضة
بأعراف خيولها
وقامات سائقيها
وهي تبتعد
خضراء
تعبق بالرائحة
لأجراسها
رنة الشمس
وما أن تتحقق عملية استيلاد النسخة الثانية للمدينة حتى ينأى الشاعر بنفسه عن الاجترار الشعري الذي من شأنه أن يعيد المدينة إلى مكانتها السابقة، فيصّر على دفعها إلى مكانتها في التخييل الشعري الذي بوسعه أن يتجاوز الإشكالية الناجمة عن ثنائية الحدين المتمخضة عن التضاد بين مدينة وأخرى، وغاية ما ينتجه الشاعر في انتقاله الشعري هذا قراءة جديدة لجغرافية وأحوال وأصقاع وفصول إقليم جغرافي بعينه لتجسيده شعرياً في مكان آخر غير معلوم، بقطع النظر عن زمن الشاعر الذي يستأنس الشعر بأسى مجهوليته على عكس التاريخ تماماً، أن استبدال المدينة بالشعر يعني الإنتاج ثانية، لذلك فأن (مدينة صبخة العرب) تتحول إلى شيء متوار أو ظلال هاربة داخل مدينة الشعر، وبين سطور صفحاتها، وأطياف ذكرياتها المسرودة بكثافة الشعر، أن ظهور (الميتا – مدينة) أو المدينة الثانية ينتج عن دخول الشاعر في علاقة استكشافية لمدينة أخرى لم يكتمل حضورها بعد، أنها تضيف وتتسع بدلالة (التخييل) ذلك أن النظر عبر عملية الاشتغال الشعري إلى تقاطيع وجه مدينة غادرت زمانها يتطلب تعدياً لرؤية جغرافيا المكان إلى رؤى جغرافية الوجود الحر، ولعلنا نلمس مستوى من مستويات (التخييل) من خلال رؤى الشاعر لمعاناة زقاق منزوي ومهجور انصرفت عنه أقدام المارة بفعل المطر:
أنا الزقاق الضيّق
من يغسلني
وقد وطئتني الأقدام
وغطاني الوحل
من يمنحني مرآة
لأرى عيني
أنا الزقاق الضيّق
ارتجف الآن من الخوف
وقد انتصف الليل
————
————
أو:
المزاريب تصبّ
والدروب تغلي بالماء
والبيوت تتجرد من ثيابها
وتعلقها على الحيطان
يسير الشاعر في طريق شعري صاعد يتجه من مدينة الذاكرة الهابطة إلى مدينة الرؤى الصاعدة، ولكي تقع المدينة في فضاءات الشعر يتم ترحيل طقوسها إلى المراتب العليا في سلم الرؤى، حتى إذا ما عاد الشاعر ذات مرة، إلى ذاكرته فأنه لا يضع قلمه إلا بين سطور صفحات بيضاء، ذلك ان خزائن الأكتناز الشعري آثرت الارتفاع لنشدان الاتصال بغرائبية الأشياء وأسرارها المتعالية لنقل إشارات المدينة وأشكال الحياة فيها، بمباهجها وأحزانها صعوداً باتجاه سعة التصور والتخييل، عبر عملية تحليق للعالم الجواني الضمني المتواري بين طيات مدينة لإزالة ضبابيتها وتبيان توهجاتها:
بكوفيتهِ الشبيهةِ بالطائر
يلوّح بيديه
لحماماته السابحة في الهواء
فجأة
تستحيل يداه جناحين
فيطير
———–
———–
أو:
الشمس ترافقهم في الليل
والقمر في النهار
سائرين في الهواء
لا أثر لأقدامهم على الأرض
وحين يهبطون
تهبط الشمس والقمر معاً
أيها الفجر
أيها الغجر
الخيام تطير ..!
هكذا إذن يصبح الاشتغال الشعري خارج مقدرة الذاكرة، وأهم ما تطرحه النماذج الشعرية شيء يتعلق بحالة الانفعال لا الاتصال بين المدينتين، وينجم عن ذلك استغراق الشاعر في أمكنة التواترات الشعرية، وحقائقها الطيفية للسمو بعالم البراءة وسبر المساحات المحتشدة بالممكنات، غير أن هذا اللاتصالح بين مدينتين، هو نوع من الاحتفالية التي لا تتعلق بعملية إعادة اكتشاف الشاعر لمدينته بقدر ما تتعلق باكتشاف مدينة أخرى مرادفة لها:
لأن أحلامي كثيرة لا تعدّ
وذاكرتي متعبة من الدخان والحطب
أتذكر أحداثاً لم تحدث
ومواضع لم أرها
مثلاً:
مقبرة عند منحدر
قلاعاً تنفتح بلمسة يد
حيطاناً تتقدم زاحفة
أصداء تتردّد
في الليل
الخ …
الخ …
الخ …
———
———
وهكذا تضعنا قصائد الشاعر عبد الكريم گاصد في مجموعته (صبخة العرب) في تواصل مع الفعل الشعري التخييلي، وإشاراته التي تتجه لإثارة ما حولها من مساحة شعرية مجاورة تعج بالمضمرات وخفاياها الموصولة بأصقاع مدينة وأوضاعها وتناوب فصولها وأرشيفات أمكنتها، وما يغرينا بأهلية هذه المضمرات على الإنتاج الشعري، هو أن الشعر في المجموعة يمنح المدينة روح أخرى، فحينما يصبح المكان شيء آخر غير الأرض يكون بوسعه قول الشيء الكثير، في فضاء دلالي ينتج فيه المكان مكاناً آخر، وبالتالي فأن توجهات الاشتغال الشعري للشاعر عبد الكريم گاصد تتعامل مع المدينة بوصفها مكاناً متعدداً وتخييلياً وليس مساحة من الأرض فحسب، أن امتداداتها وأوضاعها ومدارات فصولها تطال الذاكرة وسبل العيش والأحلام:
ما أكثر الطرق الطالعة من الصبخة
وما أقل الطرق الموصلة إليها
طريق تمتّد وتمتّد ولا تنتهي أبداً
طريق تصطدم بجدار
طريق تختفي في الرمل ولا تظهر ثانية
طريق تختفي خلف النخل وتخرج عارية
طريق يوقفها كلب بنباحه
————–
————–
طريق تثقب جدراناً
وتسير
فلا يوقفها أحد
طريق تمضي في الصحراء
كم أرهقني السير عليها!
وضمن هذا السياق استطاع الشاعر أن يظهر مهاراته الشعرية، عبر الإفلات من تشكلات النمط الشعري الواحد ومن ثم سيادته كسلطة، فهذا النموذج الشعري هو انعكاس لظرفية المدينة (وسماتها النسقية) المتحولة، فالقصائد تمثل دور العابر الممتلك لأهمية عبوره إلى ضفاف تخييلية أخرى، على الرغم من حملها لصفات النمط التعبيري الشعبي تلبية لشروط تجربة بعينها تتخذ من السمو الطيفي لملامح مدينة (صبخة العرب) أدوات إيصال لها، وليس بعجيب أن يبذل الشاعر جهداً وافياً لانزياحات مقاصد النصوص ومعانيها ودلالاتها بموجب حراك متواصل وهابط في العمق المكاني والاجتماعي، شريطة أن تنخرط أشياء وأمكنة المدينة وأحوالها وفصولها في سيرة الشعر وما تحفل له من أغطية تخييلية:
النعش يهتز فوق الأكف
ويعلو ذراعين
أنظر!
ملائكة في الهواء
أتبصرهم؟
أتبصر تلك الطوابير:
أحصنة
أم ترى
بشر بقوائم أربع
أغربة وخفافيش
أجنحة لطيور تحط
وأخرى تطير
وفي آخر الموكب الآن
يأتي النخيل بشعره
إن الشاعر يؤمن حضوراً آخر للشعر، متمثلاً بالنبض الشعري العميق المتخفي خلف الظاهرة المرئية، بعبارة أخرى أن الشعر في هذه التجربة يوهمنا بأنه منشغل باليومي والعقلاني غير انه الأكثر افتقاراً إلى العقلانية، انه يجيد الرقص بالأقدام والأفكار والكلمات، بمعنى أن فاعلية الشعر في النصوص تتحول إلى فاعلية منتجة في محيط تخيلي، ومفككة لتماسك الشعر مع الذات في سياق متنقل بين الأمكنة والأشياء والمسافات وتناوب الفصول:
بأغانينا
نسحب النهار إلى الليل
وآلامنا إلى النهر
ونغتسل عائدين
بأقدام أخف من الهواء
واذرعة أسرع من ضربات الطبول
————–
————–
يرحل النهر مبتعداً
يحمل الناس
تدنو الضفاف
تدنو الظلال البعيدة
والليل يدنو
وتستعر النار
أصفر لون السماء
الصناديق صفراء
ليل الچراديغ أصفر
والطبل يقرع
إن ثمة أربع وجوه طقسية تتشاطر البيئة المتباينة لمدينة (صبخة العرب) وتتسبب في انتقال أمكنة المدينة من طور لآخر، فالصيف هو رمز لتحول المكان واتساعه، أما سيرة المكان الصيفي فتكمن في داخلها رغبة في الاتساع، أملاً في الانفلات من الحيز المكاني الضيق، أن الصيف الذي يلهب طرقات المدينة يكفل اتساعها المرئي عبر سطوح بيوتها، وانحناءات طرقاتها وخصوصية الأجساد البشرية وبرانية وجودها الملتحمة مع إغفاءاتها عن علو، وارتفاع مآذنها الصادمة لحدقات عيون من يترقب:
في الليل
تمتلئ السطوح بالبشر
والسماء بالنجوم
ويتكئ القمر على السياج
السطوح طرق
تهبط وترتفع وقد تتعرج
وتستوي ثانية
ثم
فجأة:
مئذنة
بوسعنا القول أن تجربة (مجموعة صبخة العرب) للشاعر عبد الكريم گاصد هي تعبير عن عودة سعيدة إلى الطفولة، ولكن هدفها التعرف على قسوة الزمن، وما حمله من دورات قاسية، وعسيرة على التقبل بعد أن طال الشوط وبعدت الغاية، وأصبح واضحاً أن ما ندركه في النصوص لا يعد وان يكون سوى صورة متبقية من أرث مدينة ظلت على الدوام تطلق شحناتها الإرسالية في الشعر خلف حدود الزمان والمكان.