18 نوفمبر، 2024 3:27 ص
Search
Close this search box.

الانتفاضة الشعبانية1991.. مشاهد ميدانية من الذاكرة – 1

الانتفاضة الشعبانية1991.. مشاهد ميدانية من الذاكرة – 1

22 سنة مرت على احداث مايسمى الان “الانتفاضة الشعبانية “.، و” صفحة الغدر والخيانة ” سابقا . ولا يعنيني ماكتب ومايكتب عنها بين من يجعلها بمثابة الثورة الوطنية وبين من لا يكرسها الا تحرك محدود عشوائي بدفع ايراني فشلت في مهدها بقدرما يعنيني مشاهدتي الحية لحوادثها في البصرة والعمارة وتحليلي لها من هذا المنطلق .
مما لا شك فيه – وبعيدا عن أي موقف سياسي- هناك حقوق ومصالح حيوية للعراق في الكويت جغرافية وتاريخية ونفطية وبحرية وكل من يقول خلاف ذلك يكون غير منصف . الا ان المغامرة العسكرية الغير محسوبة النتائج للنظام السابق اطاحت بهذه الحقوق وتسببت في سلسلة من الكوارث للعراق اضعفته عسكريا وسياسيا وحضاريا حتى انتهت بالاحتلال والتخريب الجاري على قدم وساق حتى هذه اللحظة .
في الساعة الثانية من فجر 17 ك2 1991 نطق وزير الدفاع الاميركي ( ديك جيني ) بكلمة السر ( سليمان ) معلنا بدء عاصفة الصحراء ومستهلا اكبر حملة قصف جوي منذ الحرب العالمية الثانية بواسطة 3000 طائرة حربية من الخط الاول لمدة 38 يوما لحين بدء الهجوم البري في 25 شباط . وتزامن ذلك مع حرب نفسية شديدة واعلام غربي وعربي موجه لكسرارادة الجندي والمواطن العراقي على السواء .
وحين جاء الانسحاب في غير سياقه العسكري الصحيح وعدم وصول الامر الى قطعات كثيرة وفي مهلة زمنية قصيرة حدث ارتباك كبير وسرعان ما اكتظ الطريق الوحيد من الجهراء للبصرة ( 100 كم) بالاف العجلات والدبابات ومئات الاف القطعات المنسحبة فاستغلت قوات التحالف الفرصة لتدمير وابادة الارتال العسكرية والمدنية العراقية فسمي بـ “طريق الموت” . واستمر القصف والقتل حتى بعد سريان وقف اطلاق النار الامر الذي يؤسس لجريمة ضد الانسانية ، لكن على من تقرأ مزاميرك ياداود اذا كان المجرم اميركا والضحية بلد من العالم الثالث .
وصلت القطعات متعبة ومنهكة وجائعة وناقمة وتكدست على طريق الزبير ساحة سعد ومن هذه الى طريق بعداد . وفي عين الوقت كان المواطن يعاني من 45 يوما من القصف المتواصل الذي مزق الطرق والاتصالات واحل الظلام وامات كل مظاهر الحياة . ومع انهيار مؤسسات الدولة وتراخي القبضة الامنية والضبط العسكري فقد كان من الممكن ان يتحد غضب العسكري والمدني مع وجود السلاح وحالة اللاخوف وغياب الدولة وينتج انتفاضة وطنية تغير الوضع ولخلص العراق من كل المأسي التي تلت . لكن ماحدث جاء للاسف ليكمل سلسلة الكوارث وليصلنا الى يومنا الحالي بسبب عباء البعض والتدخل الخارجي ونعبر عن توالي الحوادث بالمشاهد الاتية :
المشهد الاول
في حين تلاشي الخوف من سلطة وبطش اجهزة الدولة خرج في ليل 1 اذار بضع مئات من الناس الى الشوارع يعربون عن نقمتهم – تزامن ذلك مع فلتان اعصاب بعض الجنود واصبحوا يعبرون عن سخطهم لما لحقهم من عار وهزيمة ومهانة وهم منتسبو قوات مسلحة  خرجت قبل سنتين من من حرب ضروس منتصرة ، وصرت تسمع علنا السباب واطلاق النار في الهواء وعلى صورة للرئيس في ساحة سعد او في منطقة قريبة . في هذا الوقت بالذات بدأت مجاميع اخرى يبدو انها موجهة او حلايا نائمة  بالتسلل الى تجمع القطعات ليلا مع الظلام وتساوم الجنود على بيع اسلحتهم من بنادق وبيكيسيات وقاذفات اربي جي ورمانات يدوية واعتدة حتى وصل سعر البندقية 10 دنانير ، او مجرد اجرة سيارة الى احدى المحافظات ، في حين كان بعض الجنود يبيعون اسلحتهم مقابل نقلهم من التنومة الى الضفة الاخرى لشط العرب حيث كانت هذه نقطة العبور الوحيدة . وحدث نفس الشيء في كراجات العمارة والناصرية في مساومة الجنود المنسحبين الى محافظاتهم لبيع اسلحتهم . وفي حين كانت تحركات المتظاهرين عفوية كانت تحركات هؤلاء مخططة .
المشهد الثاني
بدات المظاهرات تكبر وتتجمع بعد منتصف الليل في مناطق الحيانية والجمهورية على الطريق الرئيسى بغداد ساحة سعد وفي الفجر بدأنا نسمع اصوات الاشتباكات تقترب حيث تمت مهاجمة مقرات الحزب في حي الجمعيات القريب من الحيانية ثم هوجمت مراكز الشرطة واحرقت وقتل منتسبوها ، وتحركت الهجمات الى جامعة البصرة وقتل 4 اساتذة كانوا فيها ( منهم د كاظم الجابري من كلية الادارة والاقتصاد ، وعبد الامام خضر من المعهد التقني ) . ومع الصباح تقدمت الجموع نحوالسجن المركزي فقتل الحراس واطلق سراح المسجونين حتى من المحكومين بجرائم سرقة وقتل واغتصاب . واستمرت مهاجمة المدارس والمقرات الحكومية والامنية  والحزبية والشرطية واسر وقتل منتسبيها طيلة اليوم الثاني والثالث .
كانت المجاميع المسلحة الاخطر في منطقة التميمية بقيادة بائع سمك يدعى ” وليد عبد الزهرة السماك وولديه ( احدهما قتل في الاشتباكات وثأرا لهم تم اعدام 38 اسيرا من منتسبي مخابرات البصرة بعد ان تم مهاجمتها في منطقة الرباط واحتجزوا في حسينية التميمية والاعدام جرى في داخل الحسينية ) ، ثم قام عبد الزهرة هذا وجماعته بمهاجمة مركز شرطة 5 ميل واحرقوه بعد قتل من كان موجودا من الشرطة . وهكذا نرى في هكذا ظروف ناس يصعدون من القاع ليقودوا التحرك الجماهيري ويجعلوه مجرد حفلات للذبح والحرق والانتقام دونما هدف سياسي او اجتماعي وما ظاهرة ابو درع وغيره الا استنساخ لظاهرة وليد السماج .
المشهد الثالث
لا حظنا ان المظاهرات في اليومين الاوليين ضمت خليط من الناس : شباب ومراهقين واطفال ورجال كهول وحتى بعض النساء، بعضهم يهتف ضد النظام والبعض الاخر مسلح ويطلق النار على البنايات وفي الهواء ولكن كنا نرى اضافة لهؤلاء نوعين اخرين من الجمهور : الاول مختص بكسر اقفال المحلات والمدارس والمستشفيات والدوائر الاخرى بهدف النهب والسرقة ( تم نهب مخازن المواد الغذائية في 5 ميل وفي النشوة في الدير ومخازن الاخشاب والحديد وغيرها ) . لكن النوع الثاني الاخطر من الجمهور وهو قليل العدد كان يمشي في مؤخرة المظاهرة وسحنهم تدل على انهم ليسوا من مواطني المحافظة وبعضهم لا يعرف العربية بل كانوا يوجهون اوامر بالاشارات ، وكان هؤلاء مختصون بحرق كل المقرات الحكومية والخدمية بعد ان يتم نهبها من القسم الاول . وهذه ظاهرة تكررت بعد الاحتلال الاميركي عام 2003 ، فما هو الهدف الكامن وراء أية انتفاضة شعبية كما يزعمون في نهب وحرق ممتلكات عامة ، حيث نهبت حتى المستشفيات ومذاخر الادوية .
   في منطقة التنومة المحاذية لايران اصبح هناك اكبر تجمع للمسلحين وصرت ترى علنا مقاتلي منظمة بدر التي عبرت ايران في اليوم السابق واصبحت التنومة مقرا لقيادتها ، كما دخلت اعداد كبيرة من العراقيين ” التوابين ” من ايران واخذوا يوزعون الاف الصور للشخصيات الدينية الايرانية ولمحمد باقر الصدر (وهنا صرت تسمع شعارات اقامة الدولة الاسلامية كهدف لم يكن موجودا في التظاهرات السابقة ) وقد ارسل باقر الحكيم اخاه عبد العزيز الذي خطب في مقر المجلس الاعلى في التنومة حيث تم تجميع اسرى الجيش واعدا بمساعدة ايرانية قادمة وتاسيس الدولة الاسلامية الشيعية . في نفس الوقت كان عدة مئات من بدر قد تسللوا الحدود من مناطق الهور والمشرح في العمارة لنفس الغرض وكنا نرى مع كل مجموعة منهم ضابطا او اكثر ايرانيا من الحرس الثوري يعطي اوامره اليهم وتم تشكيل محاكم من رجال الدين فاصبحت احكام الاعدام تصدر وتنفذ ميدانيا فورا .
المشهد الرابع
لم تكن المجاميع المسلحة منضبطة ولم تكن موحدة القيادة والارتباط وفشلت المجاميع القادمة من ايران في جمعها بشبكة واحدة – لذا كان ولائها واعمالها وشعاراتها مختلفة واحدة عن الاخرى( مما سهل بعدئذ دحرها بسرعة )، ولغياب القيادات السياسية المتعلمة ، وانكفاء المثقفين عن المشاركة ، بدات كل مجموعة تبحث عن رجل دين محلي ( سيد) لتوليه قيادتها . وهنا حدثت مواقف طريفة . ففي احدى السيطرات المنصوبة على الطريق بين قلعة صالح والمجر تم ايقاف صديقي الجندي الارمني ( فاجيا)بعد مسيرة راجلة لـ 12 ساعة ومنعوه من المرور الا اذا جلب ( سماح مرور من زعيمهم الديني ) في القلعة ولم تفده مسيحيته ، فرجع المسكين 30 كيلو الى ان وجد السيد وحصل على الوثيقة وحين وصل السيطرة وابرز الوثيقة اخبروه انهم سيطرة جديدة وهم لا يتبعون هذا السيد وعليه جلب سماح من سيدهم الجديد ؟؟؟ فتصوروا الى اين تاخذنا مثل هذه الانتفاضات ومثل هكذا منتفضون ؟
المشهد الخامس
   بدأنا نرى ان المشتركين في المظاهرات والهجمات بدأ عددهم ينخفض بشكل كبيربعد 3 ايام . وسبب ذلك ان كل من خرج من اجل النهب والفرهود قد رجع الى بيته بعد ان افرغت كل مقرات الدولة ، وان من خرج من اجل التغيير بهدف الاصلاح السياسي راعه ما شاهده من عمليات ذبح وقتل وحرق لم تكن في حسبانه فشاء الابتعاد لان التغيير على يد هؤلاء سيكون اتعس مما هو موجود , واستمر في الاعمال المسلحة من تورط ولم يعد باستطاعته العودة واولئك القادمون من ايران . واذكر هنا ان احد المثقفين الذين اندفعوا اول يوم مع المتظاهرين جاءني ثالث يوم ليسلمني امانة  ويقول انه ذاهب الى بغداد لايصال عائلة ضابط شرطة من بغداد تم اغتياله على ايدي مجموعة من بدر في مركز احد النواحي وانه متبرئ من هذه الحركة التي لم ير منها الا سفك دماء ولعل ايصاله لعائلة الضابط الشهيد الى اهلها في تلك الظروف الصعبة تشفع له لانه تنبا بان “النظام سيقضي على هكذا مجاميع بسهولة بعد ان ابتعدت عن الشعب بل واغتالت اماله ومطالبه” على حد قوله وفعلا هذا ماحدث . وقد نجا هذا المواطن من عدة حوادث قتل على الطريق من قبل المجموعات المسلحة التي تعقبت كل عسكري لقتله خاصة من ينتعل حذاءا احمر اللون ( دلالة على انه ضابط او نائب ضابط ) وكأن جيش الوطن هو عدوها وهو الخارج توا من سعير الكويت ولاقى مالاقى … ادع تفسير ذلك لنباهتكم ، وهو امر كان له تأثيره في فشل حركتهم فيما بعد ، وكانهم لا يتعلمون من التاريخ فجاءوا سنة 2003 ليعيدوا نفس المقتل ، وكانهم اما لا يتعلمون من الحياة والتاريخ شيئا ، او انهم موجهون اليا من الخارج باتجاه يخافوا ان يحيدوا عنه .
في الحلقة القادمة سنستكمل بقية المشاهد وخلاصة تحليلنا لفشل ” الانتفاضة”

أحدث المقالات