22 ديسمبر، 2024 8:48 م

الانتفاضة الشعبانية وهندسة المصالح الامريكية

الانتفاضة الشعبانية وهندسة المصالح الامريكية

كشفت ثورات ما يسمى بــ(الربيع العربي) التي انطلقت عام 2011 عن حقيقة مفادها ان الارادة الشعبية يمكن ان يكون لها موقف من المسار السياسي للدولة، وانها يمكن ان تعيد رسم خارطة الانظمة السياسية في الدولة العربية، ومع غض النظر عن الموقف من هذه الثورات ومدى واقعيتها، والاسئلة التي اثيرت حولها من انها كانت ثورات حقيقية ام انها كانت عبارة عن عملية توظيف لمعانات الشعوب العربية ادركت من خلالها دول المصالح الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية بانها على ابواب تكرار تجربة السبعينات عندما فقدت بريطانيا مكانتها في منطقة الخليج واعلنت انسحابها منه، وايضا الولايات المتحدة الامريكية عندما تمكنت الارادة الشعبية حينها من ايقاف النفوذ الامريكي على احد جانبي الخليج بإسقاطها لنظام الشاه في ايران.
عندما نستذكر احداث العقود الثلاث الاخيرة من القرن الماضي ( السبعينات والثمانينات والتسعينات ) نجد بانها كانت تمثل نقطة تحول مهمة في النظام الدولي انذاك وان الثنائية القطبية باتت في طريقها الى الزوال، وان على الويات المتحدة الامريكية ان تعمل على اعادة هندسة المنطقة بالمستوى الذي يضمن لها الوصول الى هذه المرحلة وهي على اتم الاستعداد.
ومن ابرز احداث هذه العقود الثلاثة والتي يمكن ان نعتبرها من مرتكزات الهيمنة الامريكية في المنطقة هو تزامن الغزو السوفيتي الى افغانستان والثورة الاسلامية في ايران، اذ لايفصل بين الحدثين سوى اشهر قليلة (9 أشهر تقريبا) ، اضافة الى الغزو العراقي للكويت والثورة الشعبية في العراق (الانتفاضة الشعبانية المباركة) وايضا لايفصل بينهما الا شهور قليلة (6 اشهر تقريب)
وجدت الولايات المتحدة الامريكية في الاحتلال السوفيتي لأفغانستان تحقيق لأهداف عهد القياصرة الروس في القرون السابع عشر وما بعده في الوصول الى المياه الدافئة، وتزامن هذا الاحتلال مع خروج ايران عن الهيمنة الامريكية والذي اعتبرته هو الاخر تهديدا لمصالحها. لذا ابتعدت عن المواجهة المباشرة مع الاتحاد السوفيتي في منطقة الارتدام ومقتضيات نظرية المجال الحيوي، وركزت على المدرك الشعبي في التعامل مع هذه الازمة من خلال اعادة هندسة الوعي للشعوب الاسلامية عموما والعربية على نحو الخصوص تجاه الغزو السوفيتي فقامت بتحويل الصراع مع السوفيت من الصراع الايديولوجي الفكري، الى الصراع الايديولوجي الديني (الاسلام والكفر) مستقطبة في هذه الهندسة شباب المسلمين لصناعة قوى عسكرية خارج الدولة يمكنها ان توظفها متى تشاء واينما تشاء.
وفيما يتعلق بالأزمة الايرانية فقد استطاعت الولايات المتحدة الامريكية ومن خلال ادواتها في المنطقة ان تمارس نفس الدور في التصدي للثورة الشعبية في ايران حيث فرضت حصارا اقتصاديا على ايران، اضافة الى توريط العراق بالدخول في حرب مدعومة اقليميا استمرت لثماني سنوات انهكت اقتصاد البلدين فضلا عن التضحيات البشرية الكبيرة والهائلة. وربما يمكن اعتبار دخول السفن الامريكية الى الخليج بدعوى حماية السفن النفطية من اكبر المكاسب الامريكية لهذه الحرب.
في عام 1988 توقفت الحرب العراقية الايرانية ليتحول العراق الى مصدر قلق لدول الخليج، وبالمقابل انسحاب السوفيت من افغانستان اذ تحولت الفصائل الجهادية المدعومة امريكيا الى عدو جديد، وقد تلقت الولايات المتحدة الامريكية (الضربة الاولى) من العراق عندما غزا الكويت عام 1990، واما الضربة الثانية فقد كانت بأحداث 11 ايلول والتي تحولت استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية نحو الاستعداء تجاه العراق والجماعات الاسلامية التي قامت بصناعتها(تنظيم القاعدة)
وتعد الانتفاضة الشعبانية واحدة من اخطر الاحداث التي رات فيها الولايات المتحدة الامريكية بانها تمثل نحوا من انحاء التهديد لمصالحها، اذ جاءت الانتفاضة الشعبانية كتعبير جماهيري عن السخط من سياسات نظام الحكم البعثي القائم على الاستبداد والقمع والتغييب والاقصاء والتهميش، وان هذا النظام لاينظر الى مصالح الشعب العراقي بمقدار ما ينظر الى مصالحه، لذا اغتنم الشباب الثائر والمنتفض اعلان التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والمكون من اكثر من ثلاثين دولة عربية وعالمية حربا لتحرير الكويت، والهزيمة النكراء التي تسببت بها القرارات غير المدروسة والرعناء للحكومة العراقية فانطلقت مع بداية شهر اذار في مناطق الشمال والجنوب ابتداءا فاستطاعت خلال اسبوع واحد ان تنتزع اكثر من نصف المحافظات العراقية، حتى وصلت الانتفاضة الشعبانية الى بغداد. استطاع الشباب الثائر ان يسيطر على العديد من الثكنات العسكرية ويستولي على الاسلحة الموجودة فيها، اضافة الى الاسلحة التي خلفتها القوات العراقية في مواقع تمركزها في المحافظات.
على المستوى الاقليمي والامريكي تم قراءة هذه الانتفاضة على انها تمثل تهديدا للمصالح الامريكية من جهة، ومن جهة اخرى تمت قراءتها على انها نوع من انواع التوسع المذهبي لإيران، لذا وبعد ان اجتمعت المصالح الامريكية والمصالح الاقليمية تم منح النظام العراقي الضوء الاخضر لضربها لاسيما وانها قد حصلت على كل الضمانات من هذا النظام على عدم تكرار تهديده لها وكما جاء في وثيقة الذل التي وقعها النظام في خيمة سفوان مع الجنرال شوارسكوف قائد التحالف الدولي ضد العراق.
وبالفعل تم اعطاء الضوء الاخضر فانطلقت قوات النخبة الموالية الى السلطة وبإشراف مباشر من اخوة وابناء صدام حسين لضرب هذه الانتفاضة بكل قوة ولم ينجو منها طفل او امراة او كبير السن بل حتى النبات والجماد ودور العبادة والمراقد المقدسة لم تسلم من هذه القوات التي تم منحها سلطت اصدار الاحكام الانية وتطبيقها لذلك قامت بإعدام المئات، وفجرت اجساد العديد من الشباب بالديناميت، اضافة الى اقامة العديد من الحفر الكبيرة والعميقة والتي القت فيها ابناء الشعب العراقي وازاحت عليهم التراب فيما عرف لاحقا بالمقابر الجماعية، وقد ظهرت هذه الاحداث لاحقا على وسائل الاعلام موثقة بأدوات النظام السابق الاعلامية، فضلا عما اكتشفته فرق التحري واللجان التحقيقية الدولية في اغلب محافظات العراق.
ان هذه الانتفاضة الشعبانية كانت تحمل رسالة واضحة ومؤكدة لما قاله شوارسكوف في مذكراته من الامر لايحتاج الى بطل، نعم اثبت الشباب المنتفض بان ازاحة هذا النظام لايحتاج الى بطل، ولايحتاج الى قوة عسكرية مدربة ومجهزة فضلا عن جيوش متعددة، بل ان كل ما يحتاج اليه هو قليلا من العدلية الانسانية التي تنظر بعين الاستحقاق الى طموحات الشعوب ورغبتها في تقرير مصيرها، اضافة الى الصبر والاخلاص من قبل المتصدين للتغير المقترن بمشروع اصلاحي حقيقي لنهضة الامة وخلاصها. الا ان المدرسة الواقعية لاتنظر الى مثل هذه الامور وانما تخضع الفعل السياسي لمنطق المصلحة لذا تسعى هذه المدرسة الى البحث والتنقيب عن كل ما يمكن ان يساهم في تحقيق مصالحها، ومن هذا المنطلق تحركت الولايات المتحدة الامريكية لاعادة هندسة الصراع مع كل ما يهدد مصالحها، وتوظيفها للدين كاحدى ادوات الصراع الثقافي، ولعلنا من خلال هذا ندرك كيف ظهرت نظريات الصراع الثقافي الحديثة مثل نظرية صراع الحضارات التي جاءت في بعض تفسيراتها ردا على نظرية فرانسيس فوكاياما (نهاية التاريخ) والتي يمكن اعتبارا عملية التأطير النظري لسياسة الولايات المتحدة الامريكية الخارجية في تعاطيها مع الازمات التي واجهتها منذ سبعينات القرن الماضي وحتى الان فبعد ان كانت هذه النظرية عبارة عن مقال تم نشره عام 1993 تحول في عام 1996 الى احدى النظريات الاستراتيجية للسياسة الخارجية الامريكية لتنشر الحرب والدمار والدولة الفاشلة. وحروب التواصل الاجتماعي.