22 ديسمبر، 2024 10:19 م

الانتفاضة الجزائرية تتقدم بثقة نحو أهدافها المنشودة

الانتفاضة الجزائرية تتقدم بثقة نحو أهدافها المنشودة

تتقدم مسيرة ومطالب الحراك الشعبي في الجزائر بخطوات واثقة ؛ مؤمنة بقدرتها على التغيير السلمي الذي ينشده الشعب الجزائري. وصارت مسيرات الحراك الشعبي تتجذر في عمقها واتساعها، تتبناها أغلب القطاعات الشعبية، انضمت إليها أبرز النخب الوطنية، ومن كل الفئات والطبقات الاجتماعية .

تجلت قوتها المتصاعدة في تحدي الكثير من الصعاب خلال أيام الأسابيع الثلاث الأخيرة، متجسدة بالخروج الجماعي والمكثف للمواطنين، ولساعات طويلة، شملت كل قرية ومدينة وولاية جزائرية من أقصى الساحل شمالا حتى تخوم البوادي والصحراء العميقة

. وعلى مدى أيام الأسبوع، ومن دون توقف،استمرت المسيرات والتظاهرات والتجمعات الشعبية، وليست مقتصرة في أيام الجمعة فقط، كما يظن البعض؛ فما بين كل جمعة وأخرى، تخصصت التظاهرات وتنوعت وتجمعت بشكل طوعي وتلقائي وهادئ وسلمي، حتى بلغت في الوصول إلى مستوى التنظيم المليوني، في عديد المدن الجزائرية، وأذهلت العالم في حسن تسييرها والسيطرة على الحشود والالتزام الصارم في ضبطها. كما غطت المسيرات كل أركان وشوارع الجزائر بكل محافظاتها وولاياتها الكبرى وخاصة العاصمة الجزائرية.

تظاهرت القطاعات المهنية والنقابات الحرة والمجموعات غير المنخرطة في هياكل تنظيمية، جنبا إلى جنب مع مجموعات النخب العلمية والأكاديمية، وخرجت مجموعات هامة من الجزائريين في مظاهرات قطاعية ومهنية، كلها كانت ترفع لافتات مطلبية باتت واضحة ومحددة الأهداف. بدأت أولا تدعو إلى رفض العهدة الرئاسية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة؛ ثم بدأت ترفع مطالبها تدريجيا للوصول إلى سقف المطالب، بتغيير النظام، حيث أجمعت في انطلاقتها الأولى على رحيل النظام، بشخص الرئيس ومجموعته ومقربيه، وتداعت المطالب حتى إلى مطلب تغيير النظام برمته، ومنها ما دعت إلى مكافحة الفساد الإداري والمالي.

إن أهم ما يطرح وسط هذا الزلزال الجماهيري الكبير هو التمسك بحماية وحدة واستقلال ومستقبل الجزائر ورفض التدخل الخارجي بأي شكل كان، ومن أية جهة كانت، حتى أن جولة وزير الخارجية ونائب رئيس الحكومة الجديدة رمطان عمامرة إلى عدد من الدول الأوربية وروسيا وتوجه الأخضر إبراهيمي الى الصين، رفضت شعبيا واتهمت النظام والوزير عمامرة بمحاولات تدويل الأزمة الجزائرية.وهو ما يرفضه الحراك الشعبي بالمطلق.

ظلت المطالب تشدد على الحرص على المحافظة على مؤسسات الدولة وحمايتها من التخريب الذي قد ينالها ، كما حدث في بلدان الربيع العربي وتجاربها المرة، دعت التظاهرات إلى الاحتراس الشديد ورصد الأخطاء ، والحفاظ على السلم الاجتماعي، والتصدي لأي تدخل دولي في الشأن الجزائري ، ورصد الدعوات المشبوهة المطبوخة في الغرف السوداء ويروجها الذباب الالكتروني المشبوه لدفع الشارع إلى الصدامات الداخلية، وبدوافع مغرضة يروج لها البعض داخل الحراك، ويحاول استغلالها ، داخليا كان أم خارجا .

وقد تم تحييد قوى الأمن والشرطة التعامل الطيب مع الشارع، وهي قد قابلته بالمثل، وكان التخوف سائدا لدى قطاعات شعبية واسعة من جهاز الدولة العميقة، فتبنت الجماهير خيار سلمية المظاهرات وعززت حميميتها المتآخية بين الجميع في الشارع والمؤسسات .

كما حرصت المؤسسة العسكرية الوطنية على تجنب اللجوء إلى استغلال الأوضاع المضطربة في البلاد، فتحاشت الدفع بأجنحتها إلى استغلال فرص الانقلاب العسكري، التي دعا إليها البعض؛ ولكي تتفادى أخطار التدخلات الأجنبية ، وخاصة الفرنسية منها، والأمريكية والغربية، وتدخلات بعض الدول الخليجية من خلال بث إعلامها الخبيث، الذي يوحي بدعم بعض أركان وإطراف من السلطة والنظام.

أغلب الشعارات يتم إقرارها وصياغتها والتعبير عنها بكلمات شعبية، بسيطة وواضحة المقاصد؛ وباللهجات الجزائرية الدارجة، ومنها ما سمعت وهي مطعمة بكلمات وعبارات بالفرنسية، وقد تجاوب الجمهور معها ورددها الشباب خاصة، طالما أنها كانت صادقة ونابعة من تراث والحان وغناء الفولكلور الشعبي الجزائري؛ كما طعمتها أهازيج والحان وهتافات أنصار الفرق الرياضية الجزائرية المعروفة في الملاعب، ويتم ترويج الشعارات عبر الهتافات، لحنا وصوتيا ونقلها عبر وسائط التواصل الاجتماعي لتصل إلى أسماع وجمهور واسع في بقية المدن الأخرى، وحتى إلى الجاليات الجزائرية في الخارج .

يظل القاسم المشترك الأعظم لكل جمهور الانتفاضة والحراك الشعبي هو التركيز على وحدة الصف الوطني واعتبار حضور العلم الجزائري رمزا للوحدة الوطنية، والتمسك بتراث وثوابت ثورة نوفمبر 1954 والاعتزاز بأسماء الشهداء وتاريخ الثورة، في بلد المليون ونصف المليون شهيد والافتخار بمآثر الجزائر الثورية والموقف من جرائم وتاريخ احتلال فرنسا المخزي في الجزائر طوال 132 عاما .

تمكن إعلام الانتفاضة بصبر وإرادة وفعالية واستمرارية من كسر أطواق الحصار الإعلامي الدولي وحتى المحلي، واختراقه بكل وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أوصل جمهور الانتفاضة صوته وصورته البهية الناصعة إلى كل دول العالم؛ وبصورة شفافة وجميلة، جمعت تعاطفا واحتراما عالميا للشعب الجزائري ، فمن خلال صفحات الفيسبوك والنقل المباشر للمسيرات عبر الفيسبوك تم تسجيل وتوثيق ورصد ونقل كل أخبار الأحداث في كل المسيرات وبكل المدن، ويوما بيوم، ولحظة بلحظة ، حملتها صور وتسجيلات الهواتف النقالة والكاميرات التلفزية الخاصة والعامة.

تشكلت خلايا إعلام الانتفاضة والحراك الشعبي، عفويا وتلقائيا، مستندة على جهد وعمل ومواظبة مجموعات شبابية ،غير منتظمة بإدارة أو تنظيم مركزي يوجهها، لكنها بدت أنها كانت متعلمة ومتمكنة من استخدام الانترنيت وتقنيات التواصل، وهي تعمل دون مقابل، متطوعة، وعلى مدار 24/24 ساعة.

يشترك فيها ويغذيها فنانون وشعراء وكتاب وإعلاميون جزائريون، منهم عملوا بأسمائهم الصريحة، كي يكسروا حاجز الخوف والتردد. وقد أنتجوا الكثير من المقاطع الصوتية البصرية وأفلام الفيديو، التي تتسم بالسخرية من النظام ونقده اللاذع، وتعرية بعض الأسماء والشخصيات، التي وصفت بالفاسدة، ووزعت تلك

الشعارات المكتوبة تمت صياغتها بذكاء جزائري مبدع فعلا، وتناقلها الشباب بحضور فردي وجماعي لافت للنظر.

تواجدت واستمرت المظاهرات والمسيرات على مستوى المؤسسات وفي الشارع وفي مراكز المدن وخاصة أمام مقرات الولايات والسلطات المحلية والإدارية والمؤسسات ذات الصلة بالتظاهر، كالمحاكم والمجلس الدستوري ومؤسسة التلفزيون الحكومي ومقرات المراكز الإعلامية الخاصة، لدعوتها الى المشاركة.

ضمت التظاهرات يوما بعد يوم شخصيات جزائرية متميزة، وقادة رأي، ونخب علمية وأكاديمية وسياسية وكوادر معروفة ومحترمة، شكلت بمجموعها هنا وهناك نخبة وطنية رصينة، رافضة للنظام السياسي القائم وللحكومة، ضمت أعدادا كبيرة، حرصت على الظهور العلني ونقلت مشاهد ومواقف حضورها ومشاركتها على صفحات الفيسبوك، حتى بلغت بتعدادها عشرات الألوف، غالبيتهم من أعضاء نقابات المحامين والقضاة وأساتذة التعليم العالي والأطباء ومساعديهم والإعلاميين، وكثير من المستقلين من الرجال والنساء، وربات البيوت وبعض من نشطاء منظمات المجتمع المدني، ومن مختلف الأجيال.

كما انضمت إلى الحراك المدني الشعبي قطاعات شبه حكومية، ومنها قوى أمنية ، لم يمنعها ارتداء بزاتها الرسمية من النزول إلى الحراك ، مثل مصالح الحماية المدنية؛ والجمارك، كما انضم إليها أفراد من عناصر الشرطة والأمن العسكري، وكم كان المشهد رائعا وجميلا، عندما يحتفل الجميع بكل نهاية مسيرة أو تظاهرة، بالمصافحة، وبالقبل وتبادل الورود وتقاسم الخبز أو التمر أو الحليب وقناني المياه.

وهكذا باتت كل مسيرة ولها طقوس جميلة يصنعها جمهور أغلبه من الشباب يعد نفسه يوما بعد يوم ببلوغ وتحقيق هدف نجاح وسلمية التظاهرات رغم كثافة حشودها،كان الحرص على نظافة شوارع وأماكن التظاهر والمسيرات أن يعكس الجانب الحضاري بمبادرة الشباب على تنظيف تلك الأماكن.

لقد تراجع تماما ذلك الخوف والرهبة من السلطة، وسار الناس بثقة في تظاهراتهم، مستبعدين حدوث العنف أو احتماله في كل مسيرة، وفي كل أرجاء البلاد وخارجها. ووصل الأمر هالى أن كل فئات السكان التي ضمت عمال وفلاحين وكسبة وبطالين ومهنيين وربات بيوت، وحتى العجزة ومن فئات مقعدة من ذوي الاحتياجات الخاصة تماهت بينهم كل الحواجز الفئوية والطبقية والثقافية والمستويات العليمية بوحدة شعبية تبشر بالخير للجزائر.

كما انضم إلى يوميات الحراك، المعلمون وأساتذة الثانويات ومدربي المراكز المهنية والحرفيين، وتبعهم في كل حالة ألوف من تلاميذ الثانويات، وحتى بعض المدارس الابتدائية، بحراسة من معلميهم والمشرفين عليهم ، كما شاركت قطاعات عمالية هامة، منها تمردت على موقف النقابات المركزية التي عارضت بعضها الحراك، وظهرت نقابات مستقلة ، بوزن كبي في فعاليات الحراك، ومنها دعت إلى إضرابات في مؤسسات مهمة، تشكل عصب الاقتصاد الجزائري كشركة النفط الوطنية ،سوناطراك وبعض المؤسسات النفطية والغازية، وفي مؤسسات صناعة السيارات والغاز والطاقة ومعمل الصلب في الحجار بعنابة، فنظمت بعض النقابات إضرابات رمزية، قطعت فيها تواصل إنتاج البترول والغاز لبضع ساعات، وهي بمثابة إنذارات بالتصعيد القادم، إن لم تلبى المطالب الشعبية للحراك.

كما رفضت الجماهير بشكل واسع دعوات اللجوء إلى الإضراب العام والعصيان المدني، طالما إن الحراك الشعبي، من خلال مسيراته السلمية المتواصلة، يتقدم بخطى واثقة نحو فرض قوته وإرادته ويجبر السلطة على الاستماع لمطالبه المشروعة.

وهنالك قطاعات عمالية تهدد ألان بإيقاف نشاط المطارات والموانئ والنقل العمومي، إن اقتضى الأمر لذلك، بعد استنزاف فرص الحوار مع السلطة. وكلها ملامح حالة لتبلور وعي شعبي ناضج ومتحضر وينتظم يوما بعد يوم في هيئات قيد التأسيس وإعادة الهيكلة.

حذر الناس ومن جميع القطاعات يتركز على منع محاولات التلاعب بالحراك أو حرفه أو استغلاله لأية جهة أو جماعة، والحذر أيضا من التفاف السلطة على المطالب الشعبية أو تمييعها ، وكسب الوقت، وهي في حالة تراجع واضح ، مشتتة الجبهات بمواجهة حراك شعبي موحد .

وثوقية الوعي لدى نشطاء الحراك تتعزز، وتتسلح يوما بعد يوم، وصارت واثقة بنفسها وبجمهورها أكثر وبإمكانية صدها لكل المناورات والمحاولات لإجهاض تصاعد الحراك ومنعه من تحقيق أهدافه المنشودة ، وهي تتقدم بأفكار ورؤى عدة وتقدم مبادرات عبر قنوات حوار وطني مطلوب تفعيله، رغم انتظار الوقت الذي بات بطيئا، نظرا لحساسية الشارع وقلقه وخوفه من المجهول.

يشكل موقف الجيش الوطني الشعبي الجزائري حالة الأمل الضامن للحياد بين الجميع، وللحفاظ على مكتسبات الشعب والدولة الجزائرية، وصيانة وحدة الشعب الجزائري، وعدم التفريط بالأمن والسلم المطلوب. وقد حرصت المؤسسة العسكرية على إرسال رسائل مطمئنة لهذه الملايين المنتفضة في الشارع. يؤكد ذلك عديد التصريحات المنسوبة للجيش، ووعده كحامي استقلال الجزائر، وتمسكه الصارم بعدم الانحياز لطرف ضد طرف آخر. ويتعزز ذلك الأمل يوما بعد يوم إلى ميل الجيش نحو جهة الشعب الذي رفع شعار الإخوة مع الجيش والشرطة والدرك والقوى الأمنية من خلال هتاف الحراك الشعبي الهادر : ( خاوه……خاوه )، أي شعار الإخوة بين المدني والعسكري، كما تمت مقاطعة دعوات رئاسة الحكومة الجديدة برئاسة بدوي ونائبه رمطان عمامرة، ورفضت قطاعات وشخصيات هامة الحوار مع ممثلي الحكومة الجديدة ؛ وأفشلت اغلب القوى السياسية والاجتماعية مهمة السفير ووزير الخارجية الأسبق الأخضر ابرهيمي في محاولة إشرافه وتكليفه من قبل الرئيس تنظيم “الندوة الوطنية” التي وردت كوعد من الرئيس بوتفليقة بتنظيم الحوار بين كل الإطراف، وقد برر المقاطعون للحوار مع الحكومة والرافضون للندوة الوطنية الموعودة أنها لا تعدو مجرد وعود من بطانة النظام، ومن الرئيس المغيب، والذي ستنتهي رئاسته في 28 نيسان/ افريل 2019 ، حيث تسعى الحكومة وعصب النظام الحاكم، بكل الوسائل، المماطلة وكسب الوقت.

ورغم استقالة حكومة احمد أويحيى قد أقيلت رسميا وجرى تكليف تشكيل حكومة بدوي ـ عمامرة التي لم تتشكل وتعلن بعد، إلا أن الملاحظ أن الطاقم الحكومي المستقيل بحكومة احمد اويحيى لازال يداوم في الوزارات. ومن الوزراء المقالين لازال هناك من يصدر التعيينات ويجري التنقلات والإعفاء لموظفيه وحسب هواه، استثمار لربع الساعة الأخيرة من بقية فترة استيزاره.

كل الأمور تتعفن على وضع المستوى الحكومي والبرلمان بغرفتيه، الذي ينتظر الحل، وينعكس ذلك الوضع من خلال إعلان العديد من الاستقالات في قيادة ونشطاء الحزبين الحاكمين الرئيسيين ، حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي. وهاهم يفاجئون الشعب الجزائري اليوم صباح الأربعاء 20 مارس/ آذار 2019 وعبر تصريحات متلفزة للمنسق المؤقت لحزب جبهة التحرير بوشارب واحمد اويحيى الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، وهما يعلنان، كل على انفراد، في ندواتهم الحزبية الدعوة الى التحاق أحزابهما بالحراك الشعبي.

كل التوقعات تشير إلى تجاوز التظاهرة الرابعة المتوقعة في يوم 22 مارس/ آذار 2019 المقبل عتبة تعداد 28 مليون مشارك، تنتظم داخل وخارج الجزائر، وهي بمثابة استفتاء شعبي يزكي المطالب الشعبية ويدفع الحراك بخطوات واثقة نحو تغيير هام في الجزائر، اختارته أغلبية فئات الشعب الجزائري وأسهمت في صنعه وصياغة مطالبه جموع الحراك الشعبي.