23 ديسمبر، 2024 9:35 م

الانترنيت والمنظومة التكنو – اجتماعية

الانترنيت والمنظومة التكنو – اجتماعية

الشبكة العالمية للمعلومات (الانترنيت) عالم منفتح الآفاق إلى أبعد الحدود. لم يعد من الممكن رؤية هذا العالم الشبكي مجرد مصدر أو مخزن للمعلومات أو إدارتها وتنظيمها واسترجاعها وقت الحاجة أو مجرد وسيلة من وسائل الاتصالات أو أداة للترفيه والتسلية وما شابه، بل أصبح في معظم الأحيان هو المولّد والمنتج للمعرفة والموزع لها، والمعلم والمثقف والإعلامي والمربي بل والتاجر والمروج والمقرر والمبلور للرأي والمؤسس لبعض القيم في كثير من جوانبه.
لم يشهد التقدم البشري قفزة علمية تقنية كالتي شهدها في العقد الأخير من القرن المنصرم في مداها الواسع وانفتاحها الشمولي على مختلف المدارك البشرية. فقد غمرت ما تعرف بتقنية الانترنيت المحيط العالمي بطوفانها المعلوماتي، وأصبحت في متناول القاصي والداني على حد سواء.
لقد حدث الانقلاب المعرفي في عمق الوجود الإنساني ودلالاته المختلفة في بنياته المعرفية بأنواعهما على مختلف الأصعدة العلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية… لقد دخل الحاسوب بمقدرته الانترنيتية إلى البيوت العائلية فضلاً عن مراكز العلم والبحث والتطوير…
إن إنسان هذا الزمن أمام تحد كبير لم يمر به في سالف حياته قياساً بتسارع الأحداث والتطورات التقنية المذهلة إلى جانب التشكل الاجتماعي الجديد المفروض على مختلف البنى الاجتماعية المعهودة في عالمنا البشري.
من حيث المبدأ، يمكن تأكيد إن منظومة الانترنيت بصورتها التكنو – اجتماعية تمثل الوجه الحضاري للإنسان المعاصر، وإن بحث هذه المنظومة هو في جوهره بحث الإنسان في جوهره وفي مظهره التكنو – اجتماعي. وبذا فمنظومة الانترنيت تعزز الارتباط الوثيق بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. وترسخ الصلة الأساسية بين العقل والفكر والذاكرة والتصور واللغة في عالم الإنسان في منظومة متكاملة العناصر والآليات.
تفرز منظومة الانترنيت تقاليدها الاجتماعية بين مستخدميها وتؤثر تأثيراً بالغاً في إكسابهم نظماً وآليات محددة للتعامل تمليها التقنيات المستخدمة، بحيث ينتظم المستخدمون طواعية في أطر التراسل والتخاطب وتبادل المعلومات بما ينشئ علاقات حسنة بينهم بحسب الجماعات المتعاملة والمتكونة بمصالحها المشتركة على الانترنيت.
إضافة إلى ذلك أصبحت منظومة الانترنيت مسرحاً لإثبات الوجود الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي فضلاً عن العلمي والتقني، فظهر التنافس والصراع والصدام والحوار والتدافع بمختلف تجلياته الحياتية.
الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته يبحث في الأسس الاجتماعية لتركيبة منظومة الانترنيت التقنية، الآلية التقنية، ما هي؟ ماذا أنتجت من آليات اجتماعية؟
فالمسألة من وجهة نظر مؤلفه خطيرة جداً تتعلق بتغيير جوهري في البنى الأساسية للفكر الإنساني العلمي والعملي والخدماتي بل والمركب الاجتماعي برمته. والكتاب يتحدث عن ربما نموذج مجتمع بشري جديد لم يكن مألوفاً من قبل في مجتمعاتنا البشرية تأتي به آلية الحاسوب وشبكات المعلومات وتقحمه بصورة أو بأخرى في مجتمعاتنا الإنسانية عموماً، من المناسب أن نطلق عليه مجتمع الانترنيت.
لهذا يهدف الكتاب إلى التعرف على أهم تطورات المعلوماتية وكشف أبرز خطوات مسارها المعلوماتي الاجتماعي الذي نعيشه في عالم اليوم، ثم رسم الإطار التقني العام لتركيبة الانترنيت بما يفضي إلى رسم إطارها الاجتماعي. ومن ثم معرفة أسس الارتباط بين مفاهيم النظام الاجتماعي وأنساقه المختلفة، مع ما تقدمه تقنية الانترنيت من تغيرات وتطورات ومشكلات اجتماعية.
ويهدف الكتاب أيضاً إلى إبراز العلاقة الجدلية بين المنظومة الاجتماعية للانترنيت وبين منظومتها التقنية، أي بمعنى التحليل والتفكيك والتركيب بين التقني والاجتماعي الحضاري لعناصر الانترنيت بما يؤدي إلى معرفة مختلف التفاعلات التي تحدث بين الأفراد والجماعات المستخدمين للانترنيت من خلال فعاليات خدمات الانترنيت وتأثيرها في الطبيعة البشرية في مجتمع الانترنيت. كذلك محاولة استشراف مستقبليات هذه التقنية وأبعادها المتعددة في المجتمعات الإنسانية.
إن العامل التكنولوجي في جوهره هو عامل اجتماعي يؤطر ويبني العقل الذي ينتج التقنية ويستخدمها. وهو الذي يفرز آليات القبول والرفض المجتمعي ويرسم منهجيات وطرائق التطبيق التكنولوجي. كما إن العامل الاجتماعي في حد ذاته له علاقة وثيقة بالعامل التكنولوجي من حيث ارتباطه بالتطور اعتماداً على التكنولوجيا، فهي تتمثل في مظاهر الممارسة والاستخدام ما يفرز آليات التآلف والاعتماد والاحتياج وبالتالي يتبين إن العاملين هما عامل مركب واحد جدلي البنية والتجسد في المجتمعات الإنسانية. وفي هذا المنحى لا يمكن إغفال الدور الأساسي للمعلومات، على مراحل التطور البشري. فهي محتوى الأفكار ومبنى المهارة وهي أيضاً ثمرة العطاء. إنها بذلك حاجة ومطلب وسلعة ومكسب، الأمر الذي أصبح من أبرز خصائص العصر الحالي عصر المعلومات ومجتمع المعرفة. إن العامل التكنولوجي – الاجتماعي المركب هو في أساسه العامل المعلوماتي.
إن المنظومة التكنو – اجتماعية للانترنيت لم تزل في بدايات بحثها التكنو اجتماعي عالمياً وبالأخص في بلداننا العربية. وإن خطورة ما يمكن أن تأتي به هذه المنظومة من تغييرات في صميم البناء والتركيب والثقافة والتفكير والسلوك الاجتماعي البشري عموماً، وفي مجتمعاتنا العربية خصوصاً لا يدع في واقع الأمر أمام المعنيين بالتنمية المجتمعية والبحث العلمي وأصحاب القرار خياراً آخر سوى العمل على وضع أسس وآليات وطنية جادة لبحث هذه المنظومة المعلوماتية والمعرفية الكبرى ليمكن معرفة كيفية التعامل والتفاعل معها إيجابياً.
ولعل من أهم الخطوات الفعالة لتحقيق هذه الغاية هو أن تتبنى الدول العربية خاصة تفعيلاً للغة العربية والثقافة العربية والإسلامية ما يمكن تسميته (مركز أبحاث الانترنيت) يخطط له بوعي علمي وتصور عملي متكاملين. بغرض إعداد الأبحاث المعمقة نظرياً وتطبيقياً في الجانبين التقني والاجتماعي للمنظومة التكنو – اجتماعية للانترنيت.
احتوى الكتاب على مقدمة وعشرة فصول وخاتمة. ثلاثة فصول للجزء النظري وسبعة فصول للجزء العملي والتحليل. يتناول الفصل الأول موضوع التقنية الحديثة في عصر المعلومات مبتدئاً بتسليط الضوء على التقنية لغة واصطلاحاً ثم ناقش التغير المعلوماتي كمتغير اجتماعي، في إطار ظاهرة التقنية كمنتوج اجتماعي بما يتناسب وموضوع البحث. وفي الفصل الثاني اهتم بآراء أصحاب الاتجاه التكنولوجي من خلال ثلاثة مداخل رئيسية تدور حول مسائل الحتمية التقنية، والحتمية الاجتماعية ونقد التقنية، والحتمية المعلوماتية. فقد ركز على أهم أفكار العلماء المعنيين بالموضوع التقني الاجتماعي والمعلوماتي الحديث. أما الفصل الثالث فعرض بشيء من التحليل الانترنيت في مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة، وبخاصة مرحلة ما بعد الحداثة بمختلف آراء أشهر منظريها حسب موضوع البحث وبخاصة رؤية الفكر الأمريكي والبريطاني وأيضاً رؤية الفكر الفرنسي. ومع الفصل الرابع تحديداً يبدأ الجزء العملي والتحليلي الذي اعتمد فيه المؤلف على عمليات تطبيقية لتقنيات الانترنيت. مستخدماً أهم أدواتها الاتصالية والمعرفية. وبذلك يقدم الفصل الرابع توصيفاً تقنياً مختصراً لبعض الجوانب المهمة لشبكة المعلومات العالمية عارضاً أهم ملامح المنظور التقني لمعطيات منظومتها الشبكية. ثم يعرض الكتاب في الفصل الخامس التوصيف الاجتماعي المتعلق بالاستخدامات المختلفة للانترنيت والناجمة عن تعامل الأفراد والجماعات البشرية معها في أهم خدماتها الالكترونية. وبخاصة المعاملات الاتصالية والتجارية والمؤسساتية الرسمية والتعليمية ليمكن بذلك تحليل منظومة الانترنيت بناء على معطيات الفصلين التوصيفين الرابع التقني والخامس الاجتماعي.
وببداية الفصل السادس يبدأ العمل التحليلي لهذه الشبكة المعلوماتية فتصنف كظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى استنتاجاً واستناداً إلى ما يبدو من وصفها تقنياً واجتماعياً.
فقد اختصت الفصول السادس والسابع والثامن والتاسع بما أسماه المؤلف مجتمع الانترنيت عارضاً ومحللاً إياه بصورة معمقة بما يفي الموضوع مركزاً على فضائه المعلوماتي (فضاء السايبر Cyberspace) بمختلف جوانبه ذات العلاقة بتصوراته وانتشاره وتبنيه في مجتمع المعلومات وخصائص حركته الرقمية وتمثيله للاجتماع البشري الجديد واقتصاد المعرفة في عموم المجتمع الإنساني والفضاء الرقمي (الانترنيت) في البلدان النامية. كذلك تحليل الآلية الاجتماعية الرقمية وبخاصة تركيبة الفرد/ الجماعة الافتراضية وما يثير ذلك من مشكلات المجتمع البشري/ الآلي الجديد مثل أزمة الهوية الانترنيتية والخصوصية وظاهرة ما أسماه المؤلف بـ(العقل الجمعي الالكتروني). يأتي بعد ذلك الفصل العاشر والأخير متناولاً الصورة البنائية العامة للانترنيت إلى جانب البناء التحكمي خصوصاً الثقافي (اللغوي والقانوني)، حيث يطرح المؤلف رؤية تحليلية تركيبية لنظام مركب الانترنيت (لفرد والجماعة) في المجتمع الافتراضي الجديد. إضافة إلى نمذجة شكلية للعلاقات بين كائنات هذا المجتمع الجديد، ليصل الكتاب إلى خاتمته وهي مناقشة عامة لأهم ما تم تناوله في الفصول في إطار نظرة مكتملة للبحث ومستجداته الأخيرة
* الكتاب :
د.علي محمد رحومة، الانترنيت والمنظومة التكنو – اجتماعية، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تموز/2005، 428 صفحة.
[email protected]