لا أريد أن نتناول الآن التحليلات وتوقعات تشكيل الحكومة في ضوء نتائج الانتخابات، ولا أن أتناول الخروقات ومدى بطلان أو عدم بطلان الانتخابات، ولا كم هي نسبة ما حصل من تزوير أو تلاعب، أو لم يحصل، بل أريد أن أتناول في هذه المقالة القصيرة موضوع توزيع مقاعد مجلس النواب العراقي لعام 2018 بين نظرية المؤامرة، وبين ما تحقق، بقطع النظر عما إذا كان المعلن يمثل الواقع بشكل كلي، أو بنسبة من النسب.
وزعت أكثر من مرة وفي فترات متباعدة نسبيا قائمة بعدد المقاعد للقوائم والائتلافات الأساسية، مع عبارة «تم توزيع مقاعد البرلمان القادم كما أدناه حسب معلومات سرية تم الحصول عليها في بريطانيا هنا من مصادر مطلعة كما يلي». وكثيرون صدقوا ما نشر، وروجوا له وعمموها على الإيميل والواتس-آپ والفيسبوك، ثم نُسِيَت بعد أشهر، فجرى الترويج والتعميم لها مرة أخرى قبيل الانتخابات. انتبهوا على عبارة «حسب معلومات سرية» وعبارة «مصادر مطلعة»، مما أصبحنا كثيرا ما نقرأه أو نقرأ ما يشبهه.
لذا وحيث توقعت، كما هو الحال مع أكثر الأصدقاء، عدم صحة ما ورد، ولكن لعلمي بأن عددا غير قليل صدّق بها وعوّل عليها، احتفظت بالقائمة، منتظرا إجراء الانتخابات ثم إعلان النتائج، لأبيّن خطأ استغراق البعض منا في نظرية المؤامرة. لا أقول إن الانتخابات في العراق أصبحت نزيهة تماما وخالية من أي تلاعب محتمل، لكن جعل القضية كلها رهن القرارات الخارجية، دون أن يكون لأصواتنا أي دور، فهذا هو الأمر غير المعقول، لذا أرجو المقارنة بين الأرقام التي ادّعاها ذلك التقرير بدعوى أنه «تم توزيع مقاعد البرلمان القادم»، مدعيا إن ذلك قد اعتمد «معلومات سرية تم الحصول عليها في بريطانيا» وذلك «من مصادر مطلعة». أدرج الأرقام التي ذكرت في ذلك التقرير المدَّعى معنونا إياها بـ (المدَّعى) أي وفق نظرية المؤامرة المدَّعاة، ثم ما يقابلها تحت عنوان (المتحقِّق) أي عبر الانتخابات، مع ذكر الفرق، مع ثمة ملاحظات وتعليقات.
ائتلاف النصر: المدَّعى وفق التقرير كان: 89، أما المتحقق فهو: 42 مقعدا، فيكون الفرق: 47 أقل، ويلاحظ أن الفرق كبير، وذلك بنسبة 53%
الفتح: المدَّعى: 35، المتحقق: 45، الفرق: 10 أكثر، والفرق يعتد به فهو بنسبة 29%.
سائرون: المدَّعى: 27، المتحقق: 54، الفرق: 27 أكثر، فرق كبير بنسبة 100%.
دولة القانون: المدَّعى: 21، المتحقق: 25، الفرق: 4 أكثر، وهذا مقارب، إذ الفرق 2% تقريب.
تيار الحكمة: المدَّعى: 15، المتحقق: 19، الفرق: 4 أكثر، مقارب، فالفرق حوالي 3%.
ائتلاف الوطنية: المدَّعى: 22، المتحقق: 21، الفرق: 1 أقل، مقارب جدا.
القرار (الخنجر/ النجيفي): المدَّعى: 7، المتحقق: 13، الفرق: 6 أكثر، وهنا الفرق بنسبة 86%.
الديمقراطي الكردستاني: المدَّعى: 23، المتحقق: 24، الفرق: 1. مقارب جدا.
الاتحاد الوطني: المدَّعى: 17، المتحقق: ، المتحقق: 18، الفرق: 1. مقارب جدا.
وأستغني عن سرد ما ذكره ذلك التقرير المدَّعى حول قوى أخرى، مثل التحالف العربي، وحركة الحل (الكرابلة)، الديمقراطية والعدالة (برهم صالح)، وگوران (التغيير).
فهلّا نتخلى عن هوس المؤامرة، وتفسير كل شيء في ضوء نظرية المؤامرة، وكون خطته قد وضعت بتفاصيلها في غرف الاستخبارات العالمية، وكأن الشعوب لا دور لها، وكأن قوى «الإمپريالية» حسب اليساريين والعرب القوميين، أو قوى «الاستكبار» أو قوى «الكفر والاستكبار» حسب مصطلح الإسلاميين، على كل شيء قديرة، فإذا ما أرادت شيئا، إنما قولها له كن فيكون، سبحانها وتعالت.
لا أنفي وجود خطط، ولا أنفي وجود ثمة مؤامرات أو محاولات للتآمر، هنا أو هناك، لكن أن يكون كل شيء بلا استثناء خاضعا لإرادة ما يحاك في غرف المؤامرة، فبهذا إنما نحن نضحك على أنفسنا وكأننا ندعو للاستسلام لإرادة الخارج، فلا جدوى من أي جهد داخلي.
وبهذه المناسبة أريد أن أعيد ما ذكرته سابقا ربما في مقالة أو أكثر، أو في لقاء أو أكثر على إحدى الفضائيات، أو في ندوات، أو حوارات سياسية مع أصدقاء. كثيرا ما يردد إن سيئات العملية السياسية بعد 2003، من إسلام سياسي، وطائفية سياسية، ومحاصصة طائفية وعرقية وحزبية وفساد مالي وإداري، هو من فعل دولة الاحتلال الولايات المتحدة الأمريكية. وكثيرا ما يذكر البعض عن سياسيي الصدفة السيئين بعد 2003 أنهم جاؤوا على الدبابة الأمريكية.
لا أدافع عن أمريكا، فأمريكا تنتقد في سياساتها حتى من حلفائها الأورپيين، لكني أقول، كما قلت سابقا، إن أمريكا صحيح ليست ملاكا، ولكنها أيضا ليست شيطانا محضا، بل هي دولة عظمى، لها مصالحها التي تتقدم على بقية أولوياتها، ولها أخطاؤها وخطاياها، بما في ذلك تجاه العراق، ناهيك عن تحيّزها في قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لإسرائيل كليا، مهما اخترقت إسرائيل مبادئ حقوق الإنسان، ومهما ارتكبت من مجازر، وقد بلغ هذا التحيّز أقصاه في زمن ترامپ. ولست بصدد مناقشة هذه القضية، أي قضية فلسطين، التي مر عليها سبعة عقود بلا حل عادل بإقرار الدولتين المتصالحتين، بعيدا عن تسييس الدينين اليهودي والإسلامي، بل بحل الدولتين الديمقراطيتين العلمانيتين، كما طرحت في مقالة لي قبل سنوات، ولكني أريد أن أقول أني لست مدافعا عن أمريكا، ولا أتبنى أيضا العداء لأمريكا، ففرق بين النقد والاعتراض من جهة، وبين العداوة من جهة أخرى التي يتبناها الإسلاميون والقوميون واليساريون الراديكاليون، حاشا لأصدقائنا اليساريين المعتدلين الديمقراطيين، ولا أنفي إن أخطاء أمريكا في العراق كقوة احتلال مما لا يستهان به وبتبعاته، ومما يجب على أمريكا تعويض العراق عنه.
لكن ما حصل في العراق بعد 2003، إذا كانت أمريكا تتحمل من مسؤوليته 10 إلى 25%، فإن القوى السياسية المتنفذة تتحمل 90% أو أكثر، وكأدنى حد نقول تسامحا 75%، كما إن القوى الشيعسلاموية تتحمل من مجموع مسؤولية سائر القوى السياسية المؤثرة بعد 2003 نسبة 90%. كما يتحمل الشعب العراقي مسؤولية ما حصل، بسبب حداثة تجربته مع الديمقراطية، وبسبب نسبة الأمية العالية والجهل وانخفاض الوعي السياسي عند شريحة واسعة، ربما تمثل النسبة التي تؤدي إلى حسم نتائج الانتخابات، وبسبب تأثير الانتماء الديني وتأثير الانتماء المذهبي حتى لا نقول الطائفي. ناهيك عن الدور السلبي والمؤذي لدول الجوار، على رأسها إيران، ولا ننسى دور السعودية وقطر وتركيا وغيرها.