إجراء الانتخابات المحلية من عدم إجرائها بالنسبة للسلطة المليشياتية الحاكمة في العراق هو معضلة كبيرة لها، ففي حال اجرائها لن تتمكن من عبور أزمتها او تجاوز أزمة عدم الانسجام السياسي في صفوفها او بشكل اخر نقوله حسم الصراع على السلطة، بل ستعمقها بشكل أكبر، وفي نفس الوقت عدم اجرائها أيضا معضلة أخرى، لأنها بحاجة الى بعث رسالة اطمئنان الى المؤسسات الرأسمالية العالمية للحصول على بطاقة ضمان منها بأنها امينة للنظام الديمقراطي الذي أرساه الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق.
الجميع يمسك بقبعته في المنطقة على إثر العاصفة القادمة من تداعيات حرب إسرائيل على غزة، وأكثر الأطراف تحاول الحفاظ على مواقعها ونفوذها السياسي في المنطقة هي إيران وادواتها من المليشيات وحلفائها من جماعات الإسلام السياسي.
وكما هو معروف ان العراق هو الحلقة المركزية في استراتيجية النفوذ الإيراني، وما يحدث في غزة نجد صداه في العراق، وخاصة الموقف الذي وضعت فيه حكومة السوداني، وهو لا يحسد عليه، فالتناقض الصارخ يضرب تحالفات الميليشيات وأحزاب الإسلام السياسي المنضوية تحت اسم “الإطار التنسيقي” الذي يقف خلف تأسيس حكومة لا شرعية لها، إذ قام بالالتفاف على نتائج الانتخابات التشريعية عام ٢٠٢١ علاوة على تزويره لها، و زيف كل شيء للحصول على السلطة سوى عدم قدرته على تزييف فساده ونهبه وسرقته وتصفيته لمخالفيه السياسيين. ذلك التناقض ليس بسبب الموقف من حرب إسرائيل على غزة بشكل عملي خارج البيانات والخطابات الطنانة فحسب بل بسبب لفض الجماهير لها ورفع غطاء الشرعية عنها في انتفاضة أكتوبر عام 2019 وحيث أطاح بحكومتها برئاسة عادل عبد المهدي، والذي حاول أي ذلك التحالف من الحفاظ على شرعيته والاستمرار بالسلطة عبر القناصة وهجوم المليشيات على المتظاهرين في ساحات المدن، والتواطؤ مع مليشيات سرايا السلام والقبعات الزرقاء التابعة للتيار الصدري وتهديدات زعيمه، وقد قتل أكثر من ٨٠٠ شخص وجرح ما يقارب ٢٠ الف، وتوج فشلهم بالانتخابات المذكورة، حيث لم يشارك فيها أكثر من ١٢٪ من الذين لهم حق الانتخاب من جماهير العراق.
في ظل اوضاع المنطقة والوضع السياسي في العراق، فإن الاطار التنسيقي هو اكثر الأطراف حاجة لانتخابات مجالس المحافظات المزمع تنظيمها في ١٧ من هذا الشهر كانون الأول ٢٠٢٣ و اكثر الأطراف إصرارا في العملية السياسية لإجراء الانتخابات، بالرغم ان التيار الصدري أعلن انسحابه، كما انضمت له الجماعات القومية التي يتزعمها اياد علاوي الى جانب مجموعات أخرى سميت نفسها بالتشرينية نسبة الى انتفاضة تشرين او أكتوبر، وتتحرك ببوصلة التيار الصدري، ويجدر بالإشارة ان الأحزاب القومية التركمانية والعربية في كركوك رفعت مذكرة الى المحكمة الاتحادية تطلب تأجيل الانتخابات في المدينة، وتخيم على كل هذه الأجواء، هجمات المليشيات على القواعد الامريكية والسفارة الامريكية والمنطقة الخضراء تطبيقا لشعار “وحدة الساحات “، وقد وضعت الحكومة اسما حركيا لتلك المليشيات وسمتها “السلاح المنفلت” لتخفيف وطأتها على مسامع المواطن وفي نفس الوقت الحيلولة دون خدش مشاعر الجماعات التي تديرها او التي تقف خلفها بحجة انها غير قانونية عندما تسميها “مليشيات”.
الإطار التنسيقي يحاول عبر الانتخابات ترسيخ سلطته السياسية في المحافظات، فهو لا يبحث عن الشرعية من خلال صندوق الانتخابات، لأن وجوده غير شرعي، سواء من خلال الانتخابات التي خسر فيها اغلبية مقاعده لصالح غريمه التيار الصدري، ولا من خلال الشارع كما ذكرنا. ان انتخابات مجالس المحافظة بالنسبة لتحالف الأحزاب والمليشيات الإسلامية التي تدير حكومة بغداد هي من اجل تثبيت اعترافها بالنظام الديمقراطي” أمام المؤسسات الدولية، وفي نفس الوقت الاستفادة من الهزيمة السياسية التي مني بها التيار الصدري بعد سياسته الفاشلة باقتحام مبنى البرمان والمحكمة الاتحادية، وانتزاع الحكومات المحلية التي تسيطر عليه في المحافظات الجنوبية او تقزيم مكانته ونفوذه السياسي.
إن المعضلة الرئيسية التي تواجه هذه الانتخابات، ليس ما ستذهب اليها الجماهير في مقاطعة الغالبية العظمى منها بنسبة ستتجاوز ٨٢٪ لها كما فعلت في انتخابات ٢٠١٨ وانتخابات ٢٠٢١، إنما ما ستنتج عنها من تداعيات بعد الانتهاء منها، مثلما حدث في الانتخابات التشريعية لعام ٢٠١٨، حيث اجتاحت الاحتجاجات عشرات المدن الجنوبية وتم حرق مقرات المليشيات والأحزاب الإسلامية، كما تم حرق مبنى مجلس محافظة البصرة وهروب المحافظ وجميع أعضاء الحكومة المحلية الى جانب فرار عناصر المليشيات الى قلاعها الرئيسية في إيران.
فحكومة السوداني، ومنذ تشكيلها زادت من مساحة الفقر، وبعكس ادعاءاتها الكاذبة بأنها قللت من نسبة الفقر في المجتمع، فالمعطيات المادية تفند الجمل الإنشائية الطنانة والفارغة من المحتوى التي تعودنا عليها، فالبطالة تتوسع رقعتها بسبب غياب اية مشاريع اقتصادية تستوعب على الأقل ٥٠٪ من العاطلين عن العمل البالغين أكثر من ١٢ مليون عاطل، و ما زال سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار يراوح في مكانه رغم كل التضليل الإعلامي للحكومة، وهذا ما زاد من نسبة التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية في الأسواق، كما ساهم في تآكل القدرة الشرائية للمعاشات والرواتب، هذا ناهيك عن فرض الضرائب ورفع أسعار الكهرباء والمياه والاتصالات، والحبل على الجرار إذا ما نفذت بنود قوانين الموازنة.
وبالعكس تماما ان هذه الانتخابات ستزيد من تفاقم الازمة السياسية في العراق وتعمق بالتالي من ازمة السلطة السياسية التي لا تملك اية عصا سحرية سوى قمع الاحتجاجات الجماهيرية او انتحارها سياسيا.
ولا تقف ازمة السلطة السياسية عند هذه الحدود، او في الحقيقة ازمة الطبقة البرجوازية الحاكمة المتمثلة اليوم بأكثر اجنحتها حثالة كما نصفها دوما وهي الإسلام السياسي الشيعي، بل تكمن أيضا أي ازمتها بشكوك في قدرتها على تسديد استحقاقاتها أمام المؤسسات المالية والرأسمالية الدولية، فالمطلوب منها خلق الاستقرار السياسي عبر تصفية معارضيها من جهة وخلق الانسجام السياسي في صفوفها، و ارضاخ الجماهير من جهة اخرى اما بالقمع او تضليلها برمي الفتات لها على شكل زيادة هوامش المعاشات والرواتب التي لا تتناسب مع حجم الضرائب ولا بحجم التضخم ولا بحجم تخفيض العملة المحلية، وفي نفس الوقت خلق بيئة آمنه لتحرك رأس المال العالمي بحرية في السوق العراقية دون أي تهديد من اية جهة كانت.
وكل تلك المحاولات التي تجري على قدم وساق من قبل الأطراف الآنفة الذكر سواء المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات او التي تقاطعها، فليس لديها اية اجندة او برنامج سياسي او اقتصادي، بل المضحك جدا في شعارات القوى المشاركة التي اقل ما توصف بالكوميديا، وهي لم تتعلم طوال هذه السنوات من الدعاية الانتخابية للعالم بعد ان اصبح موحدا بفضل الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات، فعلى سبيل المثال هناك من يرفع شعار قومي “نحن امة” في سوق أصابه الركود لبيع الشعارات القومية، وقد طرد صاحبه وهو الحلبوسي من رئاسة البرلمان بقرار اتخذ خلسةً في الليل وتم تنفيذه في وضح النهار ومنع مزاولة العمل السياسي طوال حياته، وشعار آخر لجماعة دولة القانون التي يرأسه نوري المالكي “قوة القرار”، أي قوة تسليم ثلث مساحة العراق الى داعش عام ٢٠١٤ عندما كان رئيسا للوزراء، واخر “اقوال لا أفعال” لجماعة خميس الخنجر التي يعني بحق ما يقول؛ حيث اشترى المناصب وصناديق الانتخابات تقاسما مع غريمه الحلبوسي في انتخابات ٢٠٢١، وشعار اخر “بغداد تستاهل” لعمار الحكيم الذي لا يقبل أي مشروع ينفذ في بغداد دون الحصول على عمولة من الشركات العاملة سواء في بغداد او في المحافظات التي له يدى طولى فيها، وشعار “نحمي ونبني” للعامري وهو امين بامتياز لما يدعيه، وهو المعروف بمهندس “سرقة القرن” حيث المتهم الأول بسرقة ٢مليار دولار ونصف مليار من أموال الضرائب العامة حسب صحيفة غارديان البريطانية ..الخ، وهي أي كل تلك الشعارات تعكس المحتوى الفارغ لهذه الجماعات التي فرضت على رقاب الجماهير، وهي ليست بحاجة الى تقديم برامج سياسية وشعارات سياسية للوصول الى السلطة، لأنها غير معنية لا باختيار الجماهير لها ولا بمطالب الجماهير، بل هي وصلت، عبر الاحتلال للوهلة الأولى وفي غفلة من الزمن، وبعد أن استحوذت على كل شيء، استمرت بالسلطة عبر استثمار ما استحوذت عليها بتأسيس المليشيات وقوة السلاح.
وأخيرا وهذا ما ترتعب منه كل تلك الجماعات المقاطعة والمشاركة، بأن ما تحتاجها الجماهير ليست الانتخابات، فهي جربت حظوظها في كل المحطات الانتخابية طوال ما يقارب من قرنين، بل ما تحتاجه هو تغيير الأوضاع بشكل ثوري ووضع هذه الجماعات في أرشيف التاريخ. وانتفاضة اكتوبر حفرت هذه المهمة في وجدان الجماهير وما زالت في قيد التنفيذ.