لايخفى على أحد بأن الشارع العراقي يعيش تجاذبات ماقبل الانتخابات بكل مافيها من صخب وزعيق وأصوات لإنفجارات ودماء تسيل كل يوم على وقع طبول توقعات الفوز وطبول الحرب التي يخوضها الجيش العراقي في المنطقة الغربية. كل من سألته من ستنتخب كان مترددا ً ولايعرف من سينتخب إلا القلة القليلة التي تعرف. فلانعرف غير تلك الوجوه الكالحة التي تشوه الوان شاشات التلفزيون الحديثة بظهورها المتكرر والذين لانعرفهم ولم نجربهم ولم يعطنا السياسيون الحاليون فرصة لنجرب غيرهم. لكن, وبالرغم من ذالك, هناك خيوط رفيعة يمكن أن تقودنا لضوء يضيء المشهد المعتم. فالواضح أن هناك خطابين بارزين, فالأول هو خطاب دولة القانون وفكرة الأغلبية السياسية, والثاني خطاب المشاركة الذي تدعو له باقي الكتل.
لا يعرف أحد إن كان السيد المالكي سيحقق نصرا ً ساحقا ً ليمضي بفكرته للنهاية أم لا, فهذا في علم الغيب بالتأكيد, وإن كنت أشك بأنه سيحصل على نفس عدد المقاعد في الدورة السابقة. ولكن الأكيد أن فكرة الأغلبية هي أبعد مايكون عن الواقع, ليس لأنها صعبة المنال بفعل التجاذبات المذهبية والعرقية ولكن, تحقيقها سيقود العراقيين لخيار التقسيم الذي إذا حدث فأن جملة من الإحتمالات التي ستفتح أبواب جهنم في المنطقة والتي لم تكن قط قد خطرت على بال أحد, فبقاء السيد المالكي في السلطة سيزيد من حدة التجاذبات بين الكتل ويقوي الأطراف الراديكالية المتطرفة في الكثير من الكيانات والمكونات مما يعزز فرص التقسيم. أن الدول التي تمر بازمات كبيرة تلجأ في الغالب لتشكيل حكومات إئتلافية لتجاوز أزماتها, والسؤال هو, هل يعيش العراق أزمة حقيقية؟ بالتأكيد نعم, فالعراق يعيش سلسلة من الأزمات, فإلى أين ستأخذ العراق حكومة الأغلبية؟ أما الخيار الثاني فهو خيار الشراكة الذي سيكون أسهل من الخيار الأول, ولكنه لايخلوا من مشكلات عشناها منذ بداية الإحتلال ورحيل النظام السابق الذي قتل الحياة السياسية في العراق لعقود طويلة والذي ضيق علينا فرص إختيار مرشحين كفوئين نعرفهم ونعرف تاريخهم.
لابد أن نعرف أن مشكلة الحكومة الحالية والائي سبقنها هي غياب الرؤية والاستراتيجية في إدارة الدولة. فلم نعرف إلى الآن أن كان العراق دولة دينية أم مدنية. فأحزاب السلطة تتبنى الخيار المدني لكن بافعالها تعمل على الفتوى وتستحضر النص الديني بل تسخر الدين لتحشيد الجماهير باللعب على الوتر الطائفي. فترى أغلب الأحزاب والكتل تبنى فكرة الدولة الدينية وتلفقها بفكرة الدولة المدنية وتريد أن تجمع الفكرتين بقدرة قادر من دون الرجوع لأي أطار فكري نظري يزاوج بين فكرة الدين وفكرة الديمقراطية, بين حاكمية الله وحاكمية الناس لأنفسهم, بين ماهو سماوي وماهو أرضي, وإن كنت أشك بأن هناك إطار نظري واضح المعالم يجمع بين الفكرتين.
ولنعود لقضية من سننتخب! أن المشكلة أن هناك الكثير من الأفراد من المرشحين ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء العراقيين وتخلوا من أموالهم من أصحاب الكفائات إلا أنهم منضمين تحت قوائم الأحزاب الآنفة الذكر التي لانعرف دينيها من علمانيتها ضنا ً منهم بأنهم سيقدمون خدمة للمواطن من خلال أحزاب و إئتلافات قوية, ولكنهم سيبقون أسرى للأطر التي تسير عليها تلك القوائم والكتل التي لها قادة لايتبدلون بالغالب ولهم سياسات واضحة في تأجيج الشعور القومي والطائفي وفيهم من هو ضالع بالفساد. ولاننتظر أيضا ً تبدل الأحوال إذا تبدلت الوجوه فأزمات العراق كثيرة ومشاكله كبيره حيث يوجد هناك جبل متراكم من الملفات التي لاتستطيع أي حكومة كانت أن تعالجها بحلول ترقيعية كما كانت تفعل الحكومات المتعاقبة. ولكن, يبقى الخيار الأكيد هو الرهان على المستقبل, ليس في هذه الدورة فحسب بل في الدورات التي ستليها, فخيار الدولة المدنية بنظامها العلماني الذي يروج الإسلاميون بكفره هو أكثر وضوحا ً من النماذج المشوهة التي تخلط الدين بمؤسسات الدولة. أن التأسيس لتيار مدني ديمقراطي ليبرالي, ربما بصبغة اشتراكية بقربه من اليسار الوسط, هو خيار لابد من التفكير به من الآن, وذلك لأن خيارات النماذج الهلامية التي لانعرف رأسها من قدميها قد فشلت جميعا ً, وأقصد بالتيار مجموعة من الأحزاب العلمانية المتقاربة الأفكار مع شخصيات ليبرالية لها نفوذ في الأوساط الشعبية, لها رؤية واستراتيجية عن شكل الدولة وطبيعة ادارة المؤسسات فيها بطريقة تنسجم مع الايدلوجية التي يتبناها التيار. أن وضع قدم ولو بمقاعد قليلة لتيار مدني يؤمن بالديمقراطية ويحترم الهويات الدينية والعرقية ربما سيؤسس لدولة قائمة على روح المواطنة التي تشظت بفعل الحروب والأزمات المتكررة, وربما يكون الخيار الأفضل, ليس في هذه الدورة بل في الدورات القادمة, لكن هذه الدورة ستكون مهمة جدا ً لتأسيس هكذا تيار والذي ربما سيكون موقع المعارضة خياره الأفضل.