في خضم التحضير السياسي والاستعداد الشعبي للانتخابات القادمة في 12 أيار القادم، بين مؤيد لإجرائها في موعدها وبين الداعين الى تأجيلها، وفي الطرف الآخر الحملة الواسعة في مواقع التواصل الاجتماعي بالدفع نحو مقاطعة الانتخابات لعدم إعطاء الشرعية للنظام والعملية السياسية التي ما زالت تعيد نفس الوجوه في مواقع السلطة والنظام. فالعملية السياسية القائمة على الانتخابات تأصلت فيها المحاصصة بين الأحزاب التي تمثل انتمائها المذهبي والطائفي، وعليه لا يمكن أن نتوقع بأن تنتج مثل هذه العملية السياسية غير هذه المخرجات والوقائع الحتمية. فالدولة وعمليتها السياسية هي نظام (كأي نظام انساني أو فيزيائي)، وافرازات هذا النظام تعتمد على المقدمات الداخلة فيه لا غير والتي تصنع مثل هذه المخرجات التي قد نراها مقززة ونافرة.
هذا الشعور الرافض لمثل هذه المخرجات (المحاصصة والوجوه المتكررة التي تنتج لنا سوء الإدارة والفساد المتفشي والمحسوبية وبالتالي عدم الاستقرار السياسي والاحتراب الاجتماعي) بالنسبة لنا لا تمثل واقعنا الشعبي والثقافي. فلو كانت هذه المخرجات السيئة تعكس واقعنا الاجتماعي وطبعتنا الثقافية، لما كنا ننفر منها ونرفض نتائجها ونجاهد لتغييرها. فهي ليست انعكاساً لنا ولا لتاريخنا ولا لثقافتنا ولا لتكوينا الاجتماعي. مع العلم بأن هنالك من يقول بأن هذا هو واقعنا، الممزق اجتماعيا، المتنافس سياسياً، المتنافر ثقافياً، وما أنتجه خلال الخمسة عشر عاماً الماضية ما هو إلا انعكاساً لطبيعة العراقيين. إن عملية التجزئة السياسية والاجتماعية عبر تكوين الأقاليم أو الكيانات ذات السمات الانفصالية والتي تطالب بها الكثير من القوى السياسية في بلدنا هي ليست من مظاهر العالم الحديث الذي يسير نحو الاندماج والعيش المشترك.
العراق عبر تاريخه القديم والحديث ليس دولة مستحدثة، والعراقيون ليسوا شعب جرى تكوينه بعد الحرب العالمية الأولى في بداية القرن العشرين الميلادي، وانما هو كدولة وشعب متجذر في التاريخ البشري، ومتأصل في الحضارة الإنسانية، لم ينقطع عطاؤه على مر العصور. فالعراق هو بوتقة الدول والامبراطوريات والحضارات التي نشأت في وادي الرافدين من الموصل حتى الخليج، ذو نسق واحد وتراث معين وثقافة متميزة. هذا العمق الحضاري المميز هو الذي جعل العديد من الامبراطوريات الغازية لوادي الرافدين تتطبع بقيمه وتخضع لقيمه الثقافية وتتأطر بنسيجه الاجتماعي. فقد “تعرق” (أكتسب الهوية العراقية) كل من دخل العراق من الفرس والإغريق والعرب والمغول والترك، لا لشيء إلا أن حضارة وادي الرافدين هي أكثر “عراقة” وأعمق تجذراً. فما زالت تلك الهوية العراقية المميزة ظاهرة للعيان حتى في شعوب الدول المجاورة للعراق منذ آلاف السنين. فَيصف مثلاً أهل بلاد الشام ومصر على الشخص الذي يطفح كرمه ويتأنق مظهره على أنه “متبغدد”، لأن من قيم الشخصية العراقية هي السخاء وإظهار النعم. وهذا لا يعود إلى البذخ وسعة المال (لأنه هنالك شعوب دول الخليج المجاورة هي أكثر مالاً ورفاهيةً، ولكنها لا تتصف بما يظهر على العراقيين من “التبغدد”.) كما أن السمة الحضارية لسكان وادي الرافدين هو التعددية السمحة، والتي جعلت منه ساحة لنشوء أكثر المدارس الفكرية وانتشار أغلب الديانات السماوية وظهور مختلف المذاهب العقائدية وقيام العديد من الجامعات العلمية على أرضه في مختلف العصور والأزمنة. حتى أن الاستعمار الانكليزي في بداية القرن العشرين والاحتلال الامريكي في بداية القرن الحالي لم يستطع أن يؤثر في الميزان الثقافي العراقي إلا النادر والقليل. فلم يتطبع اهل العراق بقيم الانكليزي ولم ينحني كبريائهم لهيمنة الامريكان، وهذا على عكس الكثير من شعوب الدول التي استعمرتها انكلترا وامريكا، التي فقدت هويتها واكتسبت قيم مستعمريها.
أن ما يشاع عن الملك فيصل الأول عندما تولى العرش في العراق بعد الاحتلال الانكليزي وتأسيس الدولة العراقية الحديثة بمقولة أنه “لم يجد في العراق اي عراقيين” انما هو شعور يعبر عن الهوية الاجنبية لشخص الملك نفسه، وأنه كان يغالط الحقيقة التاريخية لوجود شعب العراق الجغرافي والحضاري. ففيصل كان السياسي المنتدب من أرض الحجاز، والذي تم طرده عن عرش سوريا من قبل الفرنسيين لأنه كان محسوباً على الامبراطورية البريطانية، ثم جيء به من قبل المحتل الإنكليزي إلى أرض الرافدين بعد دعوة المرجعيات الدينية فيه وقبول القيادات السياسية العراقية بتعليه عرش العراق. فهو ملك لم تُغرس جذوره في أرض العراق، ولم يحمل ضميره الشعور الذاتي بانتمائه للوطن الذي يعتلي عرشه فيه. وقد يكون فيصل الأول هو الوحيد من كل ابناء الوطن الذي لم ينتمي إلى العراق ولم يكن له ارتباط بشعبه.
فمن الملاحظ أن هنالك وحدة ثقافية للشعب الذي عاش على ربوع وادي الرافدين. فالموسيقى والغناء والشعر الشعبي تكاد تكون ذات طبيعة واحدة ومتجانسة بين سكان البصرة إلى سكان أعالي الموصل. وذلك المطبخ العراقي ليس فيه من الفوارق الكبيرة بين أكلات أهل الموصل، أو تلك عند سكان كردستان وكركوك أو بين الذي يتناولونه أهالي بغداد وأبناء الفرات الأوسط وجنوب العراق. فنلاحظ هنالك التأثير الهندي للبهارات الحارة في مأكولات البصرة، والتأثير الإيراني للطبخ الكربلائي، والتأثير التركي للطبخ المصلاوي، ولكن السمة العامة للأكل العراقي (الذي يعتمد بصورة أساسية على الرز والخبز واستعمال الخضروات واللحم كمروقات) بصورة عامة مختلفٌ تماماً عن أكل أهل الشام أو الطبخ الخليجي أو الهندي أو التركي. وحتى طبيعة إعداد “الشاي” العراقي، وهو المشروب الدخيل الذي بدأ انتشاره في أواخر القرن التاسع عشر، له نكهته الخاصة تختلف عن تلك التي في بقية دول المنطقة والتي دخلها هذا المشروب الصيني في نفس الفترة. وكل هذا يعطي دليل على الوحدة الفلكلورية للشعب العراقي رغم اختلاف أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية والطائفية. ونلاحظ كذلك أنه حتى اللهجة العراقية فيها من المفردات العربية والتركية والفارسية والسومرية والبابلية والانكليزية ما جعلها فريدة من نوعها نتيجة التنوع النابع من تعايش الشعوب وتنامي الحضارات المختلفة على وادي الرافدين.
وهذا التنوع المتجانس لدى أهل العراق هو الذي مكن أبنائه من العيش بصورة مسالمة على مر العصور، ولم تنشأ بينهم حروب أهلية، وانما ما مر به العراق من صراعات أنما كانت سياسية ونتيجة تداعيات احتلال وتدخلات اجنبية. فغدت مناطق التماس بين اطياف الشعب العراقي لعصور مديدة هي مدن التزاوج بين ابنائهم وحواضر اللقاء بين أطيافهم. فهذه بغداد جمعت كل أطياف الشعب العراقي لمدة جاوزت الألف عام، وفيها نشأت جميع المذاهب الإسلامية واغلب الطرق الصوفية ومعظم المدارس الفلسفية. فما من طيف من أطياف الشعب العراق إلا وله جذور في عاصمة الرشيد. ونفس الحال عن هذه التعددية في الطيف العراقي يمكن أن توصف به مدن كركوك والموصل والبصرة. هذا التنوع الشعبي السلمي يكاد يكون من سمات العيش والمصير المشترك لأبناء الرافدين. وقل ما يوجد بلد في حوض البحر المتوسط أو غرب آسيا وفيه هذا التنوع المميز في أطيافه الاجتماعية كما هو الحال في العراق. فمثلاً في إيران هنالك تقريبا وحدة مذهبية وإن تعددت الأعراق، وفي بلاد الشام هنالك وحدة عرقية وإن تعددت المذاهب والأديان، وكذا هو الحال في مصر وتركيا والجزيرة العربية. ولكن التلون في أطياف الشعب العراقي هو سر قوته وجمال روعته ورمز تاريخه الحضاري.
إن حالة “التحارب” والتنافس والتنافر والدفع باتجاه التفرق والعنصرية بين أبناء الشعب العراقي ليس نابعاً ولا انعكاساً لحالنا الاجتماعي والثقافي، ولكنه صراع سياسي بحت قائم على والصراع على توزيع المصالح والنفوذ (تقسيم الكعكة). وذلك لأن القوى الفاعلة القائمة في الساحة السياسية إنما هي تجمعات سياسية وليس أحزاباً وطنية، بمعنى أن ينتمي أعضائها الى فئات اجتماعية ومذهبية وطائفية متعددة ولكنها تدعو الى وطنية جامعة وتعمل من أجل تحقيق برامج تنموية وحضارية محددة. وهذه هي المعضلة (وسوف اتناول هذا الموضوع في مقال آخر).
إن الامة هي مكون اجتماعي ذو عقيدة واحدة وهدف ثابت. والدول الحديثة لم تتشكل لتضم أو تقتصر على ابناء امة واحدة وانما تضم أبناء عدة امم. لهذا يصطلح على ابناء الدولة الواحدة في اللغة العربية بالشعب بدلاً من الأمة ويعرف أبناؤه بالمواطنين. فهذه هي من سمات الدول الحديثة في تاريخنا المعاصر، الذي تتكون شعوبها من عدة قوميات مختلفة المشارب والثقافات، ولكن ينحصر الانتماء لهوية الدولة.
الدولة الحديثة والتي يطلق عليها الدولة القومية في عصرنا الحديث جاءت ولادتها في القارة الأوروبية بعد سقوط الامبراطوريات ونشوء الحروب الدينية بين البروتسنات والكاثوليك، وقامت على اشلاءها دول من مجموعات بشرية إما تدين بمذهب مسيحي واحد، أو ينتمي أغلب سكانها إلى قومية بشرية معينة.
إن الدول التي سبقت عصر الاستعمار الحديث ونشوء الدولة-القومية هي تلك التي اقامت حضارات إنسانية عريقة، وشعوبها مكونة من عدة امم وثقافات مختلفة، كما هو الحال في العراق ومصر وبلاد الشام وبلاد فارس والهند والصين وبلاد الاغريق والروم. ونفس الحقيقة يمكن أن تقال بأنه ليس هناك من دولة حديثة قائمة مستقرة ومتطورة مكونة من شعب متجانس يتكلم لغة واحدة أو ينتمي إلى امة واحدة أو يعتقد بدين واحد أو حتى يدين بمذهب واحد (إلا الاستثناءات القليلة في العالم لما يمكن أن يقال عن اليابان، ولكن حتى هناك هنالك اقليات اسيوية عديدة تعود إلى العصر الامبراطوري الياباني وأهمها من الأصول الكورية).