لعل واحدا من ابرز الاختلافات بين الانظمة الديكتاتورية والانظمة الديمقراطية، هو ان الاولى تتسم بالانغلاق والتقولب والتصلب، بينما الثانية تقوم على الانفتاح والتغيير والمرونة والاستيعاب.
وعلى هذه النقطة الخلافية-الاختلافية-تترتب اختلافات هائلة في المنهجيات والاليات والسياقات المتبعة في عملية اتخاذ القرارات، وفي عملية ادارة شؤون الدولة والمجتمع، وفي عملية تداول السلطة، وفي عملية التعاطي مع المطاليب والاحتياجات التي تطرحها الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة، وفي عملية تحديد مساحات وافاق الحريات بمظاهرها واشكالها وعناوينها المختلفة.
فدائرة القرار الضيقة، وتركيز السلطة والحرص على عدم التفريط بها، وتضييق مساحات وافاق الحريات-ان لم يكن الغائها بالكامل-وتكريس عسكرة المجتمع و”امننته”، وشراء الذمم عبر منهج الترغيب والترهيب، تمثل كلها مظاهر وسلوكيات وممارسات اساسية في منظومة الحكم الديكتاتوري، وهي يمكن ان توفر مقدارا لابأس به من الاستقرار والهدوء المرحلي وليس الدائم، لان ذلك الاستقرار والهدوء يفتقد الى الارضيات الرصينة والمناخات والاجواء الصحية، ولم يتبلور بسياقات طبيعية، وانما فرضته اجراءات قسرية، وقرارات قهرية، وادوات قمعية، وابسط دليل على ذلك هو ان النظام الديكتاتوري الذي لايقر بمبدأ التداول الحقيقي السلمي للسلطة، حينما يواجه خيار التغيير، فأنه يتصدع وينهار انهيارا كاملا، وتغيب عنه اية فرصة ممكنة للاصلاح، وهذا ماحصل في بلدان عديدة مثل الاتحاد السوفياتي السابق، ومعظم-ان لم يكن جميع-دول المنظومة الاشتراكية الشيوعية، وفي العراق ايضا ومن بعده تونس ومصر وليبيا وبلدان عديدة في اميركا اللاتينية وافريقيا واسيا.
وطبيعي ان مرحلة مابعد التغيير الذي يحصل عبر خيار الامر الواقع وبالوسائل العنفية، ستتسم بكثير من الفوضى والاضطراب على كل الصعد والمستويات.
وعلى العكس من ذلك نجد ان الانظمة الديمقراطية رغم مافيها من تنافس وصراع سياسي قد يسبب في بعض الاحيان حالات احتقان وانغلاق سياسي حاد، نجدها لاتواجه خيارات التغيير الدراماتيكية السريعة والمفاجئة التي تأتي على الاخضر واليابس معا.
بعبارة اخرى يمكن القول انه كلما كانت الحياة السياسية ذات دينامية مدنية بمختلف اشكالها ومظاهرها ومضامينها، وكلما كانت بعيدة عن اجواء ومناخات العسكر، فأنها ستتسم بالهدوء والانفتاح وسعة المشاركة، وتجنب المنعطفات الحادة التي طبعت الحياة السياسية في العراق منذ الانقلاب العسكري الاول الذي قاده الفريق بكر صدقي عام 1936 وحتى الاطاحة بنظام صدام عام 2003.
ما هو المفتاح او المدخل الاساس للسير في مسارات صحيحة واتجاهات صائبة.. اي كيف يتشكل ويترسخ النظام الديمقراطي في اي بلد؟.
الانتخابات هي المفتاح والمدخل.. وحينما نقول الانتخابات، فأننا نعني الانتخابات الحقيقية، وليست تلك الشكلية التي يبتدعها الطغاة والمستبدون لذر الرماد في العيون ولاظفاء الشرعية على حكمهم الاستبدادي القمعي.
ومن الطبيعي جدا ان يطرح التساؤل التالي نفسه.. ماهي مقومات وعناصر الانتخابات الحقيقية؟.
يمكن الاشارة الى البعض منها، ومما نتصوره مهما وجوهريا:
-الاطار الدستوري-القانوني، والمقصود به وجود دستور يقر بأن الانتخابات تعد احد ابرز مظاهر النظام السياسي وانها حق مكفول لجميع المواطنين في اطار شروط وضوابط معينة من قبيل العمر والاهلية والانتماء للوطن وسلامة الموقف القانوني.
-الاجواء والمناخات السياسية والامنية المناسبة التي تتيح للمرشحين التحرك على الجمهور بيسر وسهولة بعيدا عن اية ضغوطات واشكاليات، وتتيح كذلك للناخبين الادلاء بأصواتهم في ظل اجواء من الحرية والشفافية.
-وجود جهات محايدة تتولى ادارة العملية الانتخابية بمختلف مراحلها وخطواتها، وبحيث لاتكون تلك الجهة خاضعة بأي شكل من الاشكال لهيمنة ما من طرف مشارك في العملية الانتخابية.
-توفر القنوات والوسائل والظروف المناسبة للمرشحين للتنافس الحر والشريف من خلال عرض برامجهم وارائهم وافكارهم بشأن القضايا المختلفة التي تهم الناخب.
-وضع ضوابط وقيود صارمة تحول دون حصول عمليات التلاعب والتزوير، واتخاذ الاجراءات القانونية الرادعة بحق من يثبت تلاعبه او تزويره او ضلوعه بذلك.
ان الالتزام بمثل هذه الضوابط من شأنه ان يجعل العملية الانتخابية عملية شفافة ونزيهة ومعبرة تعبيرا حقيقيا عن رغبات وتطلعات واختيارات الجمهور.
ولاشك ان نجاح العملية الانتخابية وحسن تطبيق المعايير المتعلق بها يعني ان فرص معالجة السلبيات وحل الاشكاليات ستكون كبيرة، ومن ثم تتجه الاوضاع الى التحسن، وشيئا فشيئا تختفي او تتضاءل وتضمحل الاخطاء والسلبيات، وتتجلى نتائج وافرازات ومعطيات الاختيارات الصحيحة للجمهور.
قد لاتكون الصورة نموذجية، لاسيما اذا كانت المشاكل والازمات بجوانبها وابعادها وعناوينها المتعددة، كثيرة بحيث لاتعد ولاتحصى، ولكن مجرد تحديد المسارات الصحيحة هو بحد ذاته بداية الطريق نحو تحقيق الاصلاح المطلوب.
فالعراق في هذه المرحلة يأن تحت وطأة ازمات ومشاكل سياسية وامنية وخدمية واقتصادية معقدة وشائكة، واذا كان البعض ينظر الى تلك المشاكل والازمات على انها عبارة عن مخلفات العهد الديكتاتوري السابق بائد، فأن مثل هذا الرأي صحيح في جانب منه، لكنه غير متكامل، لان مايعانيه العراقيون اليوم لايعد في مجمله مخلفات عهد النظام السابق، وانما هناك جزء اخر هو في الواقع انعكاس وحصيلة لاخطاء وسلبيات مقصودة وغير مقصودة في ادارة شؤون الدولة واليات تسيير امورها، سياسيا وامنيا وخدميا واقتصاديا.
نظام صدام سقط وانهار قبل احد عشر عاما، وهذه الفترة الزمنية كافية بلاشك لحل ومعالجة مقدار كبير من المشاكل والازمات والكوارث التي خلفها ذلك النظام فيما لو تصدى اناس مخلصون وصادقون لمواقع المسؤولية ووضعوا مصالح البلاد والعباد قبل مصالحهم ومصالح ذويهم والمحيطين بهم.، وفيما لو وضعت خطط وبرامج ومشاريع علمية وعملية ومدروسة بدقة وتمعن من قبل اصحاب الاختصاص، وفيما لو ازيحت الصراعات والمناكفات السياسية الضيقة جانبا، وتحولت الى نقاشات وحوارات جادة وبناءة تتمحور حول تحسين واقع البلد وابنائه وكيفية استثمار الموارد والخيرات التي من الله بها على بلدنا ولكن الكثير منها للاسف الشديد تبددت وتتبدد بفعل السياسات الحمقاء والاجتهادات الخاطئة وضعف الشعور بالمسؤولية الوطنية، في العهد البائد وبعده الى حد ما.
ان تصحيح الاخطاء وتعديل المسارات مازال ممكنا ومتاحا، والانتخابات تشكل محطة مهمة للاتيان بأشخاص اكثر اخلاصا ونزاهة وكفاءة، ومن حق المواطن ان يتطلع الى اوضاع وظروف افضل توفرها له الدولة، ومن حقه ان ينتقد ويستاء ويتذمر، لكن في نفس الوقت من واجبه ان يسعى الى الاصلاح والتغيير وان يكون عنصرا اساسيا فيه، من خلال مشاركته في الانتخابات، ومن خلال اختياره الافضل والاصلح، ومن دون ذلك فأن شيئا لن يتغير، ان لم تكن الامور ستزداد سوءا.
ان الخلل القائم في اكثر من مجال لايمكن اصلاحه بدون وجود ثقافة ديمقراطية، وبدون انتخابات حقيقية تفرز الاشخاص الجيدين مهنيا وسلوكيا، فالانتخابات-مثلما قلنا انفا-تختزن عوامل ومقومات للنجاح فيما لو اجريت بسياقات واليات دقيقة وصحيحة، ومصاديق النجاح لن تذهب بعيدا وانما لابد ان تنعكس ايجابا على المواطن في مسارات حياته اليومية.