صدر في عام 2013 للكاتب (PHILIP FREEMAN MARCUS)كتاب بعنوان (HOW TO RUN A COUNTRY) –كيف تقود بلدا – عن دار( PRINCETON OXFORD )وهو أستاذ في اللغات القديمة والتاريخ والذي جاء بعد نجاح كتابه السابق الصادر عام 2012 (HOW TO WIN AN ELACTION )- كيفية الفوز في الانتخابات – الذي اثأر نقاشات واسعة حول وجود قيم جوهريه في السياسة لا تتغير رغم تطور التاريخ. و يحتوي الكتاب على مختارات من المقاطع المترجمة من أعمال شيشرون – بما في ذلك الخطب، و الأعمال الفلسفية ، والوصايا – المتعلقة بموضوعات سياسية مختلفة ، مثل الفساد أو الاستبداد، والسلطة ، والتحالفات ، وكيف يتم إحكام قبضه السلطة وكسب الو لاءات السياسية وتغيير التحالفات.
وماركوس توليوس كيكِرو Marcus Tullius Cicero – الملقب شيشرون Cicero – هو الكاتب الروماني وخطيب روما المميز، الذي ولد سنة 106 ق.م، صاحب إنتاج ضخم يعتبر نموذجا مرجعيا للتعبير اللاتيني الكلاسيكي عن صراعات السياسة والذي أثارت شخصيته الكثير من الجدل والتقويمات المتضاربة وخاصة في الجانب السياسي من حياته، فهو (بحسب ثيودور مومسين وجيروم كاركوبينو) تارة مثقف تائه يبحث عن دور له، وتارة أخرى ثري إيطالي صاعد في روما، وثالثة انتهازي متقلب و”أداة طيعة في يد الملكية” و”متملق لبومبي ثم القيصر” ، ولكنه أيضا بحسب (بيير كريمال) الجسر الذي وصلنا عبره جانب من الفلسفة اليونانية… حكيم كشف إسرار السياسة ودهاليزها.
في مقدمته يسلط فريمان الضوء على عشرة دروس يمكن للقراءة الحديثة ان تأخذ من شيشرون قد سبقت أمير ميكيافلي بقرون طويلة وهي( أن هناك قوانين عالمية تحكم تسيير الشؤون الإنسانية “، “الدهاء ليست كلمة قذرة “، ” الحل الوسط هو المفتاح لانجاز الأمور “ا يجب ان تزحف و تزحف على الناخبين ، واعدا أشياء مستحيلة ، والتظاهر بالصداقة حيث لا وجود لها ، والكذب ، اللعب مع الأقوى ، تقديم الوعود ، وشراء الولاءات ثم الانقضاض عليها .
ويرى فيليب فريمان أن كتاب كيفية الفوز في الانتخابات يعد ” من الإعمال الكلاسيكية على غرار” الأمير لمكيافيللي “، لأنه ” قدم نصائح للسياسيين الذين يطمحون إلى السلطة صالحة لكل زمان بعيدا عن القيم الفاضلة ” وقد حاول فريمان للعثور في خطبه على الاقتباسات التي لها أهمية خاصة في عالم السياسية اليوم.
ما أردته من وراء هذا الاستطراد هو إيجاد صله بين ما جرى في الانتخابات الاخيره في العراق والقيم التي تسود عالم السياسة وان تغيرت العروش والجيوش والتعبيرات السياسية. وعلينا أن نعترف هنا ان الكثيرين ممن صدموا او أصيبوا بالخيبة راهنوا على حدوث تغيير كبير في جوهر المشروع السياسي العراقي الذي غرسه البيت الأبيض في العراق بعد عام 2003 فيما بشر الخطاب الإعلامي لرئيس الحكومة بالسعي لكسر اطر التوزيع ألاثني لسلطات ألدوله بين المكونات الثلاث الرئيسية التي طمرت تحتها الهوية الوطنية وفجرت صراعا عنيفا إلى ألان وعرقلت أداء حكومة المحاصصة.
فربما استبشر الكثيرون بدعوات السيد نوري المالكي حول حكومة الأغلبية السياسية و الذي ربما اتبع فيها بوعي او بدونه نصائح( شيشرون وميكافلي) بحرفيه ألهمتها له سنوات السلطة السبع او ربما كانت (جينيه) في عراق لم يعرف في تاريخه معنى العدالة الحقيقية لدى الحكام الذين تناوبوا على عروشه .فلا احد مقتنع اليوم بعد إعلان نتائج الانتخابات وان صحت النوايا ان بالإمكان القفز على واقع طائفي تشكلت معماريته على الأرض وأصبح حقيقة يتعامل بها الجميع في سلوكهم ومفرداتتهم وخطابهم السياسي والإعلامي. فشكل الهرم السياسي لم يشهد أي تغيير جوهري باستثناء بعض الرتوش المدنية اللبرالية التي سيضيع صوتها وسط القاعة.
ولا تبدوا في الأفق أي بشائر تغيير يعيد للهوية العراقية حضورها على حساب الهوية الفرعية رغم ان ما يطالب به العراقيون وهو من ابسط مقومات ألدوله : الأمن وإنهاء العنف وتوفيرا لخدمات لا غير…مما يكشف ان الإرهاب قدم خدمة كبيره لا غلب المتنافسين على السلطة في العراق وان الفساد وفر لهم الأموال لتشويه الديمقراطية وهو ما يلقي بالشكوك حول جديه الحرب على القاعدة وسراق بيت المال !
وإذا كانت هذه الانتخابات التي تعتبر الأخطر منذ عام 2003 قد كرست بقاء المالكي على مقعد رئيس الحكومة في بغداد وفق الحسابات الأولية للنتائج والتحالفات، فان اربيل لم تخرج هي الأخرى عن قواعد أللعبه بإعادة تسمية نيجيرفان البارزاني رئيسا لحكومة إقليم كردستان للمرة الثالثه، وتنصيب قوباد الطالباني نجل رئيس الجمهورية نائبا له بأغلبية الأصوات!!!. وهو ما يضع علامات تعجب حول اتهام مسعود لبرزاني للمالكي (بالدكتاتورية ) ما دمنا (كلنا في الشرق هم) حسب وصف شوقي … ويثير التشابه التساؤل بين العاصمه والاقليم حول أسباب استمرار الزعامات التقليديه في عروشها و مدى قدره شعوب دول العالم الثالث على تمزيق شرانق حكم العائلة والزعيم الأوحد ؟؟؟..
على اية حال لم يكن مستغربا ان تسارع واشنطن وطهران ولندن وممثل الأمم المتحدة في بغداد البلغاري ملادينوف على مباركه الانتخابات الاخيره وعدم الإصغاء لمن طعنوا بنزاهتها والطلب من (المشاغبين ) الكف عن التذمر وعدم الطعن بشفافيتها والقبول بالأمر الواقع والتعامل معها بلا تحفظ رغم المعلومات التي نقلها المراقبون وساسه عراقيون حلفاء لواشنطن مثل الجلبي وغيره بحدوث تزوير واسع و كبير خصوصا في المناطق الساخنة والتصويت الخاص وتصويت الخارج وهو ما يدفع على الاعتقاد ان حبل الود بين طهران والغرب بدا يأتي أكله في العراق قبل غيره !!.
هذه الخروق الانتخابية لم تغب عن عيون السفارة الأمريكية في بغداد التي ثبت لها استغلال المناصب وسلطة الدولة وتوظيف الأموال الطائلة بشكل غير معهود في اي من دول العالم في ظل عدم وجود قانون للأحزاب وتمويل الانتخابات . وتحدث البعض عن( مليار دولار) أنفقت لشراء الأصوات والدعاية الانتخابية وتمويل عمل المفوضية وهو ما لم ينفقه الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الانتخابات الأمريكية !!!!!!!!.
على سبيل المثال في احد تقارير لجنان المراقبة وصف للتزوير السافر في مناطق حزام بغداد التي هجرها سكانها بسبب الفيضانات والإرهاب وهي شبه مهجورة واغلب سكانها مناوئون للمالكي.. لكن أرقام المفوضية أكدت مشاركة ٩٦٪ منهم في الانتخابات .. والاهم من ذلك ان ٩٠٪ منهم صوتوا لدولة القانون وللسيد نوري للمالكي؟!!!
لقد أعلنت المفوضية عشية انتهاء الاقتراع العام ان نسبة التصويت في بغداد بلغت ٥٠٪ ثم عادت بعد أسبوعين لتعلن نسب المشاركة في مناطق حزام بغداد لتصبح النسبة العامة للعاصمة ٦٤٪ وهكذا ارتفعت عدد الأصوات لشغل أي مقعد مما شكل نكسه للأحزاب الصغيرة .
في بعد آخر ربما شعرت الرياض وحلفاءها بالصدمة و(خيبه الأمل) حسب عنوان افتتاحية عريض لصحيفة( الحياة) اللندنية رغم ان البعض يتحدث عن نوع من التوازن داخل البرلمان الجديد بين حلفاء طهران والمعادين لتدخلها بالشأن العراقي كمثال الالوسي، فائق شيخ علي،د موفق الربيعي، بحر العلوم،د مهدي الحافظ وغيرهم والذي يعزز رصيد القوائم العربية السنية في العراق التي يقال أنها حصلت على دعم عربي سخي قبل الانتخابات، و يرضي الدول العربية وتركيا التي دخلت في صراع إقليمي من اجل دفع إيران على الانحسار الإقليمي في الشرق الأوسط لكنها صدمت بالانفتاح بين آيات الله (النووين) والبيت الأبيض وفشل إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد في دمشق وتكسر اطلاع (الهلال الاخواني) من تونس إلى مصر وليبيا .
كان واضحا في هذه الانتخابات ان الساسة العراقيين الذين مثلوا رموز حقبة (العراق الأمريكي )قد أصبحوا أكثر قدره على ألمناوره وتحوير مبادئ (جيفرسون ) عن الديمقراطية واللعب بكل الأوراق والسير على حبال مشدودة ونفض يدهم من الايدولوجيا والشعار الديني دون أدنى تردد بل واللعب بالأوراق الرابحة من خارج أحزابهم وان كانوا علمانيين والتخلص من (الخيول الهرمة ) ولعل ابرع من استخدم هذا النهج هم (كتله المواطن)بقياده الزعيم الشاب عمار الحكيم الذي انفتح على الجميع ولازال يراهن !!
. فالمواطن لم تحصل في النجف الاشرف عقر دارها سوى على مقعدين الأول فاز به السيد عبد الهادي الحكيم وهو مستقل ( الوحيد الذي يسمح له بلقاء السيد السيستاني ويعتبر حلقة الوصل مابين الطبقة السياسية وبين المرجع الأعلى الذي اعتزل لقاء السياسيين) وتم ترشيحه بدعم من مكتب السيد السيستاني ففاز في الدورة السابقة ، وفي هذه الدورة أيضا… مثال أخر وهو السيد محمد الطائي وهو شيوعي سابق و صاحب (قناة الفيحاء )وحصل بواسطتها على أكثر من ٦٢ ألف صوت فكان هو الفائز الأول في ألبصره ، ثم جاء الفائز الثاني الشيخ عامر الفايز مرشح( الطائفة الشيخية) فيما خسر النائب فرات الشرع مدير مكتب المجلس الأعلى في البصرة.وفي بغداد حصلت قائمة المواطن على خمس مقاعد احدها للجلبي والاخر لابراهيم بحر العلوم وهما من خارج المجلس.
الفائز الأول وهو دولة القانون وحلفاءه استغل بدهاء مفرط غباء إعلام (البغدادية ) الذي خدمه وخلق تعاطفا شيعيا كبيرا معه في ظل أزمة الانبار أي الصراع ضد وحش خرافي دموي اسمه (داعش) يزحف نحو عاصمة الرشيد لإغراقها بالدم ليلتف الخائفون حول (القائد الضرورة) متناسيه كل الأخطاء والأزمات والفساد وتعثر مشاريع الأعمار وأعاده بناء دوله مزقتها الحروب والإهمال ومافيا السياسة والميليشيات وتحول الرشوة وسرقه المال العام الى سلوك يومي يمارسه الكثيرون… فيما كان أقارب السيد رئيس الوزراء في كربلاء الأكثر سخاء مع الناخبين حتى ان علي الأديب الذي يترأس القائمة جاء متأخرا عنهما في التسلسل!!! كيف لا وقد فتحا (باب علي بابا) من التعيينات على مصراعيها ووزعوا الأموال بلا حساب ولم يضاهيهم سوى السيد بهاء الاعرجي الذي يذكر احد العارفين انه انفق 10 مليارات دينار عراقي لا ادري من أين حصل عليها وهو رئيس هيئه النزاهة ونجم برنامج الساعة التاسعة في البغدادية ؟؟؟!!!!
ان من بين ما تكشفه هذه الانتخابات هو انه رغم الحديث المبالغ فيه عن دولة دينية شيعية في العراق يمارس الملايين فيها شعائرهم فان واقع الحال تحت الارض اظهر أمورا مغايره تكشف عن التحولات في الاتجاه المعاكس اجتماعيا فقله هم من أصغوا لوصايا النجف بمقاطعه الفاسدين وانتخاب الأصلح وصاحب السمعة الطيبة والنزيه ما دام الأمر يتعلق هنا بالمال والوعود وليقتصر دور المراجع على مراقبه هلال العيد وإحياء المناسبات الدينيه!!!. .
لا بل ان الأدهى ان الحكومة وهي شيعية هذه المرة ا(انتصرت )على مرجعية السيد السستاني في النجف التي لم يصغ لها الكثير من ألشيعه والتي ربما لم تكن محايدة مثلما هو خطابها المعلن . فجماعه السيد الحكيم التفوا حول المرجعيات الدينية حتى دفعوا الشيخ بشير ألنجفي لتحريم انتخاب المالكي وحصر التصويت لصالح قائمة السيد عمار الحكيم باعتباره( ابن المرجعية وابني) –حسب تعبير النجفي!!!
قبل عامين انتبه كبار القادة الطامحين للبقاء بالسلطة إلى احد مفاتيح الفوز بالانتخابات الا وهي المفوضية العليا التي تم تقاسم قياداتها بين الكبار لإرضاء الجميع و من بعدها تطبيق قانون (سانت ليغو المعدل) الذي ابتكر عام 1910 والذي تستفيد منه الأحزاب الكبيرة على حساب الصغيرة منها والمطبق في النرويج والسويد عام 1951 حيث الحق إضرارا كبيره بأحزاب صغيره أرادت ان تكون خارج التبعية للكبار .
ولابد من الإشارة هنا إلى أن عدد المقاعد في هذه الانتخابات لا يكشف عن الثقل السياسي الحقيقي لأي حزب وكتله على ارض الواقع لان (منظمة بدر) مثلا حصلت على أكثر من عشرين مقعدا بفضل وجودها داخل دولة القانون ولو كانت خارجه لما حصلت على ربع هذه النسبة ، ويصدق الأمر على (حزب الدعوة تنظيم العراق )الذي ليس له وجود واقعي على الأرض والذي حصل على ١٢ مقعدا بفضل وجوده تحت جناح المالكي ونفس الحال ينطبق على جماعة الشهرستاني، وكتلة مستقلون التي لم تفلح في دعم زعيمها خالد العطية للفوز بمقعد في الديوانية.
ربما تكون هذه الانتخابات قد ساهمت في عمليه( تنقيه) الأجواء للقادة السياسيين سنه وشيعه بالدرجة الأولى وتخليصهم ممن فقدوا بريقهم واستبدالهم بوجوه مغمورة ستصغي ولن تعترض على قادتها ولن تنافسهم فالمالكي تخلص من معظم المشاكسين ومن اثأروا امتعاض قاعدته التقليدية من أمثال : الشابندر، العطية العسكري، السنيد، الشلاه ، الساعدي، محمود الحسن، شيروان الوائلي، وليد الحلي، العنزي، وحسن الياسري.
وعمارا لحكيم تخلص من اقوي شخصيات كتلته: عبد الحسين عبطان وجواد البزوني. والاحرار تخلصوا من العلوي ومن جعفر الموسوي وجواد الحسناوي ولقاء ال ياسين والشهيلي. وتخلص متحدون من سلمان الجميلي او ربما هي ألصدفه وسوء الأداء وتبدل قناعات الناخبين .
على أية حال وبعيدا عن التصريحات الإعلامية ثمة معركة تكابش حاسمة بين الفائزين الكبار لعل أخطرها هي تلك التي ستدور رحاها داخل البيت الشيعي لحسم منصب رئيس الوزراء الذي لن يتخلى عنه المالكي بأي حال ولو قاد الأمر لإبقاء حكومة تصريف الإعمال لشهور طويلة فيما يترقب ملايين العراقيين الغد بألم وقلق وترقب
ومن يعش رجبا يرى عجبا !!!