الانتخابات المقبلة في الجزائر إيذان بمرحلة جديدة، ستتميز بأفول السياسة لأصحاب المال والأعمال ضمن أطر عملية تتم بوعي كامل من طرف قادة الأحزاب، حيث التكالب على نهب مقدرات الدولة بإشراف حزبي.
كل المعطيات الحالية على الساحة الجزائرية تشير إلى أن الانتخابات التشريعية (البرلمانية) المقبلة، المزمع إجراؤها في الرابع من مايو، ستجعل من الواقع الراهن حالة عامة ومسيّسة ومَحْميَّة بقوة القانون، وهذا يعني أن ما اعتبره إعلاميا مالاً فاسداً سيكون في ظل سياسة التقشف نتيجة انخفاض أسعار النفط، عاملاً فاعلا في الاقتصاد الوطني، بعد تبييضه، وإشراك أصحابه في العمل السياسي، وتمكينهم من تطويع القانون لصالحهم، والأكثر من هذا حمايتهم بالحصانة البرلمانية من أي متابعة خلال خمس سنوات، وهي فترة تواجدهم في المجلس الشعبي الوطني.
تأثير المال على الانتخابات ليس بدٍعاً أو حكْرا على التجربة الجزائرية، إذ نراه في كل التجـارب الديمقراطية في دول العـالم، بما فيها تلك التي تملك تجربة رائدة وثريّة، لكنه في التجربة الجزائرية يظهر نتيجة لفساد عام، ومن هنا تأتي مخاوف أغلبية الجزائريين، والسلطة شريك في ذلك بما وفرته، وبما ستوفره، من حماية قانونية، وبما تتيحه من تسهيلات للحصول على أموال الدولة الجزائرية، حيث يتم التصرف فيها باعتبارها ملكية خاصة لبعض المسؤولين، ومع ذلك فهي لا تتحمَّل الوزر الأكبر مقـارنة بكـل الأحـزاب -سواء أكانت في السلطة أو المعارضة- فهذه الأخيرة أبرمت صفقات ظـاهرة مع رجال المال والتجار بالمليارات من الدينارات، لأجل ترشيحهم على رأس قوائمها في الانتخابات المقبلة.
الحال تلك، تعني أن السياسة في الجزائر تخسر مواقعها وتوجهاتها لصالح رجال المال، المدهش أن القليل منهم يقدم إضافة في مجال الإنتاج، رغم الدعم المباشر الذي يحظى به من الدولة عبر مشاريع وهمية أو حقيقية، ضمن سياسة النهب لمقدرات الاقتصاد الوطني، ولأموال الخزينة، برعاية الأحزاب على مختلف توجهاتها وبرامجها الحزبية، إذ لا تختلف أحزاب أقصى اليسار عن أحزاب الوسط، وعن أحزاب أقصى اليمين، فالمبادئ الاشتراكية والقضايا الوطنية الكبرى، وميراث الثورة، وقواعد الدين وشروطه ومقاصده، جميعها تُطوّع لخدمة أصحاب رؤوس الأموال، وتبرئة ذممهم، والدفاع عنهم، الأمر الذي يشي بعزوف منتظر من جيل الشباب عن المشاركة السياسية.
من ناحية أخرى لم تعد الأحزاب الجزائرية بكل أطيافها معنيّة برد فعل الشارع، بما فيه قواعدها الجماهيرية، لأن الرهان لم يعد -كما كان في السابق- على النضال أو الانخراط فيها أو حتى على شعبيتها على أساس الانتماء الأيديولوجي والسياسي، وإنما على القوة المالية، وهذه تتحقق من خلال دعم رجال المال والأعمال، وما يتم تحصيله منهم يمكن المساهمة ببعضه في دعم قواعد الأحزاب، وهذا التحالف القائم بين الأحزاب من حيث هي تنظيمات معترف بها من الناحية القانونية وبين نشاط رجال المال الحقيقي أو المزيف، لا يخص فترة الانتخابات فقط، هو الذي سيحدد مسار حركة العمل السياسي في الجزائر، وملامحه الراهنة تكشف عن فهم خاطئ للممارسة الديمقراطية، وما يتبعها من تغير في شبكة العلاقات الاجتماعية.
نتيجة لذلك، لم يعد العمل السياسي في الجزائر يشكل أملا في تغيير منتظر، لأنه بات مقرونا عند الرأي العام بالنصب والاحتيال، وتزييف الواقع، كما أن هناك شكا دائما في السياسيين عموما، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية. يضاف إلى ذلك وجود مخاوف مبررة على صعيديْن؛ الأول محلي، وفيه تبدو المخاوف الآتية من العشرية الدموية، محملة بتكاليف باهظة، تكرارها يؤدي بالبلاد إلى الهاوية. والثاني قومي يتعلق بطبيعة المرحلة، وهو مؤرق للجزائريين جميعهم، والمقصود هنا ما حدث من تطورات سياسية في الدول العربية الأخرى، بغض النظر عن فشل التجارب أو نجاحها، انطلاقا من دول الجوار، خاصة تونس وليبيا، وانتهاء بالدول العربية الأخرى، سواء تلك التي تعمل من أجل الخروج من أزمتها، أو الأخرى التي تعيش ويلات الحرب الداخلية مثل سوريا والعراق، أو التي تسبب وضعها الداخلي في عداوة وحرب مع جيرانها، مثل اليمن.
عمليا، تعلن غالبيّة الشعب الجزائري عن تذمّرها من الحكومة ومن السلطة عموما، ومن أحزاب المعارضة، وتنتهي إلى القول؛ إن السياسيين مهما اختلفوا وتعددت مواقعهم وتنوعت يشكلون فريقا واحدا لجهة تحقيق المصالح الفردية أو الحزبية الضيقة، والخلاف بينهم بدايته ونهايته المكاسب، وقد يكون في ذلك نوع من التعميم غير المؤسس أو الحكم الظالم، لكن ما يطرح في كل بيت جزائري، وقبل بداية الحملة الانتخابية، يشير إلى إدراك وفهم وتبصّر بالدور الذي يلعبه السياسيون، وهو دور جعل عامة الشعب تراهن على الأفراد، وليس على الأحزاب أو برامجها، ولهذا يتوقع أن يكون اختيار المرشحين طبقا لما حققوه من إنجازات على الأرض، وهذا سيربك الأحزاب لجهة النتائج ونسب الفوز، وبالتالي المشاركة في الحكومة المقبلة، لكنه لن يقلل من دور أصحاب رؤوس الأموال، ولا من نصيب جماعات الفساد.
الانتخابات المقبلة في الجزائر إيذان بمرحلة جديدة، ستتميز بأفول السياسة لأصحاب المال والأعمال ضمن أطر عملية تتم بوعي كامل من طرف قادة الأحزاب، حيث التكالب على نهب مقدرات الدولة بإشراف حزبي، ولأن معظم الذين سيفوزون سيكونون من أصحاب المال، فإن المرجح هو تعميق الوضع الطبقي، بما يحقق انتهاء الطبقة الوسطى، أو تهميشها والتقليل من دورها، ومعها ستتراجع الثقافة والفنون ومنظومة القيم بشكل عام.
إذن لم تعد الأدبيات ولا البرامج الحزبية ذات أهمية، بل إنه لا جدوى من مناقشة مختلف القضايا من خلال رؤية سياسية قائمة على التمييز بين الرؤى، لأن الاختلاف في الأطروحات لا يؤدي إلى اختلاف في النتائج، مادام هناك إجماع على تطويع السياسة لصالح المال الفاسد، وتحويله إلى مكسب يدعم اقتصاد الدولة، دون أن تعبأ بمصادره، أو السؤال من أين جاء وفي ما ينفق؟ مثلما لم تسأل أيا من رجال المال: من أين لك هذا؟ كما لم تسأل الأحزاب: كيف؟ ولماذا وضعتهم على رأس القوائم الانتخابية؟
نقلا عن العرب