خامنئي يتابع ما يدور في فرنسا وبريطانيا وألمانيا بكل تفاصيله. نتائج هذا البركان السياسي الذي يعصف بأوروبا، سيحدد كثيرا من أبعاد رؤيته لإيران ما بعد رحيله. في الغالب خيار الاحتفاظ بروحاني في الرئاسة هو الأرجح في عقل خامنئي الآن.
رؤية إيران للانتخابات الفرنسية التي تبدأ مرحلتها الأولى اليوم، والانتخابات التي ستجرى لاحقا في بريطانيا وألمانيا، تتوقف على ما يريده المرشد الأعلى علي خامنئي بالضبط. المزاج السياسي الغربي سيحدد أبعاد النظام السياسي الإيراني. المتشددون والإصلاحيون من قمة هرم السلطة إلى قاعدته يعرفون ذلك جيدا. الأهم هو أن المرشد بات مدركا أن الوقت لم يعد في صالحه، وأن هذه المرة ليست كسابقاتها.
أخيرا بدأ يتضح بعض مما يدور في رأس خامنئي، وهو أنه قلق ومرتبك أكثر من أيّ وقت مضى. سحب أحمدي نجاد من السباق الرئاسي هو أوضح صورة لهذا الارتباك. خامنئي لا يريد أن يقامر بمستقبل إيران الذي يبدو قاتما.
اليوم صار هناك 6 مرشحين بعد تصفية أكثر من 1600 مرشح من قبل مجلس صيانة الدستور. الأضواء كلها مسلطة من بينهم على أربعة مرشّحين فقط. هؤلاء الأربعة مقسمون بالتساوي: اثنان محافظان (إبراهيم رئيسي ومحمد باقر قليباف)، واثنان إصلاحيان (حسن روحاني وإسحاق جهانغيري). مع الوقت سيتحول السباق إلى صراع ديكة بين رئيسي وروحاني. هذا ما يريده خامنئي وما عكف مع مساعديه على صياغة تفاصيله طوال الأشهر الماضية.
خامنئي على دراية كاملة بالانقسامات الحادة التي تعصف بأركان النظام. نفوذ الحرس الثوري لم يعد له حدود. المصالح الاقتصادية الهائلة التي يسيطر عليها قادة الحرس لم تعد كافية، وبات حصد المزيد من المكاسب مطلوبا تماشيا مع المتغيرات الحادة في إيران وخارجها.
المد العام في إيران اليوم محافظ تماما. الوفاة المفاجئة للرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني وحصار الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي قلصا كثيرا من بيئة الدعم السياسي لخطط روحاني داخل النظام. استمرار وضع مير حسين موسوي ومهدي كروبي تحت الإقامة الجبرية قلص دعم روحاني في الشارع.
هذا الفراغ الذي تركه الإصلاحيون وراءهم كان مجالا مفتوحا أمام المحافظين لملئه. تبعات توقيع الاتفاق النووي مع القوى الكبرى في يوليو 2015 لم تصل مباشرة إلى الشارع لأن المحافظين شكلوا حاجزا في المنتصف يعيق تحقيق الأهداف الاقتصادية والسياسية التي تم توقيع الاتفاق من أجلها. حياة الناس في شوارع طهران وأصفهان وتبريز ومشهد وشيراز لم تتغير كثيرا. لم تتراجع أيضا سياسة قمع الحريات وغلق المجال العام وحصار المرأة.
على المستوى الخارجي لم يحدث شيء يذكر في إصرار إيران على توسيع نفوذها في المنطقة. روحاني يعرف أن تصدير الثورة الإيرانية ليس من بين اختصاصاته. هذه عقيدة أيديولوجية وسياسية يقوم عليها نظام الحكم الثابت منذ الثورة عام 1979. في إيران الرئيس متغير ولا ينظر إليه على أنه واحد من بين الثوابت في النظام.
رئيسي “المرشد”
باستثناء الاتفاق النووي الذي جاء في ظروف استثنائية، احتاجت فيها إيران لهذا الاتفاق أكثر مما احتاجه الغرب، ما هو الفرق الجوهري بين رئيس محافظ أو آخر إصلاحي؟
في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أو الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، لم نكن لنجد فرقا ولو طفيفا. حتى خاتمي، أكثر الإصلاحيين إصلاحا، لم يسمح له عمليا بممارسة مهامه، وتحولت الرئاسة في عهده إلى “معتقل” كبير لأنه كان على وشك إحداث تغيير حقيقي.
لكن في زمن خاتمي، ومن بعده نجاد، لم يكن اليمين الشعبوي الأوروبي في طريقه إلى الصعود، ولم يكن دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. منذ منتصف التسعينات من القرن العشرين اعتاد النظام على أن يختبر ردود فعل الغرب أولا قبل أن يحدد هوية الرئيس الإيراني المقبل. اليوم تقف إيران أمام غرب أكثر تشددا، ورئيس أميركي غير قابل للاختبار.
ترامب جاهز أكثر من أي رئيس سابق لقيادة الغرب في معاقبة إيران.
المفارقة هي أنه لو نظر ترامب في المرآة فسيرى خامنئي، وإذا ما نظر خامنئي في المرآة فسيرى ترامب. كلاهما يحاول تعزيز نفوذه الخارجي، وكلاهما يحكم بلدا منقسما على نفسه. ترامب يريد أن يثبت لحلفائه في المنطقة أنه يستطيع تقويض نفوذ إيران في المنطقة، وخامنئي يريد أن يثبت لحلفائه وللداخل أنه يستطيع أن يقف في وجه ترامب.
الرئيس الأميركي يميل لنهج المتشددين تجاه إيران في الحزب الجمهوري، والمرشد الإيراني يقود المتشددين في مواجهة “الشيطان الأكبر” في الحرس الثوري ومجلس الخبراء والمؤسسات الدينية المحافظة.
الفرق الوحيد هنا هو أن خامنئي يعلم أنه ربما لا يستطيع التمسك بالحياة حتى نهاية دورة ترامب الأولى. مرض خامنئي دخل أسوأ مراحله على الإطلاق.
تصعيد رئيس متشدد في إيران لمواجهة ترامب بات مغامرة غير محسوبة العواقب. حالة اللايقين التي تسيطر على النظام اليوم هي الطريق الوحيد لقراءة ما يدور في ذهن خامنئي. المرشد الأعلى في حيرة أمام خيارات محدودة، عليه أن يعتمد واحدا منها في أسرع وقت ممكن.
خامنئي يعرف أنه لا يمكن السماح بتولّي إصلاحي منصب المرشد الأعلى، كما لا يريد أن يدار منصبه بعد وفاته بحكم الشورى (عبر لجنة تشكل لإدارة شؤون البلاد وفقا للدستور الإيراني).
قبل نحو 28 عاما استبعد الخميني في آخر لحظة رجل الدين المعتدل آية الله حسين منتظري من خلافته لصالح المتشدد خامنئي.
طريقة الخميني في اختيار خامنئي لخلافته ستشكل عاملا حاسما في وجدانه عند اختيار خليفته أيضا.
هنا يأتي دور إبراهيم رئيسي. هذا هو الرجل الذي يحظى بأكبر قدر من ثقة خامنئي. ترشيح رئيسي لخوض الانتخابات لم يكن الهدف منه توليه الرئاسة في إيران. هذا ترشيح ضمني لمنصب المرشد الأعلى.
لا يعرف الكثيرون من خارج نظام الحكم إبراهيم رئيسي جيدا. هذا رجل قضى أغلب عمره في سلك القضاء، وتولى أكبر مؤسسة مسؤولة عن التبرعات والأعمال الخيرية، وكثير من مصادر تمويل أنشطة الحرس الثوري في الخارج. المجتمع الإيراني في حاجة إلى أن يتعرّف على الرجل الذي قد يصبح الحاكم المطلق للبلد خلال أشهر.
الرسالة التي بعثها مكتب خامنئي إلى واشنطن، والتي سربها أبو الحسن بني صدر (أول رئيس إيراني بعد الثورة) تؤكد خطط خامنئي بتصعيد إبراهيم رئيسي تماما. يقول بني صدر، الذي عزل عام 1981 ويعيش في المنفى حاليا، إن “إيران أرسلت رسالة لترامب تقول إن خامنئي في وضع صحي حرج، وإن خليفته سيلعب دورا يشابه دور المرجع الديني آية الله علي السيستاني في العراق”.
تصريحات بني صدر التي نشرها موقع “إيران واير” المعارض تؤكد أن “الرسالة الإيرانية إلى ترامب تشبه الرسالة التي تم إرسالها إلى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان وتم إبلاغه فيها حينها بقرب نهاية حياة الخميني”.
الهدف من هذه الرسالة كما يقول الرئيس الإيراني الأسبق هو “المطالبة بخفض العقوبات ضد طهران لما بعد الانتخابات الرئاسية”.
النظام يطلب من ترامب فرصة لالتقاط أنفاسه وتحديد أولويات المرحلة المقبلة. يبدو أن إيران مريضة أيضا، وليس المرشد الأعلى فقط.
يتابع خامنئي ما يدور في فرنسا وبريطانيا وألمانيا بكل تفاصيله. نتائج هذا البركان السياسي الذي يعصف بأوروبا، منذ أن قررت بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، سيحدد كثيرا من أبعاد رؤيته لإيران ما بعد رحيله. في الغالب خيار الاحتفاظ بروحاني في الرئاسة هو الأرجح في عقل خامنئي الآن.
سحب إبراهيم رئيسي في آخر لحظة من الانتخابات كفيل بتحقيق المطلوب: فوز روحاني بسهولة على من تبقى من المرشحين المحافظين، والنجاح في تقديم رئيسي للشعب الإيراني كوجه مقبول لا يتردد في التنازل من أجل الحفاظ على الاتفاق النووي، وإفساح المجال أمام روحاني لتنفيذ خططه “الإصلاحية”. بعدها سيكون الطريق ممهدا أمام إبراهيم رئيسي ليحل محلّ خامنئي.
نقلا عن العرب