برز في الاونة الاخيرة توجهان اميركيان ينطويان على قدر كبير من الاهمية والخطورة، لانه زمن خلالهما يراد اعادة تشكيل المشهد العراقي العام لعدة اعوام قادمة.
التوجه الاول يتمثل بتقديم الدعم التسليحي للعشائر السنية العراقية في المناطق الغربية لمحاربة تنظيم داعش، مثلما يتم تقديم الدعم للاكراد، بعيدا عن الحكومة الاتحادية، والتوجه الثاني يتمثل بالسعي لتحجيم قوات الحشد الشعبي، واخراجه من معادلة الصراع والمواجهة مع “داعش” علما انها-اي قوات الحشد الشعبي-اثبتت خلال الشهور الخمسة الماضية انها الرقم الاصعب والاهم في تلك المعادلة.
ما يتفق عليه الكثيرون، بصرف النظر عن عناوينهم المذهبية والقومية والسياسية والمناطقية في العراق، هو ان الاميركان يعملون وفق اجندات خاصة تصب في مصالحهم، ولاتشكل المصلحة-المصالح-العراقية اولوية بالنسبة لهم.
والتساؤل الذي يطرح نفسه في الاوساط السنية قبل غيرها.. الم يكن بأمكان الاميركان ان يمنعوا تمدد داعش في المحافظات الغربية، ليسيطر على اجزاء كبيرة من نينوى والانبار وصلاح الدين، ومناطق من ديالى وكركوك؟.
وببساطة وبوضوح يمكن القول، اذا كان الاميركان قادرين على فعل ذلك فلماذا تركوا الامور تتداعي وتبلغ مستويات خطيرة قبل ان يتدخلوا، واذا لم يكن بأمكانهم وقف داعش بالامس، فهل يستطيعون ايقافهم اليوم، علما ان الظروف والاوضاع اذا كانت قد تغيرت، فنحو الاسوأ لا الافضل.
ولعل مجمل القراءات تشير الى ان واشنطن تشعر بحرج كبير ازاء عجزها عن توجيه الامور بما ينسجم مع مصالحها ومصالح حلفائها واصدقائها، في ظل ضغوط من اطراف عراقية وضغوط مماثلة من اطراف خارجية.
الاطراف العراقية-والتي هي من الفضاء السني عموما-من جانب تشعر بخطورة تنظيم داعش عليها، رغم ان البعض منها وفر في اوقات سابقة، وربما حتى الان، ارضيات ومناخات ملائمة جدا لظهور داعش وجماعات ارهابية اخرى، ومن ثم تمددها وانتشارها الى مساحات اخرى، وفي ذات الوقت تتوجس كثيرا من تشكيلات الحشد الشعبي، ولاتتفاعل مع فكرة مشاركته في تطهير المناطق السنية من الارهابيين، لانها تنظر اليه من زاوية طائفية – مذهبية، لذلك راحت تطالب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بدعمها بالمال والسلام لتشكيل قوات شبيهة بالحشد الشعبي.
فمحافظة الانبار، التي هدد مجلسها المحلي اكثر من مرة بتجاوز الحكومة الاتحادية والذهاب الى واشنطن للحصول على مساعدتها لمحاربة تنظيم داعش، كشفت مؤخرا عن موافقة اولية لقيادة التحالف الدولي على إنشاء مركز عمليات مشترك لتدريب الشرطة المحلية وابناء العشائر وتسليحهم للمشاركة في تحرير مناطق المحافظة، وفي هذا السياق يؤكد رئيس مجلس المحافظة صباح كرحوت “انه تم الحصول على موافقة التحالف على هذا الطلب”، مشيرا الى “ان وفدا من مجلس المحافظة سيسافر الى واشنطن للقاء المسؤولين الامنيين هناك”.
وفي نفس السياق هدد نوب محافظة صلاح الدين في البرلمان العراقي بتقديم طلب مباشر للتحالف الدولي لأدخال قوات اجنبية تتولى محاربة الارهاب وابعاد اية قوة تسببت في ايذاء المواطنين بالمناطق التي كانت تحت سيطرة داعش. ويشير هؤلاء النواب في تصريحات صحفية الى “ان مايحصل في مناطق محافظة صلاح الدين من تجاوزات مستمرة على ارواح واملاك المواطنين هو تحشيد اضافي وذريعة لتبرير الوجود غير المقبول للارهاب في مناطقنا”.
في حين اعلنت عشيرة البونمر، التي ارتكب تنظيم داعش قبل عدة اسابيع مجزرة رهيبة بحق ابنائها كانت نتيجتها استشهاد مايقارب ثلائمائة شخص من بينهم نساء واطفال، انها ستشتري اسلحة من الولايات المتحدة الاميركية بقيمة مليون دولار، اذ قال شيخ العشيرة نعيم الكعود “ان عشيرته اشترت أسلحة بقيمة 900 ألف دولار أمريكي على نفقتها الخاصة لتسليح أبناء العشيرة لقتال عناصر تنظيم الدولة بمدينة الرمادي”، في ذات الوقت الذي طالب فيه الحكومة الاتحادية “بتسليح أبناء العشيرة الذين بلغ عدد المتطوعين فيها أكثر من 3500 متطوع لحاجتهم للاسلحة والاعتدة خلال المواجهات مع التنظيم”.
وتزامنت تلك التوجهات مع تسريبات وتلميحات اميركية عن نوايا لواشنطن بتشكيل جيش سنوي قوامه مائة الف شخص يتكفل بمهمة القضاء على داعش في المناطق الغربية
وبحسب تقرير تداولته وسائل اعلام عربية قبل ايام قلائل، أبلغت الإدارة الأميركية زعماء عشائر عراقيين وممثلي فصائل مسلحة ومسؤولين حكوميين، نيتها تشكيل قوات من مائة الف مقاتل في المناطق السنية، ويصار الى التعامل معه من قبل الحكومة الاتحادية مثلما يتم التعامل مع قوات البيشمركة الكردية.
ويقول أحمد الجميلي، هو أحد شيوخ عشائر الأنبار الذين كانوا ضمن وفد عشائري زار واشنطن قبل فترة وجيزة “ان واشنطن ترفض تكرار تجربة الصحوات التي تخلت الحكومة عنها في السابق، واقترحت أن تكون القوّة رسمية ضمن تشكيلات وزارة الدفاع، ووعدت بتسليحها مباشرة من دون العودة الى الحكومة المركزية”!.
ويبدو ان اطرافا اقليمية وعربية، ابرزها السعودية وقطر وتركيا والاردن، تدفع بهذا الاتجاه، وكل منها له رؤيته وحساباته الخاصة، الا انهم يلتقون عند نقطة واحدة، ومعهم الولايات المتحدة، الا وهي ان تقوية السنة عسكريا وتسليحيا، والعمل على ايجاد نموذج لهم مشابه للنموذج الكردي، من شأنه ان يحجم النفوذ والتأثير الايراني، او يكبح جماحه، وبالتالي يمنع من التمدد الشيعي، لاسيما تحت مسمى الحشد الشعبي.
وحتى الان لم تلح في الافق اية توجهات او نوايا جدية لواشنطن في تقديم دعم حقيقي للمكون السني يساهم في تخليصهم من تنظيم داعش، ومساعدته على استعادة الامن المفقود في مناطقهم، والكثير من رموزهم السياسيين والعشائرين باتوا يدركوا ذلك ويتحدثون فيه بألم ومرارة في مجالسهم الخاصة، ومع زعامات سياسية شيعية متعاطفة معهم، وهو مايجعلهم يعودون للتعامل مع الحكومة الاتحادية، للوصول الى نتائج افضل.
ليس هذا فحسب، بل ان الرفض الواسع لخيارات الامر الواقع الذي يحاول هذا الطرف او ذاك فرضه، يؤشر الى حقيقة مهمة، الا وهي ان الذهاب بعيدا في التعويل على واشنطن وفتح خطوط مباشرة معها، سيفضي الى نتائج غير طيبة، ويربك الاوضاع ويخلط الاوراق بدرجة اكبر.
وفي ذلك يؤكد برلمانيون وساسة من كتل مختلفة رفض تسليح العشائر او أي جهة أخرى مباشرة، ويشددون على ان أي عرض للتسليح تقترحه الولايات المتحدة أو غيرها على العراقيين ينبغي أن يكون عبر الحكومة، تطبيقاً للبرنامج الذي وقّعته كل الكتل السياسية وينص على وجوب حصر السلاح في يد الدولة”.
ويحذر هؤلاء البرلمانيون والساسة من محاولات الولايات المتحدة تسليح العشائر الغربية والبيشمركة مباشرة، معتبرين انها تهدف إلى تقوية المحافظات والأقاليم على حساب المركز وتنفيذ المشروع الأميركي لتقسيم البلاد”.
ولاشك ان مثل تلك التحذيرات تنطلق من قراءات واقعية وتجارب غير سارة مع الاميركان، يعززها التعاطي السلبي لواشنطن مع تجربة قوات الحشد الشعبي، رغم ان تلك التجربة افرزت معطيات ونتائج مهمة جدا على صعيد مواجهة تنظيم داعش وايقاف تمدده وانتشاره في الجغرافيا العراقية.
قد تبدو مالات التوجهات الاميركية حيال المكون السني واضحة الى حد كبير، مثلما هي واضحة حيال “الحشد الشعبي” بهويته التي ينظر اليها “الاخر” على انها شيعية اكثر منها وطنية، وهذا الوضوح يحتم تجنب الوقوع بنفس الافخاخ السابقة وتحاشي الاخطاء التي قد تكون وقائع اليوم جزءا من افرازاتها وانعكاساتها السلبية-الكارثية.