نحن الامة التي نجيد تمجيد الماضي على حساب الحاضر .. ما ان يأتينا نبأ رحيل احدنا .. حتى نذهب مسرعين نبحث عن مناقبه .. لنصاب بالذهول من حجم الانجازات والمناقب التي حفلت بها حياة الفقيد . فيظهر كرمنا بمدحه وذكر صفاته وانجازاته الكثيرة ولكن بعد رحيله ! لكنه يبقى اي المدح كحال كتابة رسالة لشخص لا يستطيع قراءتها ..
وعلى ما يبدوا فأنها حالة غريزية (سيئة) تلازم الكائن البشري منذ نشأته الاولى .. وتبقى ملازمة له الا لمن خالف هواه وتجرد عن الانانية وراح يعطي الحقوق لأهلها، ولم تمنعه من ذكر مناقب من يختلف معه..
خبرتنا ملاحم وسير التاريخ عن هذا المعنى عبر سردها للعديد من الوقائع والاحداث التي ترتبط ضمنيا بهذا المفهوم، ولنا في ابناء النبي الاول آدم (ع) مثال اول وليس اخير يوثق للظاهرة وتاريخها ، عندما اقدم قابيل وبدافع الحسد على قتل اخيه هابيل، حتى ضل ينعاه بعد ما اجهز عليه .
كما و ان الاساطير لم تكن بعيدةً عن هذا الامر فتخبرنا ملحمة جلجامش عن ذلك العشق الذي انتهى الى صراع بين جلجامش وانكيدو بعدما لمع نجم الاخير وزها مجده عقب انتصاراته التي اثارت ابليس الغيرة والحسد عند جلجامش، ولكنه وبعد ان مات انكيدو وذهب مجده مع رحيله، راح يفتش عن اسباب الخلود بعدما ايقن انه لا مناص من حتمية الفناء، فراح يبحث عن عشبة الخلود فوجدها ولكن عكس ما كان يتوقع، فالخلود لم يكن مادياً بل ان الخلود الحقيقي ينتمي للجنس المعنوي ، والموت والفناء لما دون ذلك .
تطورت المفاهميم لدى الامم وعالجت الكثير من الاشكالات ومنها هذة الحالة، فأنشأوا المؤسسات، وسموا المدن والشوارع والمعالم والجامعات بأسماء عظمائهم، وضلوا يحتفون بهم في حياتهم، ويشيدون الصروح والتماثيل التي تؤرخ انجازاتهم بعد رحيلهم.
الا اننا في العراق الذي يملك من الاعلام والرموز الكثيرة والكبيرة، لم ابالغ اذا ما وجهت الانتقاد لهذة الامة لاهمالها تاريخها وعظماؤها وتراثهم وانجازاتهم في حياتهم وحتى بعد رحيلهم الا ما ندر ..
بالامس سمعنا رحيل المعمار العراقي الكبير محمد مكية ، وقبله رحل قائمة من الفنانين والادباء والمفكرين والاقتصادين والسياسيين الذين وضعوا بصماتهم الواضحة في سجل هذة الامة، الانهم وللأسف كانوا ومنهم لازالوا منسيون عن عالمنا، وذكراهم في حياتهم وحتى بعد مماتهم لا تكون الا عند الحاجة، ومن لا نحتاجه يبقى في طي النسيان ان كان ميتاً وان كان حياً نتذكره ونتحدث بمناقبه عندما يأتينا نبأ نعيه، فتنبرى الاقلام وتقام المهرجانات وتتصدر صورته وسائل الاعلام لتكتب عنه وسيرته وانجازاته بعد رحيله !!
من جملة هذة القامات شخصية افنت جل عمرها في تبني قاضايا الامة العراقية والدفاع عنها بشتى الوسائل والطرق ، عاش حياته يعمل وفقا لمتطلبات المرحلة، ابتدأ مطلعها طالبا مجتهداً في مجال العلوم الدينية، ومن ثم مطالبا السلطة بتوفير العيش الكريم للمواطن العراقي، وبسبب تمادى السلطة في تغييب الحقوق وانتهاجها الظلم والبطش والاضطهاد انتقل الى مرحلة المعارضة العلنية لها وانتهى به الامر مضحياً لاكثر من 64 شهيدا من اسرته والاقامة الجبرية على الباقين الا انه استطاع بصعوبة مع عدد من اخوته السفر الى خارج العراق ليبدأ مرحلة الجهاد والكفاح المسلح لأسقاط النظام العفلقي الظالم حتى عام 2003 ليعود ويبدأ مرحلة العمل السياسي في العراق الجديد، ليودع عالمنا بصمت في عام 2009.
لست بصدد شرح تاريخ هذا الرجل الذي تعمدت عدم ذكر اسمه لأترك للقارئ الفطن التعرف عليه وانجازاته الكثيرة فلا اريد الوقوع في مطب كتابة رسالة لرجل لا يقرأها، بل للتذكير بأن هذة الامة كانت ولازالت لا تستفيد من تراكم الخبرة وتعالج الاخطأ، بل نعيد تجربة اخطاءنا بنفس الطريقة متوقعين الحصول على نتائج مختلفة !
كما ونحن نعيش هذة التحولات التاريخية الكبيرة والمهمة التي يشهدها العراق والمنطقة بشكل عام، واذا ما استذكرنا المواقف السياسية للفقيد نجدها كانت استشرافا دقيقا للمرحلة الحالية والمقبلة، كما كان يطرح الحلول الواقعية والدقيقة لمعالجة الاشكالات والحد منها، وليس اخرها الاتفاق النووي الذي حصل بين ايران وامريكا، فكان رحمه الله من اولى السياسيين الذين دعى كل من ايران والولايات المتحدة الى الجلوس على طاولة الحوار لمعالجة الخلافات فيما بينهم.
وهناك الكثير من المواقف التي يؤدي ذكرها الى البوح وكشف هوية هذة الشخصية السياسية الراحله..
لنتعض من اخطاء الماضي ونعالجها بحلول حقيقية ونترك البكاء والعويل بعد وقوع المصائب ونتجرد عن انانيتنا ولا ننظر لمن يقول بل ننظر لما يقول ، وعلينا ان نتأكد خير من ان نتأسف …