الامام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) تاسع أنوار الامامة والهداية الربانية للبشرية جمعاء ، من أروع صور الفكر والعلم في الاسلام الذي حوى فضائل الدنيا ومكارمها وفجر ينابيع الحكمة والعلم في الأرض، فكان المعلّم والرائد للنهضة العلمية، والثقافية في عصره، وقد أقبل عليه العلماء والفقهاء، ورواة الحديث، وطلبة الحكمة والمعارف، وهم ينهلون من نمير علومه وآدابه.
دلّل الامام أبو جعفر الثاني محمد الجواد (ع) والذي نعيش هذه الايام ولادته المباركة والميمونة بمواهبه وعبقرياته الفكرية وملكاته العلمية الهائلة التي لا تُحدّ على الواقع المشرق الذي تذهب اليه الشيعة الامامية من أنه (ع) لابد أن يكون أعلم أهل زمانه وأفضلهم من دون فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، فان الله أمدّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بالعلم والحكمة وفصل الخطاب كما أمدَّ أُولي العزم من أنبيائه ورسله.
تقلّد (عليه السلام) الامامة والزعامة الدينية بعد وفاة أبيه الامام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) وكان عمره الشريف لا يتجاوز السبع سنين، وعاش حياته المباركة متجهاً صوب العلم فرفع مناره، وأرسى أصوله وقواعده، مستثمراً مدّة حياته الشريفة في التدريس ونشر المعارف والآداب الاسلامية وقد احتفّ به جمهور كبير من العلماء والرواة وهم يأخذون منه العلوم الإسلامية من علم الكلام والفلسفة، وعلم الفقه، والتفسير.
انفتاح الامام الجواد (ع) على خطِّ الامامة مبكراً بعد استشهاد والده الامام الرضا (ع) وتحمل عبئها الثقيل والكبير في هداية الأمة كما أمره الباري تعالى، جعله يكون مصداقاً بارزاً لما صدق على النبي “يحيى”(ع) في نبوّته {واتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً}- مريم:12، وعاش بعد وفاة أبيه الامام الرضا(ع) مسؤوليّة الامامة، مما مكننا أن نسمّيه بـ”الامام المعجزة”، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، فحيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته، واستطاع(ع) منذ حداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الامامة وصلابتها.
لا يسع مقالنا هذا بقصره وضيقه أن يحتوي على جوانب حكمة وحنكة ودهاء وذكاء الامام محمد الجواد عليه السلام فكيف به إذا أراد أن يعكس صورة البحر الهادر والجارف للأفكار الانحرافية والتزوير الذي عاشه المسلمون أيام السلطة العباسية التي سعت كثيراً في تحريف حقائق الفكر الاسلامي المحمدي الأصيل كما فعل من قبل حكام بنو أمية الطغاة والمنحرفون وكما يفعل أحفادهم اليوم في البلاد الاسلامية خاصة في بلاد الشرق الأوسط ، ولكن كما يقال “ما لا يدرك كله لا يترك جله” نذكر هنا “مناظرة الامام الجواد (ع) مع ابن أكثم” للوقوف على أحد الجوانب الصغيرة في فكر وبراعة “معجزة الامام” الامام الجواد (ع).
يروى “عندما أراد الخليفة المأمون تزويج ابنته أم الفضل من الامام الجواد (ع) بلغ ذلك العباسيين فاعترضوا على الخليفة، وقالوا: يا أمير المؤمنين، أتُزَوِّج ابنتك صبياً لم يَتَفَقَّه في دين الله ؟!!، وإذا كنت مشغوفاً به فأمْهِلْه لِيتأَدَّبْ، ويقرأ القرآن، ويعرف الحلال والحرام !!.
فقال لهم المأمون: وَيْحَكم، إِنِّي أَعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وإنَّه لأفْقَه منكم، وأعلم بالله ورسوله وسُنَّتِه، فإن شِئْتُم فامتحنوه .
فرضوا بامتحانه، واجتمع رأيهم مع المأمون على قاضي القضاة “يحيى بن أكثم” أن يحضر لمسألته، واتفقوا على يوم معلوم .
وجاء “ابن أكثم” وقال للامام (ع)، بحضور مجلس المأمون: يا أبا جعفر، أصلَحَك الله ، ما تقول في مُحرم قتل صيداً ؟
فقال الامام أبو جعفر (ع) : قَتله في حِلٍّ أو حَرَم ؟ ، عَالِماً كان المُحرِم أم جاهلاً ؟ ، قَتَله عمداً أو خطأً ؟ ، حُرّاً كان المُحرِم أم عبداً ؟ ، كان صغيراً أو كبيراً ؟ ، مُبتدِئاً بالقتل أم مُعِيداً ؟ ، من ذَوَات الطير كان الصيدُ أم من غيرها ؟ ، من صِغَار الصيد كان أم من كباره ؟ ، مُصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟ ، في اللَّيل كان قتله للصيد في أوكَارِها أم نهاراً و عَياناً ؟ ، مُحرِماً كان بالعُمرَة إذ قتله أو بالحج كان مُحرِماً ؟ .
فتحيَّر “يحيى بن أكثم”، وانقطع انقطاعاً لم يُخفَ على أحد من أهل المجلس، وبَان في وجهه العجز. فتلجلج وانكشف أمره لأهل المجلس، وتحيَّر الناس عجباً من جواب الامام الجواد (ع) .
فقال المأمون لأهل بيته : أعرفتُم الآن من كنتم تُنكِرونه ؟
ونظر إلى الإمام (عليه السلام)، وقال: أنا مُزوِّجُك ابنتي أم الفضل، فرضي (ع) بذلك إجباراً بعد تهديد المأمون له، وتمَّ التزويج .
لمَّا تمَّ الزواج قال المأمون للامام الجواد (ع): إن رأيت – جُعلتُ فداك – أن تذكر الجواب، فيما فَصَّلتَه من وجوه قتل المحرم الصيد، لِنعلَمَه ونستفيدَه .
فقال الامام أبو جعفر (ع): إنَّ المُحرِمَ إذا قتلَ صيداً في الحِلِّ، وكان الصيد من ذَوَات الطير، وكان من كبارها فعليه شَاة .
فإنْ كانَ أصابه في الحرم، فعليه الجزاء مضاعَفاً، وإذا قتل فَرْخاً في الحلِّ، فعليه حَمْل قد فُطِم من اللَّبن، وإذا قتله في الحرم، فعليه الحَمْل، وقيمة الفرخ.
وإن كان من الوحش، وكان حِمار وحش، فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنَة، وإن كان ظبياً، فعليه شاة .
فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم، فعليه الجزاءُ مضاعفاً هَدْياً بَالِغ الكعبة، وإذا أصاب المُحرِمُ ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه للحجِّ ، نَحَرَهُ بِمِنىً، وإن كان إحرامه للعُمرة، نَحَرَه بمَكَّة .
وجزاء الصيد على العالِم والجاهل سواء، وفي العَمدِ له المأثم، وهو موضوعٌ عنه في الخطأ، والكفَّارة على الحُرِّ في نفسه، وعلى السيِّد في عبده ، والصغير لا كفَّارة عليه، وهي على الكبير واجبة .
والنادم يسقُط بِنَدمه عنه عقاب الآخرة، والمُصرُّ يجب عليه العقاب في الآخرة.
فانبهر الحاضرون جميعاً مما قاله الامام محمد بن علي الجواد (ع) وطأطأوا رؤوسهم من شدة الخجل فتدارك الخليفة العباسي المأمون الوضع وقال للامام: “أحسنتَ يا أبا جعفر”.