المؤكد كل التأكيد أنه لا يمكن لأي كاتب أو باحث استعراض حياة الإمام محمد بن علي الجواد في سطور قليلة، حيث ظلمه التاريخ والمؤرخين على امتداد تاريخنا الاسلامي الذي خط بأقلام أموية وعباسية خبيثة حاقدة على بيت الوحي والرسالة والنبوة منذ ظهور الإسلام وحتى يومنا هذا، تعود جذورها لعصر الجاهلية والقبلية العربية الرافضة للإسلام والرسالة المحمدية الاصيلة.. لكن ذلك لم يمنعنا من التطرق لبعض جوانب هذه شخصية التاسع من أنوار الهداية الربانية العظيمة التي لقبت بـ”معجزة الامامة”.
تأكيد للقول “ما لا يدرك كله لا يترك جله” ارتأيت كتابة هذه السطور للكشف عن بعض الجوانب النيرة والمشرقة والتأثير الكبير سيرة ونهج نور الهداية الربانية الامام محمد الجواد عليه السلام والذي بلغته رسالة امامة وهداية البشرية وهو لا يزال في سن الصبا ليدلل كل الدلالة على أن الامامة كالنبوة مهمة إلهية تعطى لمن أهل لها ولاريب في أن يكون الامام تسلم مهام الامامة في الصبى كما حدث في النبوة للنبي عيسى عليه السلام وكذا نبينا يحيى عليه السلام ايضاً كونها رسالة سماوية ومنصب إلهي حيث يقول القرآن الكريم “وأتيناه الحكم صبيا”- سورة مريم {12}.
ظاهرة تولّي شخص للاِمامة أي زعامة الامة الاسلامية روحياً وفكرياً وعلمياً ودينياً وهو لا يزيد عن سبع سنين ، هي ظاهرة ظهرت لاَول مرة في حياة الاَئمة على عهد الاِمام محمد بن علي، والتي اشار الى اهميتها الفيلسوف الكبير الشهيد محمد باقر الصدر قدس سرّه ، بقوله: “أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقانية هذا الخط الذي كان يمثله الاِمام الجواد عليه السلام”- (لم تنشر بل توجد ضمن مستندات ووثائق موسوعة الشهيد الصدر).
طريق عقلي آخر يضاف الى طرق إثبات الامامة الربانية وحصرها بأهل بيت العصمة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهير(سورة الاحزاب الآية 33)، ثم يفترض الشهيد الصدر رضوان الله عليه عدة افتراضات يمكن أن تُثار حول إمامة الاِمام الجواد عليه السلام ويجيب عنها منطقياً وتاريخياً، لكنه قدس سره يجيب قبل طرح الافتراضات فيقول :”إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الاِمامة الواقعية في شخص لا يزيد عمره عن سبع سنين ويتولّى زعامة هذه الطائفة في كلِّ المجالات الروحية والفكرية والفقهية والدينية”.
كل ذلك بقي خافياً على الامة الاسلامية حتى أن بعض مفكريها وعقلائها رأوا عكس ذلك واستخفوا بهذه الشخصية الربانية الفذة وظلموها ولم ينقلوا عنها شيئا في وقت كان للإمام محمد بن علي الجواد دور ريادي في ادارة شؤون الأمة وأحكامها مما أربك سلاطين “بني العباس” وعملوا كل ما في جهدهم على إخماد هذا النور وتآمروا مراراً لسفك دمه الطاهر حتى تم دس السم اليه عبر زوجته “أم الفضل” بنت عم الخليفة العباسي “المعتصم” في آخر ذي القعدة سنة عشرين ومائتين، وبمؤامرة دبرها الخبيث “المعتصم” العباسي خوفاً من نفوذ الإمام الجواد الواسع بين المسلمين في وقت كان الإمام أبا جعفر لم يتعد عمره الشريف الخمس وعشرين سنة، وشهرين، وثمانية عشر يوماً.
الامامة في نظر أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم هي ذلك الامتداد الحي لمسيرة النبوة، في قيادتها الالهية للأمة نحو هدفها الأسمى. كما انها المعين الذي لا ينضب للفكر الاسلامي الأصيل، الذي لابد وأن يمد الأمة بالرأي، وبالحياة، والذي يستمد عذوبته وصفائه من القرآن الكريم مباشرة، وكذلك من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).ومن الطبيعي أن تكون الامامة بحاجة للاعلان ممن له الحق، بقبول هذا الامتداد، وبتفويض تلك المهام القيادية لمن ترى فيهم كامل الجدارة والأهلية لتحمل مسؤولياتها الجسام… هي المصدر الصافي والأصيل، والرصيد الإلهي الكافي للعلوم والمعارف اللازمة لتغذية حركة الحياة والفكر لدى المجتمع الاسلامي والبشري برمته، وتزويده بما لابد له منه في مسيرته التكاملية الرائدة، نحو هدفه المنشود.
ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده الأليمة والفاجعة، لابد لنا من تسليط الأضواء والكشف على كل ذلك ، وفهم هذه الشخصية بشمولية وعمق أكبر، يتناسب مع حجم الدور الذي أخذ الإمام الجواد (عليه السلام) على عاتقه القيام به، في فترة متميزة، تعتبر من أهم الفترات، التي عاشها الأئمة عليهم السلام، سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً. حيث تلك السنوات القلائل التي أعقبت استشهاد والده الاِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) على يد السلطان العباسي “المأمون”والتي كانت مشحونة بالحذر والترقب من قبل الشيعة عموماً والبيت الهاشمي خصوصاً.
اتخذ السلطان العباسي “المأمون” سياسة بالغة الخبث في تقريب الاِمام الجواد وإنزاله تلك المنزلة منه، الى جانب الترقب والحذر الشديد من موقع الإمام أبا جعفر الجواد بين جموع المسلمين وغيرهم، يعود لعدة أمور منها رفع أصابع الاتّهام عن نفسه باغتيال الاِمام الرضا عليه السلام، ثم إظهاره للعوام والخواص حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأظهر تكريما متميزاً للاِمام محمد الجواد بتزويجه إياه من ابنته زينب المكناة بـ”أم الفضل”، واسكانه قصور السلطنة، وأمر ولاة الاَقاليم والخطباء بإظهار فضائل الاِمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر في جميع المناسبات .
تدبر الامام الجواد مؤامرة السلطان العباسي الخبيثة حيث انصرف الى مدينة جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد زواجه بـ”أمّ الفضل” محبطاً بذلك مكرَ “المأمون” وفوّت عليه تدبيره في محاولة احتوائه وفَصْلِه عن شيعته وجماهير مُحبّيه (كما ذكره المسعودي)، وأنّه بقي في المدينة يتعاهد أمورَ شيعته إلى أن استدعاه “المعتصم العبّاسيّ” ـ خَلَف المأمون ـ في أوّلِ سنةِ 220 هـ، فأقام في بغداد حتّى استُشهِد في آخر ذي القعدة من تلك السنة.
روى عن الامام أبا جعفر الواد جمعٌ من العلماء، حيث عددهم السيد الأمين رحمه الله نقلا عن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وكذلك في المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمد، وهارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري (في رحاب أئمة أهل البيت، ج:4، ص:169 ـ 170).
كما ان الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) عَدَّ نحو مِائة من الثقات، ومنهم امرأتان، كلّهم من تلامذة الامام محمد الجواد (ع) ورُوَاته، والذين تتلمذوا على يديه المباركتين (بحار الأنوار، ج:5، ص:55)؛ وصنَّفوا في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية ، وسنذكر – على سبيل المثال لا الحصر – بعضاً من أصحابه الامام أبا جعفر الذين روى علماء الرجال والمحققون عنهم:
1- أحمد بن محمد بن خالد البرقي: صنّف كتباً كثيرة، بَلَغت أكثر من تسعين كتاباً .
2- علي بن مهزيار الأهوازي: له أكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً .
3- صفوان بن يحيى : يقول الشيخ الطوسي : له كتب كثيرة ، وله مسائل عن الإمام الكاظم (ع).
4 – أحمد بن محمد بن أبي نصر : كان عظيم المنزلة ، له كتاب (الجامع) ، وكتاب (النوادر).