23 ديسمبر، 2024 12:24 ص

الامام الرضا وولاية عهد المأمون.. الأسباب والدوافع

الامام الرضا وولاية عهد المأمون.. الأسباب والدوافع

أكثر من أثني عشر قرناً وأربعة عقود تمر على قضية تولي الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام ولاية عهد الخليفة الطاغية العباسي مأمون الرشيد، ولازال غالبية المسلمين خاصة البعض من أتباع أهل بيت النبوة والامامة يجهل كل الجهل أسباب ودوافع قبول الامام الرضا ولاية العهد (رمضان 201- صفر 203هجري) والدوافع الحقيقية التي تكمن من وراء ذلك ما أدى الى ظلمه من قبل الجميع كما هو الحال مع عمه الامام الحسن بن علي عليه السلام وقضية الصلح مع الطليق معاوية بن أبي سفيان وهند آكلة الأكباد.

وفيما نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاد الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام المفجع والمؤلم، ارتأيت أن أستعرض ذلك باختصار من باب “فذكر ان الذكرى تنفع المؤمنين”، كونها جديرة بالتحقيق والدراسة المعمقة باعتبارها من جملة المحطات الحساسة والبارزة لتلك الحقبة (250 عاماً) التي لم يسمح سلاطين الفرعنة والجبروت للأمة من دراستها وتدقيق النظر والتمعن فيها كي يبقوا على غفلتهم وتياههم لسبب عنصر المواجهة السياسية القاسية العنيفة القبلية، في مواجهة النظام الاسلامي وبناء الحكومة على أساس مبدأ دين المحبة والمودة والتعايش السلمي من منظار أهل بيت الرسالة والوحي عليهم السلام، ورفع الشبهات ومواجهة الانحرافات، ونشر المعارف والأحكام الاسلامية.

كان للامام علي بن موسى الرضا موقع حساس وثقيل في السلسلة المعصومة لأئمة الهداية الربانية في الزمن الإسلامي والمضمون الولائي، والدارس لسيرته يلتمس حقائق في المتغير الاسلامي، حيث جمع الاسلام جغرافية وفكراً ومدارس ورتب بمواقفه حقائق إمامة الأمة المظلومة والمغتصبة حتى انتهت ولاية العهد إليه، رغم ان الولاية على الأمة ومن حولها ولاية كونية عندهم منذ عالم الذر، فهم آل بيت عليهم السلام أرفع عن الدنيا وحطامها، بل هم حجج الله البالغة والمرشدة للدار الدائمة.. والامام أبا الحسن (ع) كان يدرك تماما ماذا وراء عرض الخليفة العباسي المأمون من اقتراحه لولاية العهد عليه، ذلك الطاغية المتكبر الذي قتل أخاه الأمين من أجل الحكم والخلافة فكيف يتنازل عنها؟!، وهو ما نلحظه في حادثة طلب المأمون من الامام الرضا إمامة الناس في صلاة العيد بـ”مرو”.

خرج الامام الرضا بروح وروحانية صلاة عيد رمضان المبارك مجسدا سنة النبي الأكرم صلوات اله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه المنتجبين، ما دفع بحشود الناس الى الالتفاف من حوله والسير من ورائه خطوة بخطوة ما أدى الى تفشى الفزع والخوف في نفس وسلطة المأمون العباسي فسارع الى إرجاع الامام علي بن موسى ومنعه من اقامة صلاة العيد (الإرشاد:ج2 ص264 وعيون أخبار الرضا: ت42ج1)؛ وفكر المأمون بكل ذكاء وحيلة ومكر بأن يقترح على الامام الرضا ولاية العهد تحت طائلة الضغط والإصرار والتهديد بالقتل لتحقيق أهداف سياسية من وراء ذلك، منها:

1- تهدئة الأوضاع المضطربة بعد الاضطربات التي حدثت جراء القتال الدَّامي بين “المأمون” وأخيه “الأمين” والذي انتهى بقتل الاخير، إضافةً الى قيام ثورات وحركات مسلحة وازدياد عدد المعارضين لحكمه.

2- تحسين صورته أمام الناس بأنه يحب أهل البيت عليهم السلام وليس كما كان عليه والده “هارون” والذي سجن الامام موسى الكاظم (ع) وقتله.

3- اضفاء الشرعية على حكمه وتحقيق ما يصبو اليه مستفيدا من الولاء الفكري والعاطفي للامام الرضا في نفوس المسلمين .

4- إرضاء العلويين والذين رفعوا لواء الثورة ضد السلطة الجائرة في مناطق عديدة من الدولة العباسية.

5- إبعاد الامام الرضا عن قواعده الشعبية، وتحجيم الفرص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوابه المنتشرين في شرق الأرض وغربها، بتكثيف المراقبة على الامام بذريعة المحافظة على سلامته.

6- إيقاف خطر الامام الرضا على الحكم العباسي القائم، حيث لو ترك الامام الرضا وهو في المدينة لأدَّى ذلك الى ضعف سلطة المأمون؛ وهو ما اعترف به الأخير قائلا: “وقد خشينا إنْ تركناه على ترك الحالة أن ينفتقَ علينا منه ما لا نسدُّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه”.

7- تشويه سمعة الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام والإيحاء للناس أن زهد العلويين ومعارضتهم للحكم هو من أجل الحصول على المناصب والدليل وجوده (ع) في جهاز الحكم العباسي رغم ظلمه الفرعوني (رجال الكشي: ح 958 وأمالي الصدوق: ص 64).

الامام الرضا كان واقفاً على مكائد المأمون هذه وبينها له في حديثه معه قائلا: “تريد بذلك أن يقول الناس: إنَّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعًا بالخلافة”؟!.. وفي الوقت ذاته كما المأمون هو الآخر قد أفصح بذلك أمام كبار العباسيين عندما أجتمعوا عنده في “مرو” معترضين على قرار ولاية العهد للرضا (ع) ، حيث أجابهم بقوله:”…ولكنَّنا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتَّى نصوِّره عند الرَّعايا بصورة من لا يستحقُّ هذا الأمر”.

8- جمع زعماء العلويين في العاصمة ثم العمل على تصفيتهم الواحد بعد الآخر.

9- توريط الامام أبا الحسن عليه السلام باتخاذ بعض الاجراءات السياسية ومن ثم محاسبته بتهمة التقصير.

قبل الامام الرضا بولاية عهد “المأمون” لأسباب وبشروط وضعها هو بنفسه تجتمع بعدم التدخل في شؤون البلاد عندما خاطب “المأمون” بالقول: “على أن لا آمر، ولا أنهى، ولا أقضي، ولا أغيِّر شيئًا ممّا هو قائم، وتعفيني من ذلك كلِّه” – (الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ص255).. أما الأسباب فكانت:

1- التهديد بالقتل وبالعلن خلال عرض “المأمون” للامام الرضا بقبول الخلافة أو ولاية العهد ورفض الامام لهما مما اثار غضب “المأمون” وقال:” يا أبن العم، إنَّك تتلقاني أبدًا بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاَّ أجبرتُك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقَك”؛ فرد الامام الرضا بقوله: قد نهاني الله عزَّ وجلَّ أن ألقيَ بيدي الى التَّهلكة، فإنْ كان الأمرُ على هذا، فافعل ما بَدا لك. (أصول الكافي: ج1 ص557، عيون أخبار الرضا: ت 40 ح5 وح21)، ثم أن قتله سيكون سببا في خسارة الحركة الرسالية لحاجتها الى قيادته في هذه المرحلة، وسيكون قتله مقدمة لقتل أهل بيته وشيعته وانصاره.

2- استثمار الظروف لاقامة الدين وإحياء السنة النبوية المحمدية الاصيلة عبر الحرية النسبية الممنوحة للامام الرضا بذريعة ولاية العهد ولأهل بيته وأنصاره فهي فرصة مناسبة لتبيان معالم الدين ونشر منهج أهل بيت النبوة والامامة الربانية في مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية خصوصا في البلاط الحاكم عن طريق الالتقاء بالوزراء والخواص والخدم والحراس والقضاة والفقهاء وأهلِ الديانات الذي جمعهم المأمون لمناظرة الامام (ع)، اضافة الى قيامه بتوجيه المأمون الى اتخاذ الرأي الأَصوب مهما أمكن، وقد صرح الامام عليه السلام ذلك بقوله: “اللهمَّ إنَّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي الى التهلكة، وقد أُكرهت واضطررت …فوفقني لإقامة دينك، وإحياء سنَّة نبيِّك محمَّد (ص)، فإنَّك أنت المولى وأنت النَّصير، ونعم المولى أنت، ونعمَ النَّصير”- (تحف العقول: ص415 فما بعدها وأصول الكافي: ج11 ص223 فما بعدها).

3- تصحيح الأفكار السياسية الخاطئة حول تصدي أهل الدين للسياسة والتي كانت سائدة عند غالبية المسلمين ولا تزال حتى يومنا هذا وهي فكرة أموية – عباسية نفاقية، وأنه لا يليق بالأئمة والفقهاء أن يتولوا المناصب السياسية، فأراد الامام الرضا وقبوله ولاية العهد أن يصحح هذه الأفكار السياسية الخاطئة، ويوضح للمسلمين وجوب التصدي للحكم في الظروف المناسبة.

4- إفشال مخطَّطات الحاكم العباسي المأمون بأن يقوم بتولية العهد لأحد العلويين، ويستثني عن إكراه الامام (ع) أو قتله، والعلوي المنصب لولاية العهد، إما أن يكون: مساوما، أو انتهازيا، أو مخلصا قليل الوعي، أو واعيا معرضا للانزلاق في مغريات السلطة، وفي جميع الحالات، فان هذا الموقف سيؤدي الى شق صفوف أنصار أهل البيت، أو توريط العلوي بممارسات خاطئة تؤدي الى تشويه سمعة أهل البيت، أو القاء مسؤولية الفساد الاقتصادي والأخلاقي والاداري والسياسي عليه. أو يؤدي انزلاق من يتولى العهد من العلويِّين الى قيامه بمعارضة الامام الرضا أو ملاحقة أتباعه وأنصاره وشق صفوف الحركة الرسالية عبر إلقاء تبعة المفاسد على من يُنسب الى أهل النبي.

5- تعبئة طاقات اتباع وانصار اهل البيت (ع) بعد فشل الثورات العلوية وانكسارها عسكريا، حيث كانت الظروف التي خلقتها ولاية العهد مساعدة لاعادة بناء القوة العسكرية لأهل البيت وتعبئة طاقاتهم بإيقاف الملاحقة والمطاردة لهم لإدامة التحرك فيما بعد حينما تكون الظروف.

الى جانب ذلك كانت هناك مكتسبات كبيرة اخرى بقبول الامام علي بن موسى الرضا بولاية العهد، منها:

1- اعتراف “المأمون” بأحقِّية أهل البيت (ع) في الخلافة والتصدي لأمور الأمة سياسياً ودينياً وذلك باعترافه الصريح في كتابه الذي كتبه للعباسيين المعترضين على تولية الامام الرضا، حيث جاء فيه: “… فلم يقم مع رسول الله (ص) أحدٌ من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب (ع) فإنَّه آزره ووقاه بنفسه … وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم، وصاحبقوله: أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي… وكان أحب الخلق الى الله تعالى والى رسوله، وصاحب الباب، فتح له وسدَّ أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ودّ في المبارزة، وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين…”.

2- توظيف وسائل الاعلام الرسمية لصالح الامام (ع)، فالولاة والأمراء وأئمة الجمعة يدعون له من على المنابر في كل يوم، وكل جمعة وكل مناسبة، اضافة الى طبع اسمه على الدراهم والدنانير المعمول بها في جميع الأمصار.

3- حرية الامام الرضا في المناظرة للرد على جميع الشبهات المثارة من قبل أصحاب الأديان وأصحاب المذاهب، وتفنيد آراء الغلاة والواقفة، وتثبيت الآراء السليمة المنسجمة مع نهج أهل البيت عليهم السلام.

4- نشر مفاهيم وفضائل أهل البيت عليهم السلام ودورهم الريادي في الأمة، وخصوصًا بين الوزراء وقادة الجيش والفقهاء والقضاة، ومن يرتبط بالبلاط الحاكم بِصِلة.

5- حقن دماء المسلمين من أتباع أهل بيت العصمة والطهارة والتنزيل ومن أتباع النظام الحاكم، فأعلن المأمون العفو العام عن قادة الثورات، ومنهم: زيد وابراهيم إخوة الامام الرضا، ومحمَّد بن جعفر. وتوقفت الثورات المسلحة، وتوجه قادتها وكوادرها الى إصلاح الأوضاع بصورة سلمية هادئة، وبناء القواعد الشعبية.
[email protected]