الحياة السياسية للنور الثامن من أنوار الهداية السماوية للبشرية الامام علي بن موسى الرضا (ع) ونحن نعيش ذكرى مولده المبارك والميمون في الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 148 للهجرة في المدينة المنورة.. وسياسة تصديه لمكائد السلطة العباسية الطاغية ضد الدين الحنيف وشيعة آل الرسول (ص)، منها قبوله عليه السلام منصب ولاية العهد؛ مسألة بالغة الحساسية وجديرة بالتحقيق والدراسة المعمقة باعتبارها من جملة المحطات الحساسة والبارزة لتلك الحقبة (250 عاماً) التي لم يسمح السلاطين للأمة من دراستها وتدقيق النظر والتمعن فيها كي تبقي المسلمين على غفلتهم وتياههم لسبب عنصر المواجهة السياسية القاسية والعنيفة.. والتي كان هدفها الأساسي تشكيل النظام الاسلامي وبناء الحكومة على أساس مبدأ تبيين وشرح الدين من منظار أهل بيت الوحي والرسالة، ورفع الشبهات ومواجهة الانحرافات، ونشر المعارف والأحكام الاسلامية، من جملة الأهداف المهمة لجهاد أهل البيت عليهم السلام.
منذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحيث تحولت الخلافة الاسلامية بشكل واضح وفاضح الى سلطنة بكل معنى الكلمة في جميع الجوانب وتبدلت الحكومة (أمانة الله) الى حكومة متسلطة ملكية، كانت المواجهة السياسية لأهل البيت عليهم السلام تشتد وتتطور بأسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف المستجدة.. بين الصمت والصلح والثورة ودخول السجون والاضطرار بالمماشاة والغيبة.. فيما سياسة المتسلطين والمتفرعنين من بني أمية الطلقاء وبني العباس السفاحين هي على شاكلتها في القمع والقتل والتعدي والنهب والتحريف والتزييف، وأنهار الدماء جارية من أقصى بلاد المسلمين الى أقصاها خاصة في بلاد الرافدين والشام والحجاز حيث حكم الأراعن والطغاة ممتد وداعم للارهاب التكفيري الطائفي المتجذر منذ أكثر من 14 قرناً في صفوف الأمة.
المأمون العباسي ذلك الطاغية المتجبر دعا يوماً الامام الرضا (ع) وعـرض عليه قبول ولاية العهد وكان ذلك متزامناً مع ظروف بالغة القسوة يعيشها أهل بيت العصمة والطهارة والرسالة، وكذا شيعتهم وأنصارهم والأمة برمتها حيث حقبة أكثر العباسيين دموية وهي سلطنة المهدي والهادي وهارون الرشيد؛ تلك المرحلة القاسية والصعبة جداً في مطاردة العلويين، وبنائهم في الجدران وهم أحياء، وهدم دورهم، ومصادرة أموالهم، وإدخالهم السجون وإستباحة دمائهم وشيعتهم دون إستثناء..فامتنـع الامـام أبا الحسن من قبولها، فكرر الطاغية المأمون تهديده للامام الرضا وخاطبه: “إني رأيت أن أوليك العهد أي الخلافة. فقال أبا الحسن: أعفني، إنه لا طاقة لي بذلك، ولا قوة لي عليه.. فرد المأمون ثانية: فإني موليك العهد من بعدي.. فقال الامام الرضا عليه السلام مرة اخرى: اعفني من ذلك.
آنذاك، إستشاظ الطاغية المأمون غيظاً وغضباً وأخذ يهدد الامام الرضا بالقتل وإبادة اتباع أهل البيت وقال: “إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشرط فيمن خالف عنهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما أريده منك فإني لا أجد محيصاً عنه” ..فاجابه الامام الرضا بقبول ذلك مكـرهـاً وشارطاً عـلـى أن لايأمر ولاينهي ولايولي ولايعزل ولايتكلم بيـن أثنين بالحكم ولا يغير شيئا هو قـائم عـلـى أصوله؛ حيث لم تخف عن الامام أبا الحسن (ع) الدوافع الشيطانية للطاغية العباسي في استقدامه الى خراسان كما لم تخـف عـليـه متـطلبـات الظرف الذي كان يعيشه صلوات اللـه عـليـه ولهذا أَكره على قبول ولاية العهد .
لم يكن عرض المأمون هذا حباً بالامام أو أهل البيت عليهم السلام وإنما كان يهدف لجعل الامام الرضا ورقة مساومة بينه وبين العباسيين في بغداد، وورقة مساومة بينه وبين العلويين وورقة مساومة بينه وبين الشيعة في خراسان؛ خاصة وإن الثورات قد تزايدت عليه من كل صوب وحدب من مصر حتى خراسان مروراً بالكوفة والبصرة والحجاز والشام؛ لكن الامام أبا الحسن قبل بذلك ليفتح أمامه طريق تبليغ الدين القويم والاسلام المحمدي الأصيل، وتقديم النصح لإدارة أفضل لشؤون المجتمع في مختلف مجالات الحياة.. خاصة وإن حاجة الأمة الى التبليغ والتوجيه لم تنته، فهناك قضايا غير واضحة، وهناك أمور مستجدة، فلابد من مرجعٍ يرجع إليه الناس في أمور دينهم، ولابد أن تكون هناك ثقة بأن هذا المرجع ينقل أوامر الله (سبحانه وتعالى) القطعية والواقعية، وليس بشكلٍ ظني وحسب اجتهاده وإدراكه، وتم اختياره من قبل الباري تعالى لهذه المرجعية، والقرآن الكريم يتحدث عن الإمامة بمنطق الجعل: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ” السجدة: 24 .
رغم كل تلك الحقيقة إلا اننا نرى البعض من ذوي النفوس الضعيفة وأصحاب النوايا الخبيثة (حاجة في نفس يعقوب) لا يزال حتى يومنا هذا يظلم الثامن من أهل بيت النبوة والطهارة، ويبرر قبول الامام الرضا (ع) لولاية العهد في خوفه على حياته معلنين ذلك تمسك الامام بقوله تعالى “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” – البقرة:195، وقوله عليه السلام “اللّهمّ إنّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أُكرهت واضطررت كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده… اللّهمّ لا عهد إلّا عهدك، ولا ولاية إلّا من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سُنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّك أنت المولى وأنت النصير، ونعم المولى أنت، ونعم النصير”- عيون أخبار الرضا، م. س: 1/19؛ فيما حقيقة الأمر تجافي ذلك تماماً.
قبول الامام الرضا (ع) هنا ليس خوفاً من قتله، وإنّما سيكون قتله سبباً في خسارة الحركة الرساليّة وحاجتها الى قيادته في تلك البرهة العصيبة من الزمن على الأمة خاصة أتباع أهل البيت؛ وسيكون قتله مقدّمة لقتل أهل بيته وأنصاره وأتباعه أجمعين، ما يؤدي الى ردود أفعال مسلّحة غير مدروسة بدافع الانتقام، وبالتالي تنهار القوّة العسكريّة دون أن تغيّر من الأحداث شيئاً.
كما كان للامام علي الرضا (ع) أهداف عديدة اخرى من وراء قبوله منصب ولاية العهد، منها: 1- استثمار الظروف لإقامة الدِّين وإحياء السنّة، 2- تصحيح الأفكار السياسيّة الخاطئة، 3- إفشال مخطّطات المأمون، 4- تعبئة الطاقات لمواصلة مسيرة الاسلام المحمدي الأصيل القائم حتى يومنا هذا وهو ما يخشاه الطغاة والجبابرة والمتفرعنين والمنحرفين عن الخط القويم ويحاربونه بشتى الوسائل ولا يتهاونون من إراقة أنهار الدماء البريئة لذلك وما يجري في العراق وسوريا واليمن والبحرين وغيرها من بلاد المسلمين إلا نموذجاً لهذا الخوف والفزع الأموي وتصديهم لنهج أهل بيت النبوة والرسالة السماوية السمحاء .
اسفرت مدرسة الامام الرضا عليه السلام العلمية عن تخريج كـوكبـة مـن العـلمـاء الذين كان عددهم يناهز الثلاثمائة. والذي يراجع مسند الامام الرضا عـليـه السلام ويلاحظ النصوص التي وصلتنا عنه يعرف حجم نشاطه العلمي ويلمس عمق المستوى الذي بلغته مدرسة الامام الفكرية وما أبدعه هذا الامام العظيم من قواعد وأساليب لتـحقـيـق أهداف مدرسة أهل البيت للوصول الى القمة التي كانت تستهدفها رسالتهم في مجالي العلم والسياسة معا.