عندما يلوح شهر محرم الحرام في الأفق، يتوقف قطار الحياة بكل تفاصيلها ومآسيها وحروبها وظلمها، بظالمها ومظلومها، لا شعوريا، في محطة واحدة، هي ليست ككل المحطات، محطة تحاكي فطرة الإنسان وتستجمع هواجسه مهما كان لونه او عرقه او دينه او مذهبه، هي محطة سيد الشهداء، الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
وعندما تكون الإنسانية في رحاب ثورة الحسين عليه السلام، حينها تعرف درجة قيمتها وحقيقة حياتها، التي لا تتجلى بهذه الحياة البالية التي نعيشها، بل حياة من نوع آخر لم تكن الإنسانية ان تعرفها قبل عَرَفَها الحسين وفك طلاسمها، لتكون هي خارطة الطريق لكل ناشد للحرية والكرامة والعز والإباء.
ورغم القيمة العظيمة لهذه الثورة، الا انها تشكل اكبر درجة من الاحراج لاي كاتب مهما كان بارعا وحصيفا، فهي الوحيدة القادرة على إسقاط الدرجات والألقاب التي تنحني امام عظمتها، ولا يستطيع أي كاتب أو مفكر أو فيلسوف ان يوصفها وصفا يمكن ان يصل الى درجة عليائها.
لكن عندما تسافر في رحاب بعض الاقلام “القليلة” التي خطت سيرة الامام الحسين وثورته المباركة، تشعر بان اليد التي راقصت هذا القلم، تعرف الحسين عليه السلام، ليس كما يعرفه الجميع، ويفهم قيمة ثورته ليس كما فهمها الجميع.
وعندما نتحدث عن هذه الأقلام، لا يمكن أن نعدو القلم الرشيق للكاتب الكبير “رباح ال جعفر”، الذي اختصر ما في القلوب وطيب النفوس، ببضع كلمات رسمها في مقاله الرشيق (سيد الشهداء)، الذي مر على شخصية الإمام الحسين عليه السلام، وجمع بريقها في بوتقة الإنسانية وفطرتها النظيفة، التواقة لمعرفة معنى الشهادة، دون الدخول في تفاصيل السفسطة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
فال جعفر ربط بقاء الإنسانية بالشهادة التي قدمها الامام الحسين لهذه الانسانية، والقرابين التي تنحر على مذبح الحرية بقوله “عندما تستعير الشياطين لغة الأنبياء، ويلبس الدجالون جلباب القديسين، لا بدّ من منقذ يؤذن بالدعوة إلى مولد عصر جديد. في ثورة باقية ضدّ الجاهلية، والصنمية، والجور، والفجور”.
واحدة من نقاط جمالية مقال ال جعفر، انه حسم احقية هذه الثورة العظيمة، وتأثيرها في سيرة الانسانية، وابعدها تماما عن الجدلية ، بشكل رشيق وممتع، بقوله ، ان “البنود التي خفقت في ثورة الإمام الحسين كانت أعلى البنود. والدموع التي هميت على الخدود الحزينة كانت أنقى الدموع. والدماء التي تدفقت كانت أطهر الدماء. فما سرّ هذه القداسة في دماء تحيي الأرض الموات بالأزاهير، وتبحث عن أتباع يتّخذون منها سيفاً يحميهم من جلاّديهم، ويرفع القيد عن رقابهم؟!”.
ولم ينسى ال جعفر الشجون والحزن التي اكتنف هذه الذكرى العطرة، فهي واضحة وضوح الشمس في حبر قلمه، الذي قال انه يكتب اليوم “عن الشهيد ابن الشهيد أبي الشهداء، وأقتبس وهجاً من نوره، وأنهل من مورده، وقد توضّأت الأرض بدمائه، وسجّل في التاريخ موقفاً لا سبيل إلى تكراره. سوى أن يستعذب الموت فيستشهد في معركة ما تزال تسترجع صداها من الألف الغابرة، ويتردّد إيقاعها في الألف الآتية، وهي أكبر من أن يستوعبها قلم أيّ كاتب مهما كابر!”.
كما ان ال جعفر وضع تعريفا رائعا للخلود الذي لا يمكن ان يصل اليه أي انسان الا بالشهادة، والشهادة لا يمكن ان تكون شهادة حقيقية، الا اذا استلهمت رمزيتها من انتصار ثورة الامام الحسين، بغض النظر عن اللون او الدين او العرق، بقوله ، أن “الخلود صفقة بغير ثمن، أما الذين يبحثون عن الجاه، ويرتشون السلطة، ويسرقون المال، ويتنازعون على تاج صدئ، وقطعة باقية من العرش. فإنهم يقبضون أجورهم ولا يخلدون. لذلك ترانا مع كلّ ترتيل قرآن، وصيحة آذان في بيوت الله، وفرض طاعة، وإقامة صلاة، وعقب كلّ تكبيرة. نستذكر من خلال الإمام الحسين الأبطال الثائرين، وأصحاب الجراح الباسلة، والضحايا المغدورين، وجميع الشهداء الذين رحلوا، والشهداء الذين سيرحلون”.
ان ثورة الامام الحسين عليه السلام في فكر ال جعفر، لم تتوقف في زمانه، ولم تنتهي باستشهاده، بل هي ثورة ملازمة للانسانية، باعتبارها الفيصل الوحيد بين الحق والباطل، وكيفية مواجهة الباطل مهما كانت قوته بدماء المظلومين، بقوله “نشكو ظلم أقوام جاءوا من بعده. ينتحلون قضيته، ويدّعون جراحه النبيلة. فلا أطعموا جائعاً، ولا آمنوا خائفاً، ولا أنصفوا مظلوماً، ولا صانوا الذمّة، ولا عدلوا بين الناس. لأنهم انشغلوا بمنافعهم عن مطالب الناس. سيبقى اسم الإمام الحسين استغاثة لكل ملهوف، وصرخة ينادي بها كلّ مظلوم في زوايا الأرض وأرجائها، وكل طالب إنصاف يريد الخلاص من القساة الجائرين إلى يوم الدين”.