التاريخ الاسلامي لم ينصف الحقيقة في غالبيته المطلقة كونه كتب بحروف وأقلام مأجورة لأنظمة طاغية تقمصها أبناء الطلقاء، ما أدى الى تأثر أصحاب النفوس الضعيفة والوضيعة من كلا الطرفين الخاصة والعامة، بما يكتب دون التمعن بجذوره أو الرجوع الى حقيقته.
أكثر من 14 قرناً مرت على الأمة ولا زال غالبية المؤرخين متأثرين من قريب أو بعيد بالدعايات والروايات الأموية، ويساعدون في ظلم أهل بيت النبوة والوحي والامامة ومنهم الامام الحسن بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام فيما يخص “ميثاق الصلح” مع معاوية أبن آكلة الأكباد في 26 ربيع الأول سنة 41 للهجرة حقناً لدماء المسلمين ودفعاً للفرقة والنفاق والتشتت والانقسام واندحار الرسالة النبوية الشريفة .
شبهات وسوء ظن حتى يومنا هذا تشوب تاريخ حياة ريحانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيد شباب أهل الجنة الامام الحسن عليه السلام، زرعها حقد بنو أمية الشديد لبني هاشم فدفعوا نحو تعكير صفاء تاريخ هذه الشخصية الاسلامية الفذة والفريدة التي لا مثيل.. أنه سيد شباب أهل الجنة.
التوقيع على “ميثاق الصلح” كان بدافع الحفاظ على بيضة الاسلام ومنعاً لسفك دماء المسلمين كما قاله رسول الله (ص):”ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ” – رواه البخاري في “صحيحه” (حديث رقم/2704) و3/169، وفي كل شروح فتح الباري لابن حجر إرشاد الساري، منها فتح الباري في شرح صحيح البخاري (كتاب الفتن حديث رقم/ 6692)، وفي جواهر التاريخ ج3 ص 125 للشيخ علي لكوراني، وفي المطالب العالية الصفحة أو الرقم: 4/262.
لو تمعنا قليلاً في نص الميثاق المذكور بين ريحانة الرسول ومعاوية الطليق الفاسق الفاجر لوقفنا على حقيقة التاريخ المزيف والمزور، وظلم الخاصة قبل العامة الذين لا زالوا يتمسكون بظاهرية الميثاق دون حقيقته وباطنه وأسبابه ويدفعون بالأمة نحو الركون والخنوع والمذلة لأعداء الإسلام والأمة هنا وهناك، وقبول أنظمة الجور والفرعنة والديكتاتورية، وإبعادهم عن الجهاد وكلمة الحق أمام سلطان جائر أو القيام من أجل تحقيق أسس الإسلام المحمدي الأصيل.
مؤامرات كثيرة أحاطت بالامام الحسن الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده الأليمة على يد زوجته جعدة بنت الأشعث طمعاً بأن تصبح زوجة يزيد ملك بنو أمية المقبل، ليقضي الامام المجتبى (ع) نحبه شهيداً مسموماً ودفن في بقيع الغرقد بعد أن رفضت عائشة السماح بدفنه الى جوار جده الرسول الأعظم (ص)؛ وذلك منذ اللحظة الأولى لتوليه قيادة الأمة بعد استشهاد أبيه الامام علي أمير المؤمنين عليه السلام في صبيحة يوم 21 رمضان من عام 40 للهجرة.
معاوية بن أبي سفيان أقدم على رفض البيعة للامام الحسن المفروض الطاعة وفق كلام الله سبحانه وتعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ” سورة النساء الآية 59، وبما قاله الرسول الأكرم (ص) “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا”- جاء في كتاب علل الشرائع ج1ص248باب 159، والمناقب لإبن شهر آشوب، ودعائم الإسلام، والإرشاد للمفيد، والبحار، وكفاية الأثر، دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي الجزء1 صفحة37، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري ص156، والمولوي صديق حسن خان القنوجي في (السراج الوهاج في شرح صحيح مسلم)، والبيهقي في (الرسالة في نصيحة العامة)، وتفسير ابن كثير،] ومصابيح السنة، للبغوي وغيرها من مصادر الحديث.
فأرسل الجواسيس وفرق الموت نحو الكوفة لاغتيال الحسن بن علي؛ وتبادل الرسائل بين الامام الحسن المجتبى والطليق معاوية الذي تقمص السلطة ظلماً وزوراً، لم تأتي بنتائجها وسارت الأمور نحو الحرب فأضطر الامام الى السير بجيش كبير حتى نزل في موضع متقدم عرف بـ”النخيلة” فنظم الجيش ورسم الخطط لقادة الفرق؛ ومن هناك أرسل طليعة عسكرية في مقدمة الجيش على رأسها “عبيد الله بن العباس” و”قيس بن سعد بن عبادة” كمعاون له؛ ولكن الأمور ومجريات الأحداث كانت تجري على خلاف المتوقع.
فوجئ الامام الحسن المجتبى بمواقف متخاذلة من أنصاره وقادته والمقربين له والتي من أهمها:
1- خيانة قائد الجيش “عبيد الله بن العباس” الذي التحق بركب “معاوية” لقاء رشوة تلقاها منه رغم أن الأخير كان قد قتل أثنين من أبنائه.
2- خيانة زعماء القبائل في الكوفة الذين أغدق عليهم معاوية الأموال الوفيرة فأعلنوا له الولاء والطاعة وعاهدوه على تسليم الإمام الحسن له.
3- قوّة جيش العدو في مقابل ضعف معنويات جيش الامام (ع) الذي كانت تستبد به المصالح المتضاربة.
4- محاولات الاغتيال التي تعرض لها الامام الحسن في الكوفة لوحدها.
5- الدعايات والإشاعات التي أخذت مأخذاً عظيماً في بلبلة وتشويش ذهنية المجتمع العراقي.
أمام هذا الواقع الممزّق وجد الامام الحسن بن علي أن المصلحة العليا تقتضي عقد “ميثاق صلح” مع الطاغية المحتال “معاوية” حقناً للدماء وحفظاً لمصالح المسلمين، بعد أن أقبل “عبد الله بن سامر” الذي أرسله معاوية الى الامام الحسن (ع) حاملاً ورقة بيضاء مذيّلة بإمضاء معاوية واعلانه القبول بكل شرط يشترطه الامام عليه السلام، حيث تمّ الاتفاق على وقف القتال كما نص “الميثاق” بما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
“هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلّم اليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسول الله، وليس لمعاوية أن يعهد الى احد من بعده عهداً، على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.
وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه.
وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لاخيه الحسين ولا لاحد من اهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غائلة سوء سرّاً وجهراً، ولا يخيف أحداً في أفق من الآفاق. شهد عليه بذلك فلان وفلان ، وكفى بالله شهيداً “- رواه المدائني في شرح النهج ج 4 ص 8 ؛وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 194؛وابن كثير ج 8 ص 41؛ والاصابة ج 2 ص 12 و13؛ وابن قتيبة ص 150؛ وابن أبي الحديد ج 4 ص 15؛ والدينوري ص 200.
الامام الحسن المجتبى عليه السلام كان يحمل على عاتقه مسؤولية مهمة وصعبة جداً، ربما أصعب من مسؤولية الامام الحسين عليه السلام، وهي مسؤولية إعداد الأمة لوقوفها على حقيقة أبناء الطلقاء وإصرارهم على العودة الى حكم القبلية الجاهلية بعيداً عن مساواة الاسلام وعدالته ووحدانيته، ثم غدر أقرب المقربين له ومن خواص قادته وعسكره وعموم شيعته، ما دفعه الى قبول الصلح مع أبن هند..
فكانت مسؤولية الإعداد أصعب من تفجير النهضة والقيام المسلح، لأن الشخص الذي يريد بناء وتربية جيل على المفاهيم الصحيحة، فمن دون شك وترديد لابد من أن يلاقي صعوبات عديدة، وربما يهان، كما أنه يحتاج الى برنامج منظم وزمان طويل ومخطط دقيق على المدى البعيد، والكوادر الصالحة والتقية والاحتياط من أجل المحافظة على هذا الجيل في حال الإعداد والبناء، وعوامل البقاء خلال عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر.
هنا بدأ أصحاب النفوس الضعيفة والدنيئة من غالبية الأمة الجاهلة للحق والحقيقة الناكرة للجميل برمي الامام الحسن ببغيهم واتهموه دون خجل أو وجل بأنه “مذل المؤمنين”!! متجاهلين وصايا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم “إنّ ابني هذا سيّد وإنّ اللّه سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين”- منهاج السنّة 2 / 121، و كشف الغمة – ابن أبي الفتح الإربلي – ج 2 – ص 142 – 143وما بعدها، ومناقب آل أبي طالب – ابن شهر آشوب – ج 3 – ص 185وغيرها من المصادر الكثيرة الاخرى.
ألمّ الأمر بالامام الحسن وجرح قلبه الشريف فرد عليهم مستعرضاً أسباب قبوله “الميثاق”، ولكن المقال لا يتسع لنقلها جميعا حيث اخترنا لكم ثلاثة مما قاله عليه السلام لخيرة أصحابه في المدينة المنورة ما يشير الى المعاناة الكبيرة التي كان يعانيها عليه السلام من شيعته قبل أعدائه، منها:
1- أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون انّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي (الاحتجاج : ج2 ، ص20).
2- علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله (ص) لبني ضمرة و… أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفروا بالتأويل (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ، ص15؛ وفي تراه في علل الشرائع ج 1 ص 200 و212).
3- والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ إنّي لم أجد أنصاراً ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه (علل الشرائع ص 12).