كنت قد كتبت عن حالة الذوق والتذوّق العامّين الّتين فسدتا فلوّثتا حياة بغداد وحياة سائر محافظات القطر بعد الاحتلال وأفسداها , ومنها ما انعكس على المظهر الخارجي للمباني الحكوميّة ومباني مؤسّساتها وكذلك الأهليّة منها , حتّى أصبح شكل العراق المعماري “دعنا الآن عن الملابس والأزياء الّتي يكتسي بها العراقيّون بعد الاحتلال فوحدها مأساة ذوق كبيرة” أشبه بمن رقّع ثوبه الممزّق رقّعه برقع عديدة من القماش البرّاق بمختلفة الألوان وبحجم واحد يغطّي جميع أحجتم الثقوب والشقوق ! إضافةً إلى تنافرها لونيّاً ومساحةً والقماش المهترئ الأصلي الّذي يرتديه .. إذ بإمكاننا مثلاً أن نتخيّل منظر بغداد مخلوقاً يمشي على قدميه مرتدياً هذا النوع من الثياب !؟ فكيف إذا كانت عمليّة “ترقيعها” تجري بتريليونات الدنانير تذهب هدراً خارج العراق لاستيراد تلك “المرقِّعات” ! والّتي تسمّى “مواد إنشائيّة مستوردة” ؟ ! .. لقد فهمنا وهضمنا , وتعوّدنا , على نهب المال العام مباشرةً من ثروات العراق وتهريبها إلى خارج البلد وسرقتها في وضح النهار وعيني عينك وسط تصفيق حاد من كوكبة القضاء العراقي , ولكنّنا لم نستطع أن نفهم لحدّ الآن أو نهضم أن تسرقنا دول الجوار رسميّاً مع سبق الإصرار عن طريق الطبقة “السياسيّة” الحاكمة عندنا والّتي جاءت “عبر صناديق الانتخاب” عن طريق صفقات من هذا الكمّ الهائل والخليط من جميع ما تنتجه دول الجوار لاسترضاء حكومات هذه الدول الّتي نستورد منها زبالتها , عفواً , بضائعها المختلفة ومصنوعاتها بتلك التريليونات من الدنانير العراقيّة من دون وازع من ضمير أو مسائلة , كلّ ذلك لأجل مساهمتهم في إبقائهم على كراسيّهم على حساب العراق وشعبه وعلى حساب عمليّة التصنيع المحلّيّة في البلد الّتي ساهمت بدورها في إيجاد الذرائع لوزير الصناعة وغيره لأن يطرحوا “فكرة” بيع معامل العراق الصناعيّة وسايلوات البلد الزراعيّة ! , مثل هذا الاستهتار بمكانة البلد العريقة الرائدة الساعية دوماً للتماهي مع تفاصيل الحياة العصريّة , وبمثل هذا النهج التدميري لاقتصادنا , حوّل شبابنا إلى طبقة اجتماعيّة واسعة عاطلة عن العمل , خرّيجون وغيرهم , ممّا أسهم في ترسيخ طابع المرارة في حياة البلد وأوقف فيه عمليّة الابداع وعمليّة تجديد دماء مؤسّسات الدولة الّتي تعتمد على هذه الشريحة الأهمّ في البلد , بعد أن كان العراق قبل الاحتلال وهو تحت ظروف أقسى حصار يُلزم نفسه دوماً بتعيين كافّة الخرّيجين رغم ميزانيّته الماليّة المنحسرة ! .. في الحقيقة يصعب هضم مثل هذه الحالة الّتي يلوّح بها “سياسيّونا” لكسب رضا تلك الدول المصدّرة لنا وفي مقدّمتها “إيران والسعوديّة وتركيا والأردن” ويصعب علينا معها أن تستمر حالة تداعي الذوق العراقي العام وخاصّةً مراكز القيادة في البلد , فما بالك بمؤسّساته الثقافيّة والاعلاميّة لو استمرّ تدهور ذوقها العام المستمدّ من تطوّر الحركة الفنّيّة التشكيليّة العراقيّة بالدرجة الأساس , وفيما لو تدهورت هي الأخرى هذه الحركة المهمّة تحت هذا الكمّ المريع من الضغط البصري وسط ضجيج هائل مستورد من التصاميم الفوضويّة المّربكة والألوان المبالغ في توظيفها ؟ .. ولعلّ أكثر ما تفاجأنا به هو “شمول” بناية نقابة الصحفيين العراقيين بهذا المدّ “المربّع” وكأنّ هذا الشكل من “الاكساء” قدر لا مفرّ منه على أذواق جميع العراقيين ! مع كامل احترامي للجهود الصادقة والمخلصة لنقيب الصحفيين السيّد مؤيّد الّلامي في السعي لكلّ ما يخدم الحركة الصحفيّة في البلد ويخدم الصحفيين , والّذي من المؤكّد وقع السيّد الّلامي في غفلة “استشراء” ظاهرة “التربيع” الّتي شملت حتّى “كشك الجايجي” ! , يلام في ذلك بعض من حوله لربّما تكاسلوا عن ضرورة التنبيه إلى الخصوصيّة العراقيّة في المظهر الخارجي للمعمار الّذي يشكّل العراق القاعدة الرئيسيّة في التذوّق المعماري العالمي وواضع أسسه الأولى قبل آلاف السنين وقبل أن تقوم الاكروبولس .. انظروا يا سادة يا زملاء إلى بناية “جمعيّة الفنّانين التشكيليين العراقيين” وبناية معهد الفنون الجميلة ببغداد الواقعتين في المنصور لنفهم معاً ما المقصود ! ..
اشتهرت تركيا اليوم بتصديرها لنا كافّة البضائع ومنها المواد الانشائيّة على اختلافها , ولكنّ أن تكون نلك المواد من بينها من يفرض ذوقه علينا فذلك أمر معيب لنا كعراقيين بل ويعيدنا إلى عصور الظلام عندما كانت تفرض الإمارات والممالك الّتي كانت “دخله خرگه دخله خرگه” علينا , بويهيّون وغزنويّون وأتابكة وخرفان بيض وسود وعثمانيّون وصفويّون وبرامكة وخرّميّة وبهائيّون ووهّابيّون الخ فيفرضون تراثهم على بغداد , معمار وطعام ولغة وملبس , ومنها طابعهم المعماري , والّذي لا زالت بقاياه شاخصة في بغداد والموصل والبصرة وغيرهنّ مع بقاء بعض تأثيراتهم في الملبس والطعام أيضاً ولغاية اليوم , ولعلّ اللون الأصفر الّذي يلوّن كتابات واجهات وأفاريز الكثير من المساجد في بغداد خير شاهد على الوجود “الغزنوي” والّذي كان “اللون الأصفر” شعار الغزنويّين , يلوّن راياتهم العسكريّة وملابسهم , عنك الأذواق الزخرفيّة والتصاميم المعماريّة الدخيلة والّتي يمتلأ بها العراق حول أضرحة كلا الجانبين , كرخ ورصافة , “شيعةً وسنّة ” , أبو حنيفة وأبو الجوادين , أبو قبقاب وأبو حزامين , طمسوا عبر قرون التخلّف جميع معالم الذوق العراقي العريق المستمدّ من حضاراته القديمة كشكل “الزقّورة” وغيرها “القصر الأخضر” العبّاسي وغيره , في المستنصريّة وغيرها , في قصر الأخيضر بكربلاء وفي باقي بوادي العراق ومدنه .. لعلّ أكثر ما غطّى على الشكل العام لبغداد في عصرها الحديث والّتي بنيت عبر ثمانون عاماً من المنجز المعماري الراسخ المراعي لحضارات العراق المتجذّرة وعبر نحّاتون وتشكيليّون عراقيّون عالميّون مشهود لهم جعلوا من بغداد عاصمة إغراء وشهوة حياة لا تقاوم أوقعت في غرامها جميع من زارها , والأمثلة والأدلّة على ذلك كثيرة يصعب سردها هنا , قبل أن تمتدّ لها أيدي وحراب الديمقراطيّة الأميركيّة ووكلائهم من “زهّاد” ومتديّنون و”ساسة” صدفة , والمؤسّسة أفكارهم ومعتقداتهم ضدّ منطق الحياة وضدّ الأوطان وضدّ كل ما هو طبيعي ويميل إلى الاستقرار ؛ من بدأوا بتدمير بغداد عبر جهلهم وعبر حقدهم , ولعلّ من أهم أسلحة التدمير الّتي بحوزتهم هي “الأغلفة الجداريّة اللّمّاعة المربّعة” الّتي ذكرنا , وبمختلف ألوانها , ولكنّها بحجم واحد” ! , وأشخّص نا هذا النوع من الأغلفة لكون مظهره المتشكّل من وحدته القياسيّة الثابتة “المربّع” أصبح هو الطاغي اليوم على واجهات بغداد المعماريّة ( ونقطة دماره الخطرة هي في تساوي أبعاد مربّعات مادّة الكساء المصدّرة للعراق وبدرجة قياس واحدة ! ) ممّا عمّم خللاً فنّيّاً لا يدركه من غير ذووا الشأن والاختصاص أفقدت بغداد طابعها فباتت وكأنّها مدينة غير بغداد تخضع ل أشبه ب”أوب آرت” دون قصد ! , فكساء “المربّعات” المتساوية بنفس القياس , جعل من غالبيّة مباني بغداد أضحوكة فنيّة وهزال لا يُقاوم وكأنّ قرويّاً أشرف على إكساء بغداد ! فمثلاً يتساوى “عنصر السيادة” وهو المربّع إيّاه , لغلاف أعرق رمز حداثي معماري في بغداد “مصرف الرافدين” الشاهق الارتفاع بحلّته “الجديدة” بمربّع باللون القرمزي الغير ملائم والبديل عن لونها “الأصفرالليومني” الأنيق يتساوى بنفس قياس القيمة أو “الوحدة” السياديّة “المربّع” مع غلاف كسوة خارجيّة لمطعم أو مكتب تجاري صغير ! ..
لعلّ أهمّ أسباب هذا التدهور في الذوق العام كما أراها هو عامل “التقليد” الّذي يصيب أصحاب الذهن القاصر أو المريض العاجز عن التفكير أو الخائف على أمواله من الضياع فيما لو دخل مشروعاً طريقه غير مضمون وهم مع الأسف يشكّلون النسبة الأعلى من العراقيين اليوم ! إضافةً للأسباب الّتي ذكرنا .. فما أن يفتتح مُنشأ خدمي يلفت له النظار حتّى يفقد خصوصيّته بسرعة بعد أن يصبح نموذجاً يقتدي به من قبل كلّ من فكّر بمشروع تجاري في العراق ! …