متى اصبحت اللغة هاجساً كرديا؟ في اي لحظة زمانية او مكانية وبمواجهة اي تحدٍ؟ ومتى شعر الكرد بالحاجة الى لغة قومية؟ وهل تأخر سؤال اللغة في بعده السياسي لدى الكرد؟ ما هي العلاقة بين السياسة واللغة والهوية في المجال الكردي؟ وهل ثمة خصوصية ما للعلاقة بين السياسي واللغوي كردياً؟ ماذا يحدث عندما يقيم الفكر السياسي تلازماً بين اللغة مادة وموضوعاً للمناقشات السياسية واستراتيجيات الهوية والاحتواء والاحتواء المتبادل؟ وما هو موقع اللغة في سياسات الهوية بالنسبة الى دول المجال الكردي والى الكرد؟ وما هي جدليات الهوية الممكنة او المحتملة كردياً؟ وهل طرح الكرد اسئلتهم عن اللغة والهوية ام انهم نقلوا تلك الاسئلة عن الآخر اوربياً أكان ام عربياً ام تركياً ام فارسياً ام غير ذلك؟
مجموعة اسئلة تبدو مهمة البحث عن اجوبتها من قبل اي متخصص في المجال الكردي، اشبه بمهمة الذي يسبر اغوار المجهول… يقدم رؤيته وتحليلاته عن الكرد ليجد بعد ذلك ان من الصعب تعيين موضوعه وتحديده، وقد يكون هذا احد ابرز الرهانات الكردية في الزمان العالمي الراهن.
فاللغة والهوية تعد واقعا وادراكاً، شرطين لبناء الامة، حيث ان الامم هي سيرورات تشكل اللغة والوعي بالهوية عناصر فاعلة رئيسية لها. وقد يحدث ان يتم تحييد احدى هذه العناصر الفاعلة وربما تجاهلها امام قوة حضور الاخرى في واقع المعنيين وادراكهم وارادتهم. لكن ليس ثمة اهتمام كبير بمدى شرعية ذلك التحييد او التجاهل خصوصا ان وزنها النسبي، اي العناصر الفاعلة يختلف حضوراً او تأثيراً بين جماعة اثنية واخرى وبين فترة واخرى لدى الجماعة الاثنية نفسها.
ينطبق ذلك على الموضوع الكردي، حيث هناك عناصر فاعلة او مكونات لدى الكرد تشهد قدراً غير محدد من التحييد او التجاهل فيها اللغة والتواصل الجغرافي والاستمرارية التاريخية، وتحصل احياناً الاستعاضة غير المعلنة او غير المسماة عن ذلك بقوة الارادة او قوة الايديولوجيا القائلة بأمة كردية ولغة كردية، ويحدث ان تتغلب الادلجة او الارادة على الوقائع فيندفع الكرد نحو صنع واقع ما او تخيله او التعاطي مع الفكرة المتوخاة بعدها واقعاً. وهذا ما تنشط الايديولوجيات من اجله وتهتم بصنعه وتعميمه… وهو ما يشكل موضوع هذا الكتاب الذي نحن بصدد عرض ابرز اطروحات المؤلف .
تمثل دراسة العلاقة بين الكرد واللغة والسياسة، والتركيز على البنى اللغوية وسياسات الهوية، احد المداخل التفسيرية لعلاقة الكرد الملتبسة والاشكالية، بالسياسة التي تثير قدراً غير يسير من الالتباس، وقدراً قليلاً –حتى الآن- من النقاش، سواء أكان ذلك بالمعنى الثقافي والمعرفي ام بالمعنى السياسي والكياني. وتبدو الكتابة في هذا الجانب من الموضوع الكردي قريبة جداً من الحواف الخطرة لمسألة لم تنل اهتماماً جدياً بتقصي بداياتها ومساراتها وراهنيتها التي تتخذ اشكالاً تراجيدية وحصرية تقريباً. انها مسألة تفتح على جروح ومواجهات انثروبولوجية عميقة وذاكرة تاريخية سلبية، ومدارك مرتبكة، ورغبة جامحة في التشكل الكياني السيادي من جهة الكرد والسعي الحثيث الى احتوائه او الاستثمار من جهة الدول التي تحكم المجال الكردي ومن جهة النظامين الاقليمي والعالمي.
اهتم الكتاب بالبناء اللغوي وسياسات الهوية باعتبارها قيماً مركزية في البناء الثقافي والسياسي للكرد، هو ما يعطي موضوعاتها وربما طريقة معالجتها حساسة مركبة لدى الكرد وغير الكرد، ويأتي ذلك من حداثة التعاطي مع التكوين اللغوي وطبيعته وتداخلاته القومية، ذلك ان الوعي باللغة او التأويل السياسي لها هو نوع من الاستجابة المتأخرة نسبياً في مواجهة التهديدات الثقافية واللغوية. ويندرج ذلك في اطار التأكيد على امتلاك الاهلية للبناء السياسي.
اما حساسية غير الكرد فتأتي من الشعور بان الموضوع الكردي يزيد حضوراً، كما ان تركيز الكرد على اللغة يزيد من التحديات الداخلية والدولية، لانه يهدد وجود الدولة او طبيعة النظم السياسية القائمة، ويضيف مصدر تهديد جديد الى مصادر التهديد الداخلية او مداركها او المصادر الخارجية بالنسبة الى العديد من دول المنطقة. والتهديد الذي نتحدث عنه هو نوع من تطوير ذاتي ومراجعة للرؤية الكردية والمدارك في شأن ما يتوجب على الكرد ان يفعلوه من اجل اكتساب المزيد من مؤهلات الهوية والوجود القومي.
البحث في واقع اللغة والثقافة والهوية والسياسة يتطلب قراءات متعددة في التحولات التاريخية والاصول والاشكاليات التي ادت بالكرد الى ما هم عليه الآن، لا القيام باسقاطات من الواقع الراهن على الماضي او القول بنظرية المؤامرة، وان الكرد تعرضوا لغزو ثقافي ولغوي وديني مثلما تعرضوا لانواع الغزو الاخرى، وانهم ضحايا اشكال من التواطؤ التاريخي ضدهم. هذه مقولات اسقاطية ــــ يؤكد المؤلف ــــ لا تنطوي على كثير من المدارك والمعارف بالحركية التي حكمت الوجودج التاريخي والثقافي للكرد في المنطقة، وربما في العالم، ومن ثم على الكرد المهتمين بالشأن الكردي والاقليمي ان يبذلوا كثيراً من الجهد في تقصي تاريخ المنطقة وثقافتها وتحولاتها بقدر اقل من الادلجة والتحيز والاستعجال. وكون الاجتماع الكردي لم يكن موضوعاً رئيسياً للبحوث والدراسات الاقليمية، بل كان هامشياً وعلى اطراف الشواغل العربية والتركية والفارسية وغيرها، ظهرت مشكلات كثيرة على صعيد المعرفة كما على صعيد الواقع.
فالثقافة الكردية ـــــ يقول المؤلف ــــــ تواجه مثل اي ثقافة اخرى العديد من التحديات الذاتية والموضوعية ما يتطلب ادراج الكرد في اولويات البحوث والمسوح الثقافية والانثروبولوجية والتاريخية على اسس علمية واضحة. وينشأ ذلك من باعث رئيس هو اهمية الثقافة الكردية في المنطقة والعالم على عكس ما يظن للوهلة الاولى ذلك، ان الانطباع الاولي عن هامشية تلك الثقافة او تابعيتها هو وليد وضع سياسي وصور ومدارك غير واقعية، واحياناً انماط تربوية وايديولوجية منحازة.
فالمطلوب اليوم تجاوز النمطيات والتصورات المسبقة والخلل والادلجة الفجة في فهم المسألة الكردية، كما عدم اعتبارها هوامش لمراكز بل اخذها باعتبارها جهات وجوانب وزوايا رئيسه للنظر فيها مباشرة. والمطلوب ايضاً النظر الى الموضوع الكردي والاقليمي والعالمي ان امكن من منظار كردي ايضاً لكن ليس من باب التنويع على الصورة بل من منظار البحث عن اصل وفهم ورؤى لديها قابلية للتواجد على درجة او مسافة موضوعية من الاخرين.
ان تناول السياسات اللغوية وسياسات الهوية هو بالضبط باب لمناقشة عدد من قضايا الوجود الكردي المعاصر. وهذا يعني ان المسألة اللغوية تتحد بطريقة يراد منها ان تساعد في تحليل السياسة الكردية وتفسيرها من جهة والسياسات الغيرية في شأن الكرد من جهة اخرى. وتتضمن المدارك والسياسات اللغوية ربطاً من نوع ما بين الفكر والممارسة وبين الاسم والمسمى. وهنا تختلط الابعاد الوظيفية للمسألة اللغوية بالابعاد المعرفية مثلما انها تتداخل مع السياسات الدولية والسياسات المناهضة لها.
ان النظرــــــــ ينبه المؤلف ـــــــــ الى المسألة اللغوية عند الكرد من منظور الجماعة المهددة لغوياً، ولذلك اتجاهات مختلفة، تهديد خارجي مصدره سياسات الدول، وتهديد داخلي مصدره المنافسات بين الكرد انفسهم على اولويات الاختيار اللغوي وافضلياته، واللغة القومية وغير ذلك. وثمة اوضاع للجماعة اللغوية المهددة يمكن تركيزها في النقاط التالية:
– ان تمارس دولة ما، سياسات تهدف بصورة مباشرة الى اضعاف اللغات غير الرسمية او غير المقبولة من السلطات او منعها.
– ان تكون الجماعة اللغوية قليلة العدد او ان يكون عددها متناقضاً لاسباب عديدة، مثل الهجرة او التحول عن اللغة الام الى لغات اخرى.
– ان تكون الجماعة اللغوية ضعيفة اقتصادياً او قليلة الموارد وبالتالي تجد صعوبة في تخصيص الموارد اللازمة لدعم اللغة والعمل الثقافي والهوية اللغوية.
– ان تكون الجماعة اللغوية اقل اهتماماً بالجوانب الثقافية والهوية، وتجد صعوبة في حشد التأييد او ان يميل ابناؤها الى التعبير الثقافي بلغات اخرى لاسباب، مثل الرغبة في الانتشار والحضور الواسع او توسل لغات اكثر دينامية… يجد الاكراد انفسهم في الاوضاع المذكورة ويضاف اليها الشعور الثقيل بوطأة الانحياز التاريخي في دول الجوار العربي والتركي والفارسي…
ان السياسات اللغوية ــــــــــ يستخلص المؤلف ـــــ سواء أكانت ردة فعل على سياسات الاحتواء ام صدرت عن وعي عميق بالمسألة اللغوية، ربما تواجه مستقبلاً تحديات متزايدة خصوصاً لجهة المنافسات والصراعات المحتملة بشأن طبيعة العلاقة بين البعد اللغوي والبعد السياسي للهوية الكردية نفسها، وتحدي اعتبار اللغة جزءاً مكملاً وليس بالضرورة مؤسساً للقومية الكردية.
الواقع ان نظرية اللغة لدى الاكراد فيها الكثير من الغموض، وربما شكل ذلك الاساس الذي يسمح بقدر نسبي من المناورة لتجاوز الذهنيات المغلقة والهويات الفرعية والغيرية المتوترة. اما المدارك والمعارف عن اللغة فقد لا تتعدى كثيراً التحليل اللغوي لمفردات منتشرة اليوم شفوياً او حتى كتابياً، وهذا على اهميته في فيلولوجيا اللغة لا يفسر الواقع اللغوي للاكراد اليوم، كما ان المفاصل التاريخية والسرديات الكتابية والشفوية الراهنة عن اللغة لا تزيد كثيراً على كونها فرضيات لا تجمعها روابط جدية.
تكاد السياسات اللغوية لدول المجال الكردي وردات الافعال الكردية تجاهها تركزت في ما تركز على الكلام او التخاطب بعدّه مسأله مركزية، وتأتي بعده المفردات الخاصة بالكتابة والاعلام والتعليم، فأول المطالب وأول الحقوق بالنسبة الى الكرد هو الكلام، وهذا يذكر بعبارة (غوتة) على لسان ( مفستو) في (فاوست) اذ يقول: بالكلمات يستطيع المرء ان يفعل كل شيء… أهو اذآ ضرب من السحر؟ نتكلم فتزول العلل من تلقاء نفسها.
• الكتاب:
الاكراد واللغة والسياسة: دراسة في البنى اللغوية وسياسات الهوية، تأليف – عقيل سعيد محفوض، ط1، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، بيروت/ الدوحة، 2013، 286 ص.
[email protected]