18 ديسمبر، 2024 8:12 م

الاقليم السني … جدلية الوحدة ، وفرضية الهوية

الاقليم السني … جدلية الوحدة ، وفرضية الهوية

طوال السنوات الثلاث الماضية ارتفعت الاصوات داخل الوسط السني بضرورة تحويل المحافظات السنية إلى (أقاليم)، ووصل الأمر إلى الإعلان عنه كما فعلت صلاح الدين وديالى، وانقسم فيه الشارع السني الى صفين , الاول يرى ان الاقليم يمثل حل الانجع لمصائب اهل السنة في العراق وما عانوه طوال سني الاحتلالين من اقصاء وتنكيل واستهداف لكفاءاتهم وتذويب لهويتهم, او قل استئصالها, اما الراي الاخر فلم ير في مشروع الاقاليم الا رجس من عمل الاحتلال , وثقافة جاءت مع (الدبابة الأميركية) و(دستور بريمر) او تجسيدا لـ(مشروع بايدن).

 

ان امعان النظر في الحجج التي يسوقها كلا الفريقين يشير الى ان لكل منهما مخاوفه وتوجساته, وحتى ايدلوجيته التي ربما تشكل هي الاخرى دافعا لهذا الموقف او ذاك , ومنها تتفرع لاسباب وتولد الذرائع. واذا سلمنا بان الحكم على اي شئ هو فرع من تصوره , فان رسم الصورة الكاملة للمشهد العراقي منذ التاسع من نيسان عام  2003, قد يعطي فرصة اكبر لبناء حكم اقرب الى الانصاف , وابعد عن الاسفاف.

 

اجتاحت القوات الامريكية العراق بذرائع شتى مالبت ان تهافتت الواحد تلو الاخرى  , ولم تمر الا اسابيع قليلة حتى انطلقت المقاومة العراقية في واحدة من أسرع ردات الفعل في تاريخ المقاومات المعروفة، وربما يرجع هذا لطبيعة النفسية العربية المسلمة التي تابى الضيم وتواجه الامور بطريقة تلقائية وفق ما تمليه عليها قيمها دون تعقيد او تركيب، بخلاف النفسية الفارسية ذات النفس الطويل والقادرة على ادارة المواقف المعقدة والمتناقضة في وقت واحد.

 

ولبس السنة لأمة الحرب لكن ربما دون معرفة ما كان يحاك في الدهاليز الصفراء.

مرت سنوات وغادر الامريكيون مثقلين بضربات المقاومة , ليبدا السنة بعدها معركة من نوع جديد لكنها اشد فتكا وامضى اثرا , انها معركة الهوية.

 

كانت الفكرة المحورية التي تبنتها الاستراتيجية الإيرانية في العراق من اول يوم لاحتلال العراق هو العمل على استكمال مشروعها بنفخ الروح في الامبراطورية الفارسية لكن بعمامة سوداء تدعي الدفاع عن (مظلومية اهل البيت) وتداعب عواطف شيعة العراق ! وما على المسلمين (السنة) إلا أن ينبذوا تاريخهم وراء ظهورهم وينتصروا لآل البيت ولكن خلف راية الثار التي يحملها الولي الفقيه, هذا اذا ارادوا ان يعيشوا كمواطنين من الدرجة الرابعة في العراق , او ان يعيشوا اصلا !!! .

 

وتحت هذا العنوان الكبير مارست حكومة المالكي ابشع انواع الاقصاء والتنكيل باهل السنة, بطرق واساليب يصعب عدّها وحصرها, الامر الذي ساهم بزيادة السخط السني في العراق.

 

فعلى المستوى الثقافي، تم التعدي على عقيدة أهل السنة بطريقة غير مسبوقة, ولم يكن الاعلام الرسمي والخاص ليفوّت مناسبة الا وقد شتم الصحابة وامهات المؤمنين ونال من رموز الاسلام، وكانت المناهج الدراسية وأسئلة الامتحانات العامة كلها تسير بهذا الاتجاه.

 

اما سياسة التهميش والإقصاء لكل الرموز السنية فحدث ولاحرج ، فبداية مع عدنان الدليمي ، مرورا بطارق الهاشمي ومحمد الدايني وليث الدليمي، وليس انتهاء برافع العيساوي, اضف ذلك عشرات من المشايخ والكفاءات والضباط السابقين, هذا فضلا عن مئات الاعترافات القسرية لمتهمين بدون تهم  تبث على الهواء مع جرعات هائلة من التحقير والازدراء ، كل ذلك رسخ اعتقاد لدى السنة بانهم غير مرغوب بهم كيفما كانوا , وكيف ان تكون سنيا لتتهم وتعتقل وتدان, وربما تعدم.

 

ولان الضغط يولد الانفجار, انطلقت المظاهرات العارمة في المحافظات, كانت الشرارة في الانبار لتلحقها نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك وصولا الى العاصمة بغداد, انطلقت بصورة عفوية بشعار استعادة الحقوق ورفع الظلم, حتى استبشر ابناء تلك المحافظات بان ثمة ربيع عراقي يلوح في الافق امتداد لربيع الاشقاء العرب الذي اسقط طغاة وهز عروش اخرين, وحاول المالكي ان يلوي ذراع ذلكم الحراك, تارة بالقوة, وتارة بمحاولة استمالة بعض قادته, واخرى بالحملات الاعلامية الشعواء, لكن عامل الوقت, وغياب الهدف او ضبابيته كان وراء فقدان الحراك السني لزخمه القوي الذي ابتدأ به مع عوامل اخرى كثير ساهمت في ذلك, حتى جاء اقتحام ساحة العزة والكرامة في الرمادي ثم ما حصل في العاشر من حزيران وما تلاه من احداث جسام صارت نقطة تحول واعادت رسم خارطة العراق وفق ومشاريع واجندات لم تحل خيوطها المتشابكة بعد.

 

ولذلك فان اصرار قوى فاعلة داخل الساحة السنية على طرح الاقليم السني كان له ما يبرره على الرغم من سهام النقد التي طالتهم من هنا وهناك, واذا كان موقف الحكومة العراقية ومن ورائها البيت الشيعي وايران بالضد من مشروع الاقليم السني مفهوما ومعروفة دوافعه, فان من المستغرب ان ينبري من داخل الوسط السني من يحرج على دعاة الاقليم ويتهمهم بالخيانة والجهل دون مسوغ من فقه او منطق او واقعية, ومع ايماننا بحرية الراي واختلاف الاجتهاد خصوصا في قضية كبيرة كهذه الا ان ذلك لا يعطي الحق لاي طرف ان يتهم الطرف الاخر في نيته او ان يرى رايه صوابا لايقبل الخطا, وان كل ما عداه ضلال مبين.

 

ان الدور الذي لعبه الاعلام الموجه, كان له اثر في صناعة راي شعبي يرى في الاقليم خطيئة كبرى وتجزئة للبلد, ولقد سمعنا عن ذلك قصصا تثير العجب, لكن الاعجب ان يحمل كل مكون في العراق مشروعه الذي يكافح لاجله ويبقى السنة يرفعون لواء الوطنية ويذبحون تحت شعار وحدة البلد.,

 

ان من يعتبر التجربة الكردية دليلا على ان نظام الاقليم يمس وحدة العراق فانه واهم لاشك, فكردستان حقيقة اقرب الى الدولة منها الى الاقليم , وقد صلت الى ما وصلت اليه بناء على امور تاريخية وجيوسياسية, ربما نفس الاسباب التي تدفعها الى تاجيل الاعلان عن دولتها صراحة , اضافة الى مواقف دولية واقليمية معروفة.

 

اما  الطرف الاخر وهو الشيعي , فانه كحال الشيعة في كل العالم قد تجاوزا اشكالية الوطنية, وبدا واضحا ان قضية الطائفة ونصرة المذهب في سلم اولويات الشيعي سواء كان عراقيا او لبنانيا او بحرينيا او حتى سعوديا, والشيعي المنسجم مع تشيعه وثقافته الذاتية لا يمكن إلا أن يكون مع المشروع الشيعي الكبير الذي يقاد من طهران.

لكنّ السني هو وحده يعيش اليوم حالة من الازدواجية بين انتمائه (الديني) وانتمائه (الوطني أو القومي)، ازدواجية تولدت عند السنّي الذ يدين بالولاء لدينه بنفس القدر الذي يشعر فيه بالانتماء لبلده.

ان التطلع الى امكانية اعادة شيعة العراق وكرده الى حضيرة الوطن الواحد وجرهم الى الصف الوطني الثائر للاطاحة (باذناب الاحتلال) واصحاب الاجندات الخارجية بات اليوم ضربا من الخيال, ولا ادل على ذلك من ارتفاع اسهم المالكي في صفوف الشارع الشيعي لانه ضرب السنة او قصف الفلوجة, على الرغم من الوضع الامني والاقتصادي والخدمي المزري والمثير للشفقة في مدن الجنوب قبل غيرها .

 

ان السنة الرافضين لدعاوى الاقليم من الإسلاميين مدعوون اليوم لقراءة عميقة في مقاصد الشرع من حفظ للدين والارواح والاعراض وغيرها مما هو اوجب واعظم من وحدة الارض, هذا اذا افترضنا جدلا  ان الفدرالية تعني التقسيم او تؤدي اليه, واذا كانت وحدة العراق (السايكس بيكوي) اذا صح التعبير هدف بحد ذاته ولو على جماجم ابناءه الاصلاء وعقيدتهم وتراثهم, اذن فابشروا بمزيد من القتل والتشريد وضياع الهوية والذوبان في الاخر لسنوات وربما عقود قادمة.

 

اما القوميون والعروبيون السنة فربما عليهم الاقتداء بكثير من نظرائهم الشيعة الذين حسموا امرهم وانظموا الى حشود (الفرصة التاريخية), وما تجربة البعث السوري- العلوي عنهم ببعيد, ومن يريد ان يوقف زحف الملايين الى كربلاء براياتها السوداء المطالبة بالثار من قتلة الحسين لكي تنضم الى مشروعه الوطني, عليه اولا ان يستيقظ من نومه ليعيد عقارب الزمن خمسين عاما الى الوراء, حين كانت هذه الحشود تملا شارع الرشيد وهي ترفع شعار الشيوعية الاحمر وتهتف بسقوط الامبريالية العالمية .

 

ولو نظرنا بعين الانصاف الى دعاة الاقليم السني, فإنهم لا يفكرون إلا بإدارة أنفسهم بعد أن تفرقت السبل بشركائهم في الوطن، فهم من وقف ذات يوم بوجه الدستور الذي اصل للفدرالية يوم كان هناك امل بعودة قطار البلد الى السكة الصحيحة, قبل ان يتغول الاخر ويتحول الى وحش كاسر يفتك بجاره واخيه وشريكه في الوجع, بعد ان كان ذلك الاخر يعيش مخاوف الماضي وكابوس الدولة القوية التي تعد على الواحد منهم انفاسه وتراقب افكار قبل افعاله, دعاة الاقليم لايريدون الا ان يمشي احدهم بالشارع وهو يلتفت ورائه خوفا من عناصر الامن وحفظ النظام التي ليس لها من اسمها اي نصيب:

 

اسماء مملكة في غير موضعها        كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

 

دعاة الفدرالية يريدون ملاذا تحفظ فيه الاوراح وتصان فيه الاعراض, تبقي للشيخ كرامته وللمراة عزتها وللشاب حريته, يشعر فيها ان غير مستهدف لفكره او انتمائه , واذا اذنب فان قضاء عادلا ينتظره, وعقوبة لاتهدر ادميته, لا مكان فيها لمصطلحات الاجتثاث والانتقام و4 ارهاب, وليس فيها من ينبش بصفحات التاريخ ليؤجج الاحقاد ويدعو بدعوى الجاهلية.

 

ان سنة العراق مدعوون اليوم اكثر من اي وقت مضى الى التوحد حول مشروع واضح يخلصهم من سنوات الضياع وحالة التشرذم, فالمصائب تجمع المصابين كما يقول شوقي, والذي يظهر لنا – والله اعلم – ان الاقليم هو الحل رغم انه ليس حلا مثاليا لكنه واقعي , والا فقل هاتوا مشروعكم ان كنتم صادقين.