25 ديسمبر، 2024 5:11 م

الاقتضاب والتدوير والعمق الرمزي‎

الاقتضاب والتدوير والعمق الرمزي‎

في نص الاديبة السورية فيحاء نابلسي( رؤى) من مجموعتها القصصية (بروكار)
المقدمة
لمحة بسيطة عن السرد الادبي والمسرح
 السرد هو أسلوب واستراتيجية وطريقة يعبّر فيها الكاتب عن فكرته لأساسية ((tone)) وتعطيه المرونة والحرية في التعبير عن الإرهاصات والمتغيرات في الكفاح الإنساني اليومي المطرد، وخلاله يترجم الكاتب الأفعال والسلوكيات الإنسانية ، وبذلك يكون الكاتب قد قام بتحويل المعلومة إلى كلام مع ترتيب الأحداث، ليس المقصود هنا الكلام غير المنتظم الّذي لا يوجد فيه ترتيب للأحداث، أو الّذي فيه انعدام في الإنسجام بين كلماته وجمله ومعانيه. وفي السرد تتلاشى الحاجة لشرح أفكار أخرى تتشارك مع لغة السرد أو لتلخيص المراد أو إعطاء مواعظ، وذلك لأنّ السرد يظهر كل ما هو مراد، وإن حصل ذلك فهو زيادة وحشو لا فائدة منه بل قد يُسبّب ضعفاً لهذا الأسلوب، وله تأثير سلبي على بنية النص وتركيبته. ومن أشكال السرد (السرد المفصّل)، ويكون ذلك بوضع كلّ التفاصيل في السرد دون اختصار، و (السرد المجمل)، وفيه اقتضاب للأحداث، ويكون التركيز فيه على الأحداث الأساسيّة والتي تكون هادفة، أمّا عن طرق السرد فهي: السرد الذاتي، والسرد المباشر، وسرد الوثائق (المذكّرات والاعترافات). ويصطلح عنه باللغة الانكليزيةNarration Technique
أساليب السرد الأدبي
التعبير عن أسلوب سردي معيّن كأن يكون جدّياً او ساخراً بأساليب مختلفة مثل:
-1-  الحوار الداخلي (interior monologue):  يُستُخدم في القصص القصيرة أو الروايات أو القصائد، لكنه يُعرف بـ مناجاة النفس (soliloquy)  ويستُخدم هذا الأسلوب في النصوص المسرحية و النصوص الأدبية على حد سواء و على هيئة نص ادبي مع اختلاف بسيط عنه في  المسرح حين يظهر على هيئة حديث بين شخصيتين من جهة واحدة  على خشبة المسرح يسمعه الجمهور ولا يسمعه الممثل الآخر. شخصية تكيد لأخرى و يعلم الجمهور كينونة الكيد التي لا يعلمها الشخصية المعنية بها….
  2- الحوار الادبي او المسرحي (dramatic monologue): هذا الأسلوب السردي يشبه الحوار الداخلي إنما يأخذ شكل حوار مع طرف آخر. و هذا الأخير – أي الطرف الآخر – لا نعرفه إلا من خلال ما يقوله المتكلّم أو الراوية في النص. كما أننا لا نعرف المكان الذي يتحدث منه المتكلم سوى من خلال حديثه. إليكم مثال مع شرح أدرجه بين قوسين.
3-  – الرسائل البريدية  (letter narration): وهو عبارة عن حوار يجري بين طرفين في القصة القصيرة من خلال الرسائل البريدية. نقرأ في النص رسالة موجهة من شخصية إلى أخرى. و يمكن ان تكون القصة عبارة عن رسائل متبادلة، بحيث نقرأ الرسالة و الرد عليها من الطرف الآخر. و يعتمد أسلوب الرسائل النصية بشكل أساسي على الحوار، بحيث نقرأ في القصة ما يدور في ذاكرة الشخصيات، و ذلك من خلال ما هو مكتوب في الرسائل. هناك روايات بأكملها كُتبت بهذا الأسلوب السردي، و تُدعى epistolary novels أي روايات رسائليّة.
  -4-اليوميّات : (daily narration ) هي ما يسجل يومياً من مذكّرات، وهي إحدى الأساليب التي تُكتب فيها القصص و الروايات الأدبية ، و يمارسه الكثير من الناس على المستوى الشخصي و ليس الأدبي ، لكن في عالم الأدب ، نرى الكثير من القصص و الروايات تعرض يوميات شخصية معينة. كتبتُ بشكل قصة قصيرة او موقف أدبي.
5- – السرد الاستقرائي (subjective narration): هو ما يعتبره النُقّاد سرداً استقرائياً وغير موضوعياً ، يتمثل هذا الأسلوب السردي بوجود شخصية واحدة تروي لنا ما يجري من أحداث في قصة قصيرة أو رواية. و تكون تلك الشخصية كالمراسل الصحفي الذي ينقل ما يجري من أحداث حوله و ينقل كلام هذا أو ذاك. يتميز هذا الأسلوب عن المونولوج المسرحي بوجود شخصيات في النص تتكلم و تتصرف بشكل طبيعي و تحاور الآخرين، إنما من ينقل كلامها و أفعالها هو الراوية (narrator) الذي يقص على القرّاء ما يجري.
6- – السرد الموضوعي (objective narration):
 ان كل شخصية تتصرف و كأنها راوية مستقل. و بدلا من أن ينقل لنا الرواية ما تقوله الشخصيات الأخرى بحقّه، الآن سنسمع من خلاله بشكل مباشرة. و من هنا، لم يعد السرد مقتصرا على وجهة نظر شخصية واحدة في النص.
 -7- السيرة الذاتية (autobiography) التي يمكن إستغلالها في عمل أدبي أو مسرحي، حيث ينقل لنا الراوية سيرة حياته بأسلوب أدبي، أو يقصّ علينا سيرة حياته الشخصية او حياة شخصية اخرى ما يسمّى (biography).
المميزات الجمالية والفنية والبناء الهيكلي للنص
هيكلية النص :
هو نص قطع بعدة قطع ادبية متناثرة ، احد عشر قطعة ، لتطبيع دليل السرد في دفتر مخبوء تحت الوسادة لشخصية سردية  لكاتب مقتدر يشير بأصبعه فتسابق الباقيات من الرؤى بالدخول تحت الوسادة للاختباء بين أوراق دفتره السحري وتقوده نحو سيطرة الأولى افتراضاً أنّ كل واحدة من تلك الرؤى هي ،وضع زوجته العابثة ,رؤى، بالرؤيا الاستهلالية…..هو تكنيك من نوع جديد لم نألفه من قبل…..امتشقت كاتبتنا البارعة الأديبة السورية فيحاء نابلسي وملأت قلمها بحبر الإبداع والتجديد والتحدي بتعمد وعناد لتؤسس لضرب جديد جميل وابتكار غير مطروق من قبل، قد يدفع القصة القصيرة ذات المشهد الواحد نحو شكل مقتضب تحكمه الفصول مشابه لرواية أو مسرحية….
حاولت الكاتبة المبدعة فيحاء نابلسي أن تنجز هذا الدأب بقطع أدبية متناثرة عددها أحد عشر قطعة تربطها بخيوط ونقطة التقاء واحدة لتمسك بالطرف الاخر لتخيط الرؤى معا وتسوق النص بعصا الابداع والتمكن كيفما أرادت لجعل عملية التدوير تنطلق من الرؤية الأولى  كخرز مسبحة صوفية ثم تخترق قلوب الرؤى الواحدة تلو الأخرى في النص حتى  تصل الأخيرة ثم تتجه من جديد نحو  الأولى…. وتمسك الكاتبة بطرف الخيط عن طريق بطلتها المفترضة بشرياً رؤى وتسلسل رؤى الكاتب المتتالية لتختمها باسم زوجته المفترضة رؤى وتلك براعة لم أعهدها في نص أدبي قصير من قبل ….
رد الفعل النقدي :
كتابنا ونقادنا العرب مقلّدون فقط ولديهم قوالب ثابتة أكل الدهر عليها وشرب لا تتزحزح ولا يقتنع أي منهم بالتطور والإبداع  الذي يغزو العالم الأدبي إلا ما يأتي من أسماء مرطونة حتى وإن كانت سخافات وقمامة لغوية وأدبيّة متدنية المستوى و المهم قي الأمر هو قال فلان وذكر في المصدر الأجنبي الأوروبي…الأمريكي الفلاني…..الخ…هذا الدأب ضعف كبير يعكس التدني والإسفاف  بالذائقة والعربة النقدية العربية ويطعن القدرة و الثقة فينا بخنجر العجز من الخلف الى حد الخجل  ……فكل شيء في الحياة يتحرك ويتقدم بما يناسب الذوائق و الأذواق الأدبية المختلفة ، إلّا  فينا نحن العرب تبقى كليشة التغير ثابتة لا تتغير اإلّا بأمر من مسطول أجنبي أو مصدر مطبوع بلغة أجنبية…..وتلك ظاهره خطرة منتشرة فينا…..يقابل ذلك عدم الاقتناع بقدرة أو إمكانية أي عالم مبدع عربي امتثالا الى مبدأ (مغني الحي لا يطرب) اإلا ويأتي برضا أجنبي  وذلك شيء مقيت يعكس الضعف والانكسار في أديباتنا  ومبدعينا  ويمنعها من المعاصرة والسبب قلة الثقة فينا وفي أنفسنا ولا أدري ما السبب قي ذلك…..
نوع السرد المستخدم في النص :
حين قرأت نص تلك المبدعة نعتها بالشجاعة  والتحدي حتى انها اندهشت من نعتي هذا لأنها قد لا تعلم بما ذكرته آنفا من معاناة…فهي معذورة……استخدمت الكاتبة المبدعة فيحاء نابلسي هيكلية جديدة وخرجت عن المألوف في البناء الفني والهيكلي للنص وحتما سيرافق ذلك تغيراً في النمط الأسلوبي في السرد فقد استخدمت جميع أنواع السرد موزّعة ذلك على الرؤى المتناثرة في النص…استخدمت الحوار الداخلي و الحوار المباشر التقريري وأعمدة الترميز الأساسية ….وقع نصها بين الرمزية ومسحة خفيفة من السريالية بأسلوب عميق غير مباشر يشير وبقوة الى الاقتضاب و طرد السرد الاخباري عن طريق المعاني المخبوءة تحت وبين وفوق السطور وحسب الحاجة الغائبة عن المشهد إلّا ما كمن في الذهن المتفتح بالذائقة الأدبية الراقية……هي دعوة للمتلقي النهم بالتجدد والحداثة النصية وفك الأواصر الواقعة بين طائلة الرمزية والسريالية من خلال ألواح الحبكة الإخبارية المقطعة في الرؤى الأحد عشر المتناثرة على طاولات النص……
نوع الحبكة :
استخدمت الكاتبة فيحاء نابلسي نوع الحبكة الإخبارية أو التقريرية عبارة عن روتين يومي ميلو درامي عن إختلاجات وإرهاصات ينسجها الراوي الداخلي في النص وهو الكاتب بدفتره اليومي من أحداث سريعة ذات منطقية سطحية تشير من خلالها نحو عمومية مخبوءة…   وحبكة رمزية أخرى بحدث سافر يرمز به الى حالة إنسانية عامة في مجتمعنا الشرقي من خلال الرؤى التالية : (….الزوج الغائب سبعة عشر يوماً عن زوجنه المفترضة وهي رؤيا من رؤاه /….شواهد القبور على قبور الاثرياء /…..طلب الكوكتيل يمنح شعورا في المذاق ولا ياتي من نكهة واحدة/……فكرة تحوم في رأس الكاتب ولا تفارقه أن يحوم في شوارع المدينة /……حمرة النبيذ وجمالها في الحلق /…..تأملها بحيرة مسحها وخطها من جديد / ……..وعورة الطريق تدمي الاقدام مقارنة بوعورة اليشر /……تأمل شريحة الليمون الصفراء تسبح في كاس الشاي /…….استيقظ في داخله حنين جار للأماكن /……قلب وجهه في السماء طافت عيناه فوق الأمواج في حضن الشاطيء /…….اقتحمت عليه برزخه الطويل ، تعال نمشي على البحر……) هي أحد عشر رؤية تشكل النص بسرد إخباري ميلو درامي لكنها تشيرنحو إرهاصات المجتمع من صراع وكفاح يومي سلبياً أم إيجابياً بشكل رمزي رائع……استطاعت الكاتبة فيحاء نابلسي أن تلقي نظرة سريعة لما يختلج في الحياة اليومية من من صراع بين الإنسان وقوى الطبيعة وسعادة وتعاسة وروتين يومي قاتل…..
 
استخدام المحسنات البديعية و الكنايات والتشبيهات والتشخيصات فب النص:
بارعة هي الأديبة الأستاذة فيحاء نابلسي بإخضاع المحسنات البديعية بشكل متزن لجبروت  أسلوبيّتها التلقائية الهادئة واللامبالية ، فقد استخدمت التشابيه والإستعارات المكنية والصور البلاغية والتشخيصات في الإشارة الى الرموز وأعمدتها المخبوءة بين وتحت السطور بشكل ذكي حتى صارت المحسنات البلاغية آجراً لبناء الصور البلاغية بفطنة وانبهار تحت عصا  أسلوباً رمزياً عميقاً مرصع بتلك المحسنات البديعية والبلاغية لإثراء النص بمسحة من الجمال الأدبي الأخّاذ ، مستعبدة الكلمات القصيرة التي تزيّن الحوارات القصيرة المفاجئة  ، من ذلك نجد انها امتازت بشيء ملفت للنظر والتقصي المستديم حول أشياء لم تحدث وقد تحدث فعلا وهذه المسحة المتخمة بعلامات الاستفهام والتعجب هي الشيء الجديد الذي يمييز أسلوب تلك الكاتبة العبقرية عن غيرها من كتاب جيلها…..
فتراها تكتب وهي تطبخ أو تشاهد التلفزيون وتستقي كل كتاباتها من وحي التلقائية واللامبالاة يضاف إلى ذلك براعتها بتسيير المحاكات والحوارات الداخلية طوع أمرها لإغناء النص لغوياً وبلاغياً حين تمزج البلاغة الادبية باللغة والأسلوب العميق المرمز لترسيم أبعاداً مختلفة تأخذ بالمتلقي نحو التفكير والاستنتاج وهذه نقطة تحسب لبراعة الكاتبة في التصوير الرمزي لذلك هي سيدة التدوير الفني في النص القصير….ونقصد بالتدوير ان تخلق نصوصاً وأحداثاً ثانوية جديدة داخل النص الأصلي الذي لا يحتمل إلّا حدثاً منفرداً مع ذلك تجعل النص يتوق إلى حاجتها بتنصيص جديد يكمل ما نقص ولا مفر له من ذلك ، ويعود النص لطبيعة السردية دون تأثير او إسفاف…..عسى أن نتجول في حدائقها الوارفة معا…..
 
رَنَت إليه بعينين واسعتين … أطبقَ جفنيه هامساً:

    ” غداً .”
    ” الليلة .”
    ” متعبُ أنا .. “
    ” أنتظرك منذ سبعة عشر يوما . ”   تهاوى رجاؤها بانكسار … ” مللتُ الانتظار . “
    استسلم لزخّة نعاس بدّدت صورتها من أمامه .
    فركت أرنبة أنفه برؤوس أصابعها . دفعها عنه بكفّه الخشنة و شدّ الغطاء فوق رأسه . انسلّت من تحت الغطاء و نفخت في أذنه , نفضَ رأسه كمن يشيح بوجهه عن ذبابة .
    ” غداً ” .
    لم يدرِ تماما ما هو الوقت عندما أحسّ ببرودة في أصابعه و رعشةٍ في جفنيه . اكتشف فجأة أنه صاحٍ ..
    ” رؤى ! “
    ” نعم .. “
    ” ألا تستسلمين !! “.

“هل رضيت الآن ” ؟؟؟
يظهر بشكل جلي من الإستهلال في الرؤيا الأولى أنّ الكاتبة سلكت مسلك الحوارية المقتضبة بين بطل القصة  الرؤيا الاولى  والتي ظهرت بصيغة مشخصة كزوجة بشرية مفترضة  وسمها رؤى وهي اسما لبطلة الرواية وشمولاً لإشارة رمزية مستديمة  للرؤى الباقية كاستمرار لدأي  الكاتبة في السير بخطى ثابتة لبلوغ النهاية في تثبيت كينونة الرؤى العشرة الأخرى  بشكل متسلسل ومترابط كحلقة في سلسلة واحدة او كخرز تلظم بخيط واحد لمسبحة واحدة او لقلادة في جيد عنق ذائقة المتلقي المتذوق للنصوص الرمزية والسريالية وفك الغموض في أعمدتها المخبوءة……
لقد قامت الكاتبة الكبيرة فيحاء نابلسي ببناء تلك الرؤيا بشكل حواري داخلي غير مرئي  أو محسوس فهو يدور في خلد الكاتب او الراوي الداخلي للرؤى وكان الحوار سريع ومقتضب بين شخصين(Dialogue) وكأن الكاتبة توجه كلامها للمتلقي أن يفهم ما بين السطور و الكلمات وخلف كلمات الحوار القصيرة والمقتضبة ، واتضح منها أنّه كاتب غاب عن زوجته المفترضة سبعة عشر يوما ثم عاد وقد هزها الشوق الأنثوي له دأبت بالسعي والإصرار لتأخذ حاجتها الأنثوية تثبيتاً لأقدامها في خضم هائل من إهمال وفراغ ذكوري لا مبالي….. ظهرت النتيجة لهذا الإصرار في العبارة الاخيرة:( ” ألا تستسلمين !! “………………… ليوقِظَها الضياء متى يشاء . )
 
تطاير الغبار من حجر الرخام وهو يئن تحت المقص .
مسح عن وجهه الغبار وتأمل لوح الرخام . ستكون شاهدة على قبر أحد الأثرياء . غريبة رغبة بعض البشر بالتميز حتى بعد الموت .  نظر في الخيوط غير المتناسقة في الحجر , لا بدّ أنها تعني شيئاً .
لماذا يتّهمون الحجارة بالقسوة ويشبهونها بقلوب بعض أجلاف البشر .
الأحجار تستسلم للبشر يصقلونها كما يريدون . بعض النفوس عصيّة على الصقل . أعاد تمرير الآلة حول الأطراف ليجعلها مستديرة .
لا يحب الزوايا , يعشق الأقواس , يعشق استدارتها المليئة بالحنان والاحتواء .
حاول بعض من صحبته حبسه داخل إطار , لم يستسلم .
” لا أحب الإطارات , أحب أن أنساح كالماء , أتطاير كالهواء . أتبعثر كالرائحة . لا أحب الإطارات .
تحيط بها خطوط , عندما تلتقي الخطوط تولد الزوايا .أخشى أن أختنق بين ضلعي زاوية .. لا أحبّ الزوايا .”
تبة في هذهذتأمل العروق في حجر الرخام . خطوط الزمن على جسد الحجر أبجدية عصيّة على القراءة . عاد يمرر الآلة حول الشاهدة . ذرات الغبار تتطاير من  حوله , لكنّه يرى بوضوح ”  لا بد أن تفقد شيئاً حتى تحصل على شكل ” .
استخدمت الكاتبة في الرؤيا الثانية الحوار الداخلي( Interior Monologue)وهو نوع سردي محترم استخدمه الكتاب بعد عصر النهضة والثورة الرومانسية هو عبارة عن محاكاة وخطاب للشخصية مع نفسة بشكل ظاهري مسموع حينها يسمى  Soliloquy ) ) مناجاة النفس وهذا منتشر في النصوص المسرحية وقد ظهر جليا في مسرحيات شكسبير واهمها مسرحية(Othello) عطيل كاستراتيجية للكيد بين عطيل وزوجته دزدمونا ولكون الكاتبة الكبيرة فيحاء نابلسي قد تعرضت لثقافة واسعة بالادب الانكليزي بسبب اختصاصها الدقيق و بذلك الأدب وعربته الكبيرة خاطبت ذوائقنا بشكل واثق الخطى بهذا النموذج من السرد…..أمّا إذا كان هذا النوع من السرد داخليا بين الشخص ونفسه بشكل غير مسموع حينها يسمى بالحوار الداخلي(ٍStream of Consciousness)  تيار الوعي الداخلي وقد كان ذلك من المدارس التي أخدت حيّزاً كبيراً في أوروبا بعد عصر النهضة الأوروبية ومثال ذلك  James Joyce’s Ulysses وتبعه بعد ذلك كتاب كثيرين في هذ النوع الرائع من السرد Italo Svevo in La coscienza di Zeno (1923,[17] Virginia Woolf in Mrs Dalloway (1925) and To the Lighthouse (1927) and William Faulkner in The Sound and the Fury (1929)…………………………………….                                      وقد أرادت الكاتبة الكبيرة فيحاء نابلسي هنا الاستمرارية في وضع الكاتب في سلم المحاكاة الداخلية للمحافظة على الأثرة بين السابقة والقادمة من الرؤى حتى بدأ يقارن بين الإنسان والحجارة وبأنّ الإنسان أصلب من الحجارة…..وهو الذي من يستطيع أن  يشكلها حسبما يريد وهو يخاطب ذاته بما يحب ويكره من أشكال البشر والحجر……
في أحد أعياد ميلاده أصرّت على الانفراد به , لم ترض أن يشاركهما تلك اللحظات أحد . استسلم لرغبتها . تأنق وتعطر واشترى عودين طويلين من الزنبق البلدي ذو الرائحة الحقيقية وقرنفلة بلون زهري .
جلست أمامه صامتة تتأمله بعينين نصف مغمضتين ونصف ابتسامة مائلة .
” أريد كوكتيل ” .
” فرش ” …
“بإمكانك أن تتعلم أشياء مما تأكل وتشرب .”
ارتفع حاجباه علامتا تعجب .
استرسلت :
 “الكوكتيل يمنحك شعورا صادقا  أن المذاق اللذيذ لا يأتي  من نكهة واحدة ..
عندما يكون لحياتنا نكهة واحدة نتوقف عن الشعور بأي مذاق , خذ رشفة واستشعر لذّة الامتزاج. “
اما في الثالثة ، لابد من الخطاب المباشر في الموقف الأدبي الذي يعبر عن لقاء رومانسي أو بوح غرامي فجاء الكوكتيل المشروب العادي رمزا للذة في المزيج في الأشياء ودارت المحاورة بذلك الخطاب الفلسفي المنصب على الشعور والإحساس بالمزيج وارتشاف الأشياء بالحياة بشكل هادئ لنيل الاستشعار بالراحة واللذة بذلك  تشير الكاتبة هنا الى أنّ الحياة بكل مكنوناتها ماهي إلّا  مزيج من أشياء نحس بها وإن  لم نحس بها فلا تعتبر لنا شيئاً، وحين تلتقي وتتمازج تزداد بريقاً وقيماً أخرى لتصبح شيئاً مهما  سيتحق الإرتشاف بثمالة ، وتشير نحو الحب  والجمال والعشق والزواج والمشاعر الإنسانية الأخرى والقصد من ذلك في ذهن الكاتبة أن نعيش الحياة بكل تفاصيلها بشكل هاديء وكاننا نجلس في مقهي ونرتشف كوكتيلاً لفواكه لذيذة محببة وهي صورة رائعة صيغت  بكناية وتشبيه بلاغي رائع استخدمت فيه المحسنات البديعية والرمز العادي  نحو الإشارة للتعميم والمطاولة فقد دار الحديث بين الكاتب و الرؤيا بخلده حول لذة المزج بين الأشياء الى النهاية التي يحكمه الامتزاج وهو طريق التذوق الأمثل للأشياء التي تصنع السعادة……..
“لماذا أنا ؟؟؟ “
” اخرجي من رأسي … ارحلي عني … أرغب في لحظات من الهدوء . لا تكفين عن التحويم داخل رأسي كبعوضة في زجاجة . لماذا لا تتركيني وحدي قليلا . أشتهي التسكع في الطرقات بلا هدف . ارغب في الجلوس في المقهى مثل بقية الرجال ……..

    ” سأجيب . “
    ” انظر إلى الرجال في المقهى كيف ينفثون دخان السجائر و الأراكيل “
    ” نعم “
    ” السؤال : لماذا تطلق السيارات الدخان من الخلف و تندفع إلى الأمام بينما البشر يطلقون الدخان من الأمام و يبقون في أماكنهم لا يتحركون  ؟؟ “
    ” هل أنت سعيد معي ؟ “
    ” نعم .. لا أتخيل كيف كانت ستمضي أيامي من دونكِ .”
    ” ….. …  كانت ستمضي … “
    ” لماذا أنت أنثى ؟ “
    ضحكت حتى ابتلت عيناها بالدموع .
    ” الشمس أنثى .”
    ” القمر يأخذ نوره من الشمس . النور مذكر . “
    ” في النور تولد البصيرة … البصيرة أنثى .. “
    ” أنتِ تحتاجينني .. “
    ” أنتَ تحتاجني .”
    ” أنا سكنكِ . كيف تعيشين بلا سكن ؟ “
    ” أنا رؤيتكَ . كيف تعيش بلا رؤية ؟ “
    ” هل أنا أملككِ أم أنت تملكينني ؟ “
    ” هل أنا أنت أم أنت أنا ؟؟ “

 وتعود الكاتبة في الرابعة نحو الحوار الداخلي من جديد لأن كاتبها وبطل الرؤيا الأولى يحاور نفسه في كل مرة داخليا بصوت غير مسموع حتى لا تخرجه الى حيز الوجود ليكون  همّاً فنياً تحتار به الكاتبة فيأخذ النص نحو الخروج من قبضة الكاتبة نحو  التجديد في البناء الفني بذلك ظل الحوار حواراً داخلياً يرقى نحو مخاطبة الوجدان (Stream of Consciousness)  وهذا النوع الأدبي المكبوس لا يحتاج  إلّا شخصية واحدة هي التي تؤدي الواجب الأدبي مع الابتعاد عن الاكتضاض بالشخصيات وإرهاصاتها المختلفة…..
وهنا إشارة رمزية للحرية  والانطلاق والتحليق وفيها يرغب الشخصية بشدة أن يخرج رؤيته تلك من رأسه ليتحرر منها حتى يعيش حراً يدور في المقاهي ، ليشرب الأراكيل……..ويمتد الحوار فلسفياً حتى يشمل مخاطبة الشمس ومقارنتهما بعنصري الحياة  الذكر والأنثى ….القمر  الذكر والشمس الأنثى فهو يأخذ نوره منها والنور أيضاً مذكر وفي النور تولد البصيرة والبصيرة أنثى….. المرأة  التي يتوق إليها تحتاجه  وهو يحتاجها وهو سكنها فكيف لها أن تعيش بلا سكن ، فهو رؤيتها وكيف تعيش بلا رؤيا إذا هي هو وهو يحكمان الأرض وهذا نوع رمزي من الامتزاج بين الذكر والأنثى في الحب والتعايش الإنساني…..أنجزت تلك الصورة فنياً بعبقرية الكاتبة فيحاء نابلسي عن طريق حوارها الداخلي دون أن يسمع أحداً ، مزجت الكاتبة حوارها الداخلي مع المحسنات البديعية لتصنع صورا بلاغية رائعة أخّاذة….
جميلة حمرة النبيذ و صفاءه . بريق خيوط النور تتراقص فيه كتكسّر وهج شعاع في ياقوتة .

    ” هل ترغب فيه ؟ “
    أتخيّلُ مذاقه أحيانا .. أشعر به يتغرغر في حلقي .. و ينساب داخلي .. يسري في عروقي و يحملني على أجنحة النشوة  بعيدا . أحلم به ينتزعني من الأرض و يحلّق بي إلى حيث لا يتضوع سوى العبير .”
    ” هل ترغب في تذوقه ؟ “
    ” أحلم به فقط … أخاف منه .. ترعبني حلاوة الولوج و مرارة الخروج .  لا .. لا أجرأ … “
    جميلة حمرة النبيذ و صفاءه . بريق خيوط النور تتراقص فيه كتكسّر وهج شعاع في ياقوتة .
    ” هل ترغب فيه ؟ “
    أتخيّلُ مذاقه أحيانا .. أشعر به يتغرغر في حلقي .. و ينساب داخلي .. يسري في عروقي و يحملني على أجنحة النشوة  بعيدا . أحلم به ينتزعني من الأرض و يحلّق بي إلى حيث لا يتضوع سوى العبير .”
    ” هل ترغب في تذوقه ؟ “
    ” أحلم به فقط … أخاف منه .. ترعبني حلاوة الولوج و مرارة الخروج .  لا .. لا أجرأ … “
    ” هل تريد أن تثمل ؟ “
    ” ……  ….. “
    ” تعال . “

أخذت بيده و سارا معا بين الحقول .

    ” أين تمضي بي ..؟ “

وصلا إلى صخرة كبيرة على حافّة الشفَق .

    ” اجلس هنا و اثمل .. “

سرَحَ بصره  فوق خضرة الزيتون و انساب إلى زرقة الموج الباهتة . الضوء ينسحب بسكون و يخلي المكان لحمرةالأصيل . ارتشفت عيناه خمرَ الأصيل و أصغى السمع يتنصّتُ أسرار المساء .
أصوات هوامُّ  الأرض تودّع الشمس كهمسات صبيّة تترنّم بأغنية عشق . تغلغلت في مسامّه ثمالة لطيفة جعلته خفيفا كنسمة تطوف بجفن وسنان يتأرجح بين الخيال و اليقظة , انتزعته من الأرض و حلّقت به إلى حيث لا يتضوّع سوى العبير .
 
وعادت الكاتبة الكبيرة فيحاء نابلسي في الخامسة تخاطب بطل الأولى بخطاب داخلي أيضاً لنفس السبب الذي دار في الرابعة بوصف النبيذ وحمرته وغرغرته في الحلق وخيوطه في الضوء كخوط الشمس وهي مقارنة لطيفة بين حمرة الشفق وحمرة النبيذ الإثنين تقتلعه من الأرض  وتجعله يحلق في الفضاء بلا أجنحة و يشاهد خضرة الزيتون والمروج الخضراء وحمرة الشفق التي تكملها كعروس في ليلة عرس وتلك إشارة  رمزية للصفاء والنقاء الذي يبحث عنه الإنسان في النفوس البشرية ومتاهات الطبيعة الخلابة …..
استخدمت الكاتبة فيحاء نابلسي المحسنات البديعية بشكل ذكي لرسم صورة ومقارنة جميلة بين حمرة النبيذ ولذته في الحلق وحمرته التي تثمل الانسان فعلا كما تثمله حمرة الشفق وقت غياب الشمس وتلك صورة مرسومة بجمالية ودقة أنثوية وفنية فائقة …… وتعبر عنه الكاتبة بجملة رائعة حين تقول:  ارتشفت عيناه خمرَ الأصيل و أصغى السمع يتنصّتُ أسرار المساء . أصوات هوامُّ  الأرض تودّع الشمس كهمسات صبيّة تترنّم بأغنية عشق . تغلغلت في مسامّه ثمالة لطيفة جعلته خفيفا كنسمة تطوف بجفن وسنان يتأرجح بين الخيال و اليقظة , انتزعته من الأرض و حلّقت به إلى حيث لا يتضوّع  ذكرها عاشها الكاتب سوى العبير …….
 
تَأَمّلها بِحيرَةٍ . مسحها و خطّها من جديد .. ليست هي ! .. بدت له أقل قيمة من الحبر الذي كُتِبَت به ..

    ” لا أُعجِبَك ؟ “
    ” كنت في رأسي أكثر جمالاً . “
    ” ربما يلزَمُني بعض التبرّج “
    ” هل الرؤى تتبرّج ! “
    ” أحيانا .. “

ضحكَ .. دفعها برفق.

    ” كنتِ تخدعينني عندما كنتُ صغيرا .. تذكرين ؟ مرّة قُلتِ لي أن اصبعي أكبرُ من البحر.. و صدقتكِ .. “

ضحِكَت حتى تلاشت .

    ” كنت أضع اصبعي على عيني و أعتقد أنها تغطي البحر .. جعلتني مرّة أعتقد أني ملك .. … استأنستُ بكِ فاستوحشتُ مجالسة البشر . “
    ” لمَ لا تكتبُ مذكراتك؟ “
    ” هناك من يكتب .. يكتبون لنا كل شيء .. ” نظر يمينا و ربتَ على كتفه .
    ” هل صاحبكَ الذي على اليمين هو الذي يكتبُ فقط ؟ “
    ” كلاهما يكتبان .. يكتبان كل شيء .. “

السادسة عبارة عن حديث مقضب لرسم صورة عن التأمل في خبايا الله في الطبيعة البكر، بحيرة يقارن بينها في الحقيقة وما رسم لها في مخيلته من صورة تبدو أجمل منها في ذهنه وأقل قيمة من الحبر الذي كتبها به حين مسحها وكتبها من جديد ثم بدأ يخاطبها وكأنها كائن حي  تحتاج إلى التبرج فالرؤى بمخيلة الكاتب تحتاج للتبرج والتزويق لأنها أنثى وبدا يضحك ويذكرها حتى تلاشت من ذهنة بموجة الضحك………هذا السرد الداخلي في مخيلة الكاتبة يجعل النص اكثر جمالا ومتعة حين تزيل الكاتبة الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال  وتجعل الرؤى تتكلم  كالبشر وهذا التشخيص شيء بلاغي استوعبه الكاتب لرسم الصور المذهلة في النص……….وهنا إشارة رمزية للتوافق بين الانسان وما يسجله من ذكريات وهو في احضان الطبيعة الخلابة التي تحيط به وعلينا ان نتعلم التأقلم للعيش مع الرؤى حين تستوحش العيش بعيدا عن البشر…….
مُتعَبٌ أنا ..
وعورة الطريق تُدمي الأقدام . وعورة الملامح تُدمي البصر .. وعورة النفوس تدمي الروحَ .. تسحقها …
متعبٌ أنا ….
ألمُ الأقدام يزول بالراحة .. ألمُ البصر لا يزول . عندما يرتطمُ بصركَ بوجه شديد الوعورة يسكن الرعب عينيك يملئهما  ألماً كأشواك الصبّار الناعمة .
ألم الروح يُثقِلُ النفس بثقلِ الجبال .
أخشى أصحاب الملامح الوعرة . أخشى النظر في وجوههم . أولئك الذين شحنوا نظراتهم بسهام الإقصاء و شحذوا ألسنتهم بمرارة اللعنات . .. أخشاهم .. يرتجف قلبي لرؤيتهم يرتجّون كَقُرَبٍ مَكظومة .. و أخشى اللّحاق بقطيع الصامتين … أخشى أن أعتاد الثغاء فأنسى لغة الكلام .
متعبُ أنا ..

    ” اخلع سترتك .”
    ” …. …. “

خلعَ سترته و لبسها بالمقلوب .. نظر إلى نفسه و ضحك , تابع المسير … حدّقت به الوجوه الوعرة ببلاهة .. ارتدّت سهامهم عنه و تطايرت في الهواء ..

    ” هل ارتحت الآن ؟ “
    ” نعم “

تابع طريقه متجاوزاً القُرَبَ المكظومة و أصوات الثغاء ..
 تنفرد الكاتبة في السابعة  بالتحدث عن الخشونة والوعورة وتقارن بين وعورة الطريق ووعورة النظرات والوجوه العابسة عند البشر هي أشدّ وطأة من وعورة الطريق التي تدمي الأقدام …يعكس الإنسان بعينيه مكنونات ذاته العميقة …..إذا كنت نظراته وعرة ترتطم فينا و وفي نظراتنا البريئة فتدمي إحساسنا حينها نحس أن  ورائها سيل جارف من الغضب والبلاهة والجلادة والقسوة  والشر ….أحياناً نلمس أن بعض الناس تفرز  نظراتهم معاني الحقد والإقصاء بعدها تتعب عينيك من النظر في وجوههم وملامحهم المشحونة بسهام الغدر والحسد وربما الشعوذة والموت ….
وهنا إشارة رمزية للقساوة التي أصابت أبناء آدم  وجعلتهم وحوشا  يأكل أحدهم الآخر حين انتشر الظلم والقتل والتهجير تحت أقدام العمالة والخيانة و بيعت الشعوب والأوطان وذهب كل شيء أدراج الرياح باسم الدين فتشوه الخلق والدين معا …..استخدمت الكاتبة الكبيرة  فيحاء نابلسى لغة التخاطر والتصوير الدقيق لملامح الناس باستخدام المحسنات البديعية والتشخيص والمقارنات والاستعارات المكنية والكنايات الوصفية والاسمية لرسم الصور الأدبية وإخراجها  بشكل ناعم يمس شغاف الوجدان……
 
تأمّل شريحة الليمون الصفراء تسبح في كأس الشاي .. دفعها بطرف الملعقة إلى قاع الكأس .. عادت تطفو من جديد .. جلس في فراشه و وضع اللاب توب على حضنه .. بدأ ينقر المفاتيح .. يلامس الحروف بحذر .. امتلأت الشاشة بالخطوط .. نظر إليها و مسحها دفعة واحدة . لم يعجبه شيء ..

    ” لماذا أنت عصيّة الليلة ؟ “
    ” لا تريحني برودة المكان . أعشقُ دفء أصابعك و هي تحضن القلم . يسافر نبض عروقك و يقطرُ من رؤوس أناملك .. تمتزج أنفاسك و احساسك بالمداد و أعيش أجمل لحظاتي .. أتنسّم عبير تأملاتك لحظة ولادتي من رحم الخيال على مهد الورق .. حفيف الورق في مسمعي أكثر حميمية من نقر المفاتيح .”

مسحَ كل شيء . أغلق اللاب توب و أمسك بالقلم فانسابت جداول مِسكٍ تتضوع و تفوح إلى آفاق بعيدة .
داعب خصلات شعرها و نظر في عينيها الصافيتين .

    ” أولئك الذين تذهبين بهم إلى السجون … هل ترافقينهم هناك ؟ أم تتخلين عنهم عندما يصبحون وراء القضبان ؟ “
    ” أتخلّى عنهم عندما يبيعونني فقط . “
    ” و في يومي الأخير , عندما ألبس ردائي الأبيض .. هل سترافقينني ؟ “
    ” الرؤى لا تسكن القبور . “
    ” ستتركينني إذا .. !! ما الفرق بين  القبور و السجون ؟ كلاهما ظلمة . “
    ” القبور للموتى و الرؤى لا تموت . أحيانا و في عتمة السجون ينجلي البصر . أولدُ خلف القضبان أحياناً . “
    ” أين ستذهبين إذا ؟ ستحلّين في رأس آخر عندما أرحل ؟ “
    ” الرؤى مثل البصمات , لا تتكرّر 0″
    ” أين ستعيشين ؟ “
    ” سأعيش في كلماتك . في عيون من يقرأها .. في صوت من ينطق بها .”
    ” لن تسكنين رأسا آخر إذاً .”
    ” لا … أنا رؤيتك أنت .. أنا أنت  محمود .. “

أخذت الكاتبة الكبيرة فيحاء نابلسي الرؤيا الثامنة  بأدب وتصرف لطيف بين الكاتب ورؤيته الثامنة بحوار داخلي بين الرؤية والكاتب فقد شخصها كامرأة يخاطبها ويعاتبها عن عصيانه الخروج في طرف قلمه على الورق أو في شاشة حاسوبه بشكل سهل وقد يعتقد الكاتب أنّ الرؤى لا تموت أبداً وأنها لا تذهب للقبور وتخاطبه بانها قد تولد في السجون والظلم أو وراء القضبان وأنها كبصمة الأصابع لا تتكرر مطلقاً وحين سأل الكاتب رؤيته أين تعيش كانت إجابتها ، أنها تعيش في كلماته في عيون من يقرأ تلك الكلمات، وأنها  لا تسكن رأساً آخر كونها رؤيته وملكه هو فقط ……
وهذا الحوار الباطني بين الكاتب ورؤيته تخللته الصور البلاغية والمحسنات البديعية التي استخدمها الكاتبة فيحاء نابلسي كأدوات مهنية في ترسيم النص وهي متخمة بإشارات رمزية كبيرة وكثيرة تشير نحو حرية الرأي المنتهكة في بلداننا العربية وكيف  تكمن خلف قضبان الممنوع ، إن تعدت الخطوط الحمراء في  بسط الحقيقة المرة في الواقع العربي المهتريء  و الذي يعيشه الشعب العربي ، يسكن صاحبه خلف القضبان وفي غياهب السجون إن نجى صاحب الفكر الحر من الموت……..
يستيقِظُ في داخله فجأة حنين جارفٌ إلى بعض الأماكن . يستخفُّه شوق عارمٌ يعصف به . يسمعها تنادي عليه . ربما تفتقده هي أيضا .. يستحضِر بعضها في خياله و يبقى  بعضها عصيّ على الوصول .
تتلا طمه أمواج في برزخ طويل بين الوعي و اللاوعي فيسافر عبرها إلى تلك الأماكن .
لا يذكر تماما متى وقع في حب الصخور . متى بدأت تأسره تلك الكتل الضخمة التي يظنها البعض صمّاء . ربما لم يحاولوا أن يصيخوا السمع إليها . و لكنّه فعل ذلك مرّات و مرّات .
هناك في معلولة , في الممرّ الصخري المذهل , أصاخ السمع لترانيم شجيّة أسرّها في نفسه , لم يخبر بها أحد .. في تلال الربوة التي تطلّ الأشجار من بين صخورها تكللها بالحياة .
في صخور قاسيون المطلة على الشام من علٍ ترصد أنفاس المدينة اللاهثة .
حول مغارة الضوّيات..
في الصخور المتراكبة فوق بعضها بطريقة مدهشة غرب جزيرة أرواد تصدّ البحر عن البيوت و تستكين له صابرة عندما تشتدّ غضبته  فيعلوها غامرا إياها بجنونه و ملحه ..
في حصن سليمان المختبئ بين خضرة الجبال الآسرة للنظر .. في كل تلك الأماكن , سمع الصخور تبوح بأسرار حملتها في صدرها ملايين السنين .
تأسرهُ هندسة الطبيعة للصخور . يفاجئه استسلامها للريح و المطر يخطّان فوقها حكايات الزمن ليمضي كل شيء و تبقى هي شاهدا يروي ما جرى و ما كان ..
أغمض عينيه و أرسل  روحه تطوف  في فضاء الخيال  الرحيب  .. تمضي  به حيث يشاء ..
 
وتنسل الرؤيا من عبقرية الكاتبة فيحاء نابلسي نحو مخيلة بطلها الكاتب المهووس بالطبيعة والرؤى التي تهاجمه من حين الى آخر فيشاطر رؤياه التاسعة ولعه بالصخور المطلة المثقلة بالأسرار التي تختزنها و تحملها تلك الصخور الاف السنين و بالتحديد الصخور المطلة من قاسيون  على الشام  وهي ترصد أنفاس المدينة و تسترق السمع لأسرار همسات الشام ، تلك الصخور التي حفظتها بصدورها آلاف  السنين ، وقد سر الكاتب الراوية هندسة الطبيعة لتلك الصخور وفاجأه  استسلامها للريح والمطر وحكايات الزمن حتى أغمض  عينيه ليسرح مع الخيال ويسافر حيث يشاء….
استخدمت الكاتبة الرائعة فيحاء تابلسي في رؤياها التاسعة سرد الراوي عن لسان الكاتب ورسمت اجمل صورة لحياة الصخور المطلة من قاسيون على الشام….وهنا اشارة رمزية رائعة لحنين الانسان وحبه لوطنه والأماكن التي عاشها ذكريات ختمت بختم الولاء وحب الوطن فصارت قلائد يتقلدها الإنسان في يده وجيد أحاسيسه …..بالطبع تمكن الكاتبة واضحا من خلال استخدام أدواتها الأدبية من محسنات بديعية وتشخيصات وكنايات لتعطي صوراً واضحة المعالم عن رؤياها التاسعة……

    ” أين أنتِ ؟ “

قلّبَ وجهه في السماء . طافت عيناه فوق الأمواج المترامية في حضن الشاطئ . تاه خياله في القفار الصامتة .. تعثرت به دروب الغابات .. ملئه حنين موجع ..

    ” أين أنتِ “

كفّاه قِطعتا حطب بارد  تشتهيان دفقات من نسغ  دافئ تجري في العروق و تورق كلمات .

    ” لماذا تتمنّعينَ علي ؟ غيابكِ يملئني عقما و يباباً .. هل جفّت ينابيع المودّة بيننا .. “

” رؤى … ” ملء صدى صرخته الفضاء .
 اجتاحتهُ كشلال ضياء … غمرت أساريره سكينة ساحرة ..
حلاوة العناق ذهبت بمرارة الفراق ..

    ” أين كنتِ ..؟ كِدتُ أموت شوقاً إليكِ . “
    ” كنتُ هناك .. بين السماء و الماء .. أمحو لك خطّ الأفق … لترسمَ خطا آخر .. !! “

وعادت الكاتبة في رؤياها العاشرة وهي تحتل مخيلة كاتبها حين جعلته وبحواره الداخلي  أن يداعب رؤياه كمداعبة زوجته أو حبيبة ويعاتبها على التمنع عليه ويخاطبها باسمها رؤى وكأنها كائن حي ويذكرها بحلاوة العشق واشتياقه اليها حد الموت ثم  يعانقها عناق الحبيبة ويخبرها بأنه كان ينتظرها بين السماء والماء ليمحو خط الافق هياماً بها حتى تختلط الزرقتان زرقة الماء والسماء لاستقبال رؤيته الحبيبة تلك في أثير سحري سرمدي….
و في هذه الصورة البهية التي رسمت بريشة فنان بارع ، تشير الكاتبة هنا إشارة رمزية إلى الجمال  الكامن في الطبيعة الذي لا يجاريه جمال في كل أصقاع  الأرض وهو تعلق وطني في وطنها الحبيب ….وهنا أيضا إشارة أخرى لتثبيت قصور الإنسان وسلبيته و عدم استغلاله والتمتع بهذا الجمال السرمدي بصورة أفضل وأعمق  وهي إشارة  رمزية للخير في نفوس البشر….وتعود الكاتبة فيحاء نابلسي نحو التحاور الداخلي لوضع صورها الرائعة في حيز النص بشكل جميل ومرهف ولا يؤثر فنيا  في الخروج القصري من إطار النص الحاكم الأصلي….
اقتحمَت عليه برزخه الطويل ..

    ” تعالَ نمشي إلى البحر .”
    ” البحر غاضبٌ الآن . “
    ” أحِبُ غَضبَته .. جنونه يُسكن جنوني .. هَوَجُه يُذهِب مخاوفي .. تتلاشى فيه أحزاني .. تغدو أمام اتساعه  ضئيلة .. “

مضى ورائها إلى البحر . صافحت نظراته الصخور . يعجزُ عن مقاومة دعوتها . استسلم لهمّة صبيانيّة عابثة جعلته يقفز من صخرة إلى أخرى . كلّما وصل إلى واحدة نادت عليه التي تليها ..
وصل إلى رأس البور .. لم يعد يستطيع التقدّم .. ليس هناك سوى البحر !!!
أين يتوقّفُ الناس الذين لا يجاورون البحر ؟  ضحكَ من  خاطِرَه . تلفّت حوله .. لم يجدها ..
-” رؤى .. “
 أبصرها تعتلي موجة  كبيرة تهرول باتجاهه . ثبّت قدميه على الصخرة و وقف ينتظرها … غمرته ذرات الملح . تغلغلت في مسامّه , دغدغ أساريره  الانشراح فتبسّم ..
سمع مِن خلفه ضحكات . لم يلتفت .. ظلّ واقفا يبتسم و  ينتظرها مع موجة أخرى ..
تعمدت الكاتبة العبقرية فيحاء نابلسي أن تجعل الرؤية الأخيرة في يوميات كاتبها الراوية المولع بالرؤى ان تجعل تلك الرؤى حاضرة وتقتحم مخيلته اقتحاما لتدعوه الى تسجيلها من منصة البحر بعد أن تدعوه إليها وتأخذه نحو البحر الغاضب ليجيب غضبه ويسكن جنونه وهرول الكاتب وراء رؤيته تلك فقابل الصخور التي يعشقها واستمر بالقفز من واحدة نحو الأخرى بفرح وغبطة حتى وصل رأس البور وعنده تنتهي الصخور ويستمر مشهد البحر بالامتداد  إلى حيث لا ينتهي أبداً كما يظن الناظر…هنا اختفت رؤيته عند هذا الحد بقي يبحث عنها ويناديها باسمها البشري(رؤى) فلم يجبه أحد وفجأة أبصرها تعتلي موجة كبيرة وتهرول اتجاهه وقف ينتظرها ، سمع من خلفه ضحكات ، ظل ينتظرها مع موجة أخرى….وتلك إشارة  الى التمسك بالوطن الذي يأخذك مرة ويلفظك أخرى لكنك تبقى متمسكا في موجاته الهائجة وبأرضه الطيبة التي تدنسها بساطيل الأجانب واللصوص والخونة والعملاء……
وتثاءب الكاتب الراوية ويغلق دفتره ثم يدسه  تحت الوسادة وذلك إعلان صريح للنهاية في الجولة الجميلة التي صاحبتنا بها الكاتبة الرائعة فيحاء نابلسي في حدائق حروفها الغناء……أرادت الكاتبة هنا أن تشير إلى نهاية الرؤى التي تهاجم ذهن كاتبها وهو يسجلها الواحدة تلو الاخرى حتى داهمه النوم…….تمكنت الكاتبة فيحاء نابلسي أن تضعنا في موقف رمزي تشير فيه نحو الطبيعة وجمالها والوطن وارتباطها الوثيق به و الإنسان وارتباطه بالوطن والطبيعة حتى أدركنا معها الأخيرة وهي رؤيا من تلك الرؤى التي تشكل التدوير بالتحامها مع الأولى……استطاعت الكاتبة تسخير الحوار الداخلي والتخاطب الذاتي لإعطاء النص حضورية التماسك في الأسلوب والبناء الفني الراقي المحدث…..
الخلاصة
فكرة الكاتبة العبقرية فيحاء نابلسي أن تقدم عشر نصا بنص واحد عن طريق التدوير والسرد التخاطب والتحاور الداخلي (Stream of Consciousness and Interior Monologue),,.. فقد استطاعت بتمكن فائق أن ترسم بطلها الكاتب الراوي وهو يلاحق رؤاه حول الطبيعة وعلاقته بالإنسان والوطن من الأولى حتى الأخيرة ويسجلها الواحدة تلو الأخرى مفترضاً كل واحدة منها صديقته أو حبيبته أو زوجته….وهذا النوع من النصوص القصيرة ، ضرب جديد في التكنيك الفني لم يطرق عندنا من قبل لو أخذنا بالنظر الاعتبار أن القصة القصيرة عبارة عن حدث واحد بحبكة واحدة وزمكانية واحدة ، نرى هذا النص خروجا سافراً عن كينونة القصة القصيرة بتفوق كبير……وكان وراء هذا الخروج كاتبة كبيرة ، هي الأستاذة  فيحاء نابلسي التي استطاعت بوعيها الأدبي أن تجعل من هذا الخروج رائعاً ومألوفاً ومطلوباً لدي القارئ المتذوق…..جل احترامي وتقديري لها …عسى أن أكون  قد قدمت شيئاً وسبرت أغوار النص وكاتبته الكبيرة وعذراً إن قصّرت في نقطة من ذلك النص الراقي……تحياتي سيدتي
 
النص الاصلي
رؤى
رَنَت إليه بعينين واسعتين … أطبقَ جفنيه هامساً:

    ” غداً .”
    ” الليلة .”
    ” متعبُ أنا .. “
    ” أنتظرك منذ سبعة عشر يوما . ”   تهاوى رجاؤها بانكسار … ” مللتُ الانتظار . “
    استسلم لزخّة نعاس بدّدت صورتها من أمامه .
    فركت أرنبة أنفه برؤوس أصابعها . دفعها عنه بكفّه الخشنة و شدّ الغطاء فوق رأسه . انسلّت من تحت الغطاء و نفخت في أذنه , نفضَ رأسه كمن يشيح بوجهه عن ذبابة .
    ” غداً ” .
    لم يدرِ تماما ما هو الوقت عندما أحسّ ببرودة في أصابعه و رعشةٍ في جفنيه . اكتشف فجأة أنه صاحٍ ..
    ” رؤى ! “
    ” نعم .. “
    ” ألا تستسلمين !! “

نهض من فراشه و أضاء النور . تناول قلمه و دفتره من تحت الوسادة و جلس يكتب .
لم يشعر بمرور الوقت كانت خيوط النور قد بدأت تلوح من  خلف الستار , أعاد قراءة كل ما كتب  ., أعاد قراءته مرات ومرات وفي كل مرة يغمره شعور مختلف .
أحدهم كان يشبه شعور أحد أجداده قبل ملايين السنين عندما أمسك بشيء حاد وحفر على جدار كهفه رَسم حربته والحيوانات التي اصطادها ورحلة الصيد .
“هل رضيت الآن ” ؟؟؟
لم تُجب , كانت غافية بين السطور بسكينة كطفلة ارتوت بعد ظمأ . وضع قلمه جانباً و  جلس يتأملها , لم يوقظها , تركها ترفل في سَكينتها ليوقِظَها الضياء متى يشاء .
                         ******************
_ تطاير الغبار من حجر الرخام وهو يئن تحت المقص .
مسح عن وجهه الغبار وتأمل لوح الرخام . ستكون شاهدة على قبر أحد الأثرياء . غريبة رغبة بعض البشر بالتميز حتى بعد الموت .  نظر في الخيوط غير المتناسقة في الحجر , لا بدّ أنها تعني شيئاً .
لماذا يتّهمون الحجارة بالقسوة ويشبهونها بقلوب بعض أجلاف البشر .
الأحجار تستسلم للبشر يصقلونها كما يريدون . بعض النفوس عصيّة على الصقل . أعاد تمرير الآلة حول الأطراف ليجعلها مستديرة .
لا يحب الزوايا , يعشق الأقواس , يعشق استدارتها المليئة بالحنان والاحتواء .
حاول بعض من صحبته حبسه داخل إطار , لم يستسلم .
” لا أحب الإطارات , أحب أن أنساح كالماء , أتطاير كالهواء . أتبعثر كالرائحة . لا أحب الإطارات .
تحيط بها خطوط , عندما تلتقي الخطوط تولد الزوايا .أخشى أن أختنق بين ضلعي زاوية .. لا أحبّ الزوايا .”
تأمل العروق في حجر الرخام . خطوط الزمن على جسد الحجر أبجدية عصيّة على القراءة . عاد يمرر الآلة حول الشاهدة . ذرات الغبار تتطاير من  حوله , لكنّه يرى بوضوح ”  لا بد أن تفقد شيئاً حتى تحصل على شكل ” .
*******
في أحد أعياد ميلاده أصرّت على الانفراد به , لم ترض أن يشاركهما تلك اللحظات أحد . استسلم لرغبتها . تأنق وتعطر واشترى عودين طويلين من الزنبق البلدي ذو الرائحة الحقيقية وقرنفلة بلون زهري .
جلست أمامه صامتة تتأمله بعينين نصف مغمضتين ونصف ابتسامة مائلة .
” أريد كوكتيل ” .
” فرش ” …
“بإمكانك أن تتعلم أشياء مما تأكل وتشرب .”
ارتفع حاجباه علامتا تعجب .
استرسلت :
 “الكوكتيل يمنحك شعورا صادقا  أن المذاق اللذيذ لا يأتي  من نكهة واحدة ..
عندما يكون لحياتنا نكهة واحدة نتوقف عن الشعور بأي مذاق , خذ رشفة واستشعر لذّة الامتزاج. “
*********
“لماذا أنا ؟؟؟ “
أمسك رأسه بكلتي يديه وضغط عليه بشدة :
” اخرجي من رأسي … ارحلي عني … أرغب في لحظات من الهدوء . لا تكفين عن التحويم داخل رأسي كبعوضة في زجاجة . لماذا لا تتركيني وحدي قليلا . أشتهي التسكع في الطرقات بلا هدف . ارغب في الجلوس في المقهى مثل بقية الرجال .
أصفع الطاولة بأوراق اللعب وأملأ المكان بالصياح .
أريد أن أشاهد فلماً تافهاً  وأضحك حتى أستلقي على قفاي ” .
“لم لا ترحلين عني ؟ هنالك ملايين الرؤوس الفارغة . جدي لك رأساً آخر وارحلي عني ” .
_ سأتركك .. بشرط …  أن تجيب على سؤالي .. “

    ” سأجيب . “
    ” انظر إلى الرجال في المقهى كيف ينفثون دخان السجائر و الأراكيل “
    ” نعم “
    ” السؤال : لماذا تطلق السيارات الدخان من الخلف و تندفع إلى الأمام بينما البشر يطلقون الدخان من الأمام و يبقون في أماكنهم لا يتحركون  ؟؟ “

قهقه حتى الثمالة . أخذت تهرول أمامه و هو يجري خلفها . وصلا إلى شاطئ البحر . استلقى فوق الرمال و وجهه إلى السماء . جلست إلى جواره تملأ كفّها بالرمال ثم تدعها تتسرب من بين أناملها .

    ” هل أنت سعيد معي ؟ “
    ” نعم .. لا أتخيل كيف كانت ستمضي أيامي من دونكِ .”
    ” ….. …  كانت ستمضي … “
    ” لماذا أنت أنثى ؟ “
    ضحكت حتى ابتلت عيناها بالدموع .
    ” الشمس أنثى .”
    ” القمر يأخذ نوره من الشمس . النور مذكر . “
    ” في النور تولد البصيرة … البصيرة أنثى .. “
    ” أنتِ تحتاجينني .. “
    ” أنتَ تحتاجني .”
    ” أنا سكنكِ . كيف تعيشين بلا سكن ؟ “
    ” أنا رؤيتكَ . كيف تعيش بلا رؤية ؟ “
    ” هل أنا أملككِ أم أنت تملكينني ؟ “
    ” هل أنا أنت أم أنت أنا ؟؟ “
    *******
    جميلة حمرة النبيذ و صفاءه . بريق خيوط النور تتراقص فيه كتكسّر وهج شعاع في ياقوتة .
    ” هل ترغب فيه ؟ “
    أتخيّلُ مذاقه أحيانا .. أشعر به يتغرغر في حلقي .. و ينساب داخلي .. يسري في عروقي و يحملني على أجنحة النشوة  بعيدا . أحلم به ينتزعني من الأرض و يحلّق بي إلى حيث لا يتضوع سوى العبير .”
    ” هل ترغب في تذوقه ؟ “
    ” أحلم به فقط … أخاف منه .. ترعبني حلاوة الولوج و مرارة الخروج .  لا .. لا أجرأ … “
    ” هل تريد أن تثمل ؟ “
    ” ……  ….. “
    ” تعال . “

أخذت بيده و سارا معا بين الحقول .

    ” أين تمضي بي ..؟ “

وصلا إلى صخرة كبيرة على حافّة الشفَق .

    ” اجلس هنا و اثمل .. “

سرَحَ بصره  فوق خضرة الزيتون و انساب إلى زرقة الموج الباهتة . الضوء ينسحب بسكون و يخلي المكان لحمرة الأصيل .
ارتشفت عيناه خمرَ الأصيل و أصغى السمع يتنصّتُ أسرار المساء .
أصوات هوامُّ  الأرض تودّع الشمس كهمسات صبيّة تترنّم بأغنية عشق . تغلغلت في مسامّه ثمالة لطيفة جعلته خفيفا كنسمة تطوف بجفن وسنان يتأرجح بين الخيال و اليقظة , انتزعته من الأرض و حلّقت به إلى حيث لا يتضوّع سوى العبير .
********
تَأَمّلها بِحيرَةٍ . مسحها و خطّها من جديد .. ليست هي ! .. بدت له أقل قيمة من الحبر الذي كُتِبَت به ..

    ” لا أُعجِبَك ؟ “
    ” كنت في رأسي أكثر جمالاً . “
    ” ربما يلزَمُني بعض التبرّج “
    ” هل الرؤى تتبرّج ! “
    ” أحيانا .. “

ضحكَ .. دفعها برفق.

    ” كنتِ تخدعينني عندما كنتُ صغيرا .. تذكرين ؟ مرّة قُلتِ لي أن اصبعي أكبرُ من البحر.. و صدقتكِ .. “

ضحِكَت حتى تلاشت .

    ” كنت أضع اصبعي على عيني و أعتقد أنها تغطي البحر .. جعلتني مرّة أعتقد أني ملك .. … استأنستُ بكِ فاستوحشتُ مجالسة البشر . “
    ” لمَ لا تكتبُ مذكراتك؟ “
    ” هناك من يكتب .. يكتبون لنا كل شيء .. ” نظر يمينا و ربتَ على كتفه .
    ” هل صاحبكَ الذي على اليمين هو الذي يكتبُ فقط ؟ “
    ” كلاهما يكتبان .. يكتبان كل شيء .. “
    ********
    مُتعَبٌ أنا ..
    وعورة الطريق تُدمي الأقدام . وعورة الملامح تُدمي البصر .. وعورة النفوس تدمي الروحَ .. تسحقها …
    متعبٌ أنا ….
    ألمُ الأقدام يزول بالراحة .. ألمُ البصر لا يزول . عندما يرتطمُ بصركَ بوجه شديد الوعورة يسكن الرعب عينيك يملئهما  ألماً كأشواك الصبّار الناعمة .
    ألم الروح يُثقِلُ النفس بثقلِ الجبال .
    أخشى أصحاب الملامح الوعرة . أخشى النظر في وجوههم . أولئك الذين شحنوا نظراتهم بسهام الإقصاء و شحذوا ألسنتهم بمرارة اللعنات . .. أخشاهم .. يرتجف قلبي لرؤيتهم يرتجّون كَقُرَبٍ مَكظومة .. و أخشى اللّحاق بقطيع الصامتين … أخشى أن أعتاد الثغاء فأنسى لغة الكلام .
    متعبُ أنا ..
    ” اخلع سترتك .”
    ” …. …. “

خلعَ سترته و لبسها بالمقلوب .. نظر إلى نفسه و ضحك , تابع المسير … حدّقت به الوجوه الوعرة ببلاهة .. ارتدّت سهامهم عنه و تطايرت في الهواء ..

    ” هل ارتحت الآن ؟ “
    ” نعم “

تابع طريقه متجاوزاً القُرَبَ المكظومة و أصوات الثغاء ..
********* 
تأمّل شريحة الليمون الصفراء تسبح في كأس الشاي .. دفعها بطرف الملعقة إلى قاع الكأس .. عادت تطفو من جديد .. جلس في فراشه و وضع اللاب توب على حضنه .. بدأ ينقر المفاتيح .. يلامس الحروف بحذر .. امتلأت الشاشة بالخطوط .. نظر إليها و مسحها دفعة واحدة . لم يعجبه شيء ..

    ” لماذا أنت عصيّة الليلة ؟ “
    ” لا تريحني برودة المكان . أعشقُ دفء أصابعك و هي تحضن القلم . يسافر نبض عروقك و يقطرُ من رؤوس أناملك .. تمتزج أنفاسك و احساسك بالمداد و أعيش أجمل لحظاتي .. أتنسّم عبير تأملاتك لحظة ولادتي من رحم الخيال على مهد الورق .. حفيف الورق في مسمعي أكثر حميمية من نقر المفاتيح .”

مسحَ كل شيء . أغلق اللاب توب و أمسك بالقلم فانسابت جداول مِسكٍ تتضوع و تفوح إلى آفاق بعيدة .
داعب خصلات شعرها و نظر في عينيها الصافيتين .

    ” أولئك الذين تذهبين بهم إلى السجون … هل ترافقينهم هناك ؟ أم تتخلين عنهم عندما يصبحون وراء القضبان ؟ “
    ” أتخلّى عنهم عندما يبيعونني فقط . “
    ” و في يومي الأخير , عندما ألبس ردائي الأبيض .. هل سترافقينني ؟ “
    ” الرؤى لا تسكن القبور . “
    ” ستتركينني إذا .. !! ما الفرق بين  القبور و السجون ؟ كلاهما ظلمة . “
    ” القبور للموتى و الرؤى لا تموت . أحيانا و في عتمة السجون ينجلي البصر . أولدُ خلف القضبان أحياناً . “
    ” أين ستذهبين إذا ؟ ستحلّين في رأس آخر عندما أرحل ؟ “
    ” الرؤى مثل البصمات , لا تتكرّر 0″
    ” أين ستعيشين ؟ “
    ” سأعيش في كلماتك . في عيون من يقرأها .. في صوت من ينطق بها .”
    ” لن تسكنين رأسا آخر إذاً .”
    ” لا … أنا رؤيتك أنت .. أنا أنت  محمود .. “
    *********
    
    يستيقِظُ في داخله فجأة حنين جارفٌ إلى بعض الأماكن . يستخفُّه شوق عارمٌ يعصف به . يسمعها تنادي عليه . ربما تفتقده هي أيضا .. يستحضِر بعضها في خياله و يبقى  بعضها عصيّ على الوصول .
    تتلاطمه أمواج في برزخ طويل بين الوعي و اللاوعي فيسافر عبرها إلى تلك الأماكن .
    لا يذكر تماما متى وقع في حب الصخور . متى بدأت تأسره تلك الكتل الضخمة التي يظنها البعض صمّاء . ربما لم يحاولوا أن يصيخوا السمع إليها . و لكنّه فعل ذلك مرّات و مرّات .
    هناك في معلولة , في الممرّ الصخري المذهل , أصاخ السمع لترانيم شجيّة أسرّها في نفسه , لم يخبر بها أحد .. في تلال الربوة التي تطلّ الأشجار من بين صخورها تكللها بالحياة .
    في صخور قاسيون المطلة على الشام من علٍ ترصد أنفاس المدينة اللاهثة .
    حول مغارة الضوّيات..
    في الصخور المتراكبة فوق بعضها بطريقة مدهشة غرب جزيرة أرواد تصدّ البحر عن البيوت و تستكين له صابرة عندما تشتدّ غضبته  فيعلوها غامرا إياها بجنونه و ملحه ..
    في حصن سليمان المختبئ بين خضرة الجبال الآسرة للنظر .. في كل تلك الأماكن , سمع الصخور تبوح بأسرار حملتها في صدرها ملايين السنين .
    تأسرهُ هندسة الطبيعة للصخور . يفاجئه استسلامها للريح و المطر يخطّان فوقها حكايات الزمن ليمضي كل شيء و تبقى هي شاهدا يروي ما جرى و ما كان ..
    أغمض عينيه و أرسل  روحه تطوف  في فضاء الخيال  الرحيب  .. تمضي  به حيث يشاء ..
    **********
    
    ” أين أنتِ ؟ “

قلّبَ وجهه في السماء . طافت عيناه فوق الأمواج المترامية في حضن الشاطئ . تاه خياله في القفار الصامتة .. تعثرت به دروب الغابات .. ملئه حنين موجع ..

    ” أين أنتِ “

كفّاه قِطعتا حطب بارد  تشتهيان دفقات من نسغ  دافئ تجري في العروق و تورق كلمات .

    ” لماذا تتمنّعينَ علي ؟ غيابكِ يملئني عقما و يباباً .. هل جفّت ينابيع المودّة بيننا .. “

” رؤى … ” ملء صدى صرخته الفضاء .
 اجتاحتهُ كشلال ضياء … غمرت أساريره سكينة ساحرة ..
حلاوة العناق ذهبت بمرارة الفراق ..

    ” أين كنتِ ..؟ كِدتُ أموت شوقاً إليكِ . “
    ” كنتُ هناك .. بين السماء و الماء .. أمحو لك خطّ الأفق … لترسمَ خطا آخر .. !! “
    ********  

اقتحمَت عليه برزخه الطويل ..

    ” تعالَ نمشي إلى البحر .”
    ” البحر غاضبٌ الآن . “
    ” أحِبُ غَضبَته .. جنونه يُسكن جنوني .. هَوَجُه يُذهِب مخاوفي .. تتلاشى فيه أحزاني .. تغدو أمام اتساعه  ضئيلة .. “

مضى ورائها إلى البحر . صافحت نظراته الصخور . يعجزُ عن مقاومة دعوتها . استسلم لهمّة صبيانيّة عابثة جعلته يقفز من صخرة إلى أخرى . كلّما وصل إلى واحدة نادت عليه التي تليها ..
وصل إلى رأس البور .. لم يعد يستطيع التقدّم .. ليس هناك سوى البحر !!!
أين يتوقّفُ الناس الذين لا يجاورون البحر ؟  ضحكَ من  خاطِرَه . تلفّت حوله .. لم يجدها ..
-” رؤى .. “
 أبصرها تعتلي موجة  كبيرة تهرول باتجاهه . ثبّت قدميه على الصخرة و وقف ينتظرها … غمرته ذرات الملح . تغلغلت في مسامّه , دغدغ أساريره  الانشراح فتبسّم ..
سمع مِن خلفه ضحكات . لم يلتفت .. ظلّ واقفا يبتسم و  ينتظرها مع موجة أخرى ..
*******
انتهت ..
فيحاء نابلسي .
قصة ” رؤى ” من مجموعتي القصصية ” بروكار ” . 2013
 
 
 
 
 
 

أحدث المقالات

أحدث المقالات