تزامن تزايد أهمية مصادر التمويل الخارجية للعنف مع تحول الريع النفطي إلى ظاهرة عابرة للحدود بدرجة لم تعرفها العقود السابقة. وجاء هذا التطور على خلفية تأثير عاملين جديدين مترابطين، هما القفزات الكبيرة في أسعار النفط واندلاع موجة اضطرابات سياسية واجتماعية عنيفة في إطار ما سُمي بثورات الربيع العربي.
في بداية عام 2008 كسر سعر البرميل لأول مرة حاجز 100 دولار وباستثناء فترات محدودة حافظ السعر عمليا على مستواه العالي حتى منتصف عام 2014. خلال هذه الفترة راكمت عدة دول خليجية احتياطيات هائلة من البترودولار لم تكن قادرة على التصرف بها بعقلانية. وبحسب بيانات منظمة الأوبك كانت السعودية المستفيد الأكبر عندما جنت خلال الفترة الممتدة بين 2010 و2014 قرابة ترليون ونصف الترليون دولار من تصدير النفط ومشتقاته. في المقابل حققت إيران إيرادات زادت على 400 مليارات دولار رغم العقوبات المفروضة عليها حينها. وبفضل صادرات النفط والغاز حصلت دولة قطر الصغيرة على عائدات تُقدر بنحو 600 مليار دولار خلال هذه الأعوام الخمسة. غير أن هذا التراكم المالي لم يصبح أداة فعالة لتوسيع النفوذ الإقليمي وسلاحاً فتاكاً لإثارة الاضطرابات العنيفة وتدمير بلدان بكاملها إلا بامتزاجه مع أيدولوجية دينية ومذهبية متطرفة ومع سلطة مطلقة تملك حرية التصرف فيه من دون رقيب.
في ظل هذه الظروف تخوض الدول النفطية وفي مقدمتها السعودية وإيران وقطر والامارات العربية المتحدة سباقاً محموماً لاستخدام البترودولار في تمويل الميليشيات والحركات المتمردة والأحزاب والمنظمات والشخصيات الموالية في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وغيرها. وتندرج تحت هذه العناوين ما يتبعها من قنوات تلفزيونية وصحف و”معاهد علمية” وخبراء ومحللين يروجون لوجهات نظر معينة ومدفوعة الثمن مسبقاً. وكلما طالت فترة “الثورات” والانتفاضات، يصبح العامل المالي حاسما في التحكم في العلاقة داخل هذه التنظيمات. من هنا استخدم الباحث عصام الخفاجي مصطلح “ترييع الثورات” في معرض تقييمه لما يحدث في سوريا منذ عام 2011. ويضيف الخفاجي في إحدى مقالاته بأن الريع المحلي والعابر للحدود “حوّل قادة الحركات المسلحة إلى أرباب عمل يدفعون رواتب شهرية ثابتة ومكافآت ويعظمَون ثرواتهم بانتزاع الأتاوات ممن يخضعون لهم مقابل حمايتهم”. ومع استمرار الحروب الأهلية ومجيء قادة سياسيين وميدانيين ومقاتلين أكثر شراسة تختفي فئة الحزبيين أو “الثوريين المحترفين” وتحل محلها ظاهرة الارتزاق السافر حيث لم تعد العلاقات الأيدولوجية والفكرية حاسمة في اختيار الحلفاء وإنما يُغير القياديون والأتباع ولاءاتهم وتحالفاتهم بحسب المبالغ المدفوعة. ويلاحظ ذلك في سوريا بشكل خاص حيث نجح طرفا الصراع في تجنيد عشرات الآلاف من المرتزقة الأجانب، بل ولا يتردد أمراء الحرب في استغلال ورقة المساعدات الإنسانية لتمويل جهادهم أو كفاحهم من خلال مصادرة جزء من سلع الإغاثة وبيعها في السوق وفرض إتاوات على المنظمات الإنسانية والعاملين فيها. وهو سوق مزدهر بكل المقاييس على خلفية الأرقام الهائلة التي تخصصها الجهات المانحة لمساعدة اللاجئين. قبل أيام قليلة قرر مؤتمر الجهات المانحة في بروكسل تخصيص 6 مليارات لصالح اللاجئين السوريين. ومن الصعب معرفة المساعدات التي ستصل المحتاجين حقاً وتلك التي ستتحول إلى وقود للحرب الأهلية. من جانب آخر اكتشفت الفصائل الإسلامية المتشددة منذ سنوات مزايا المساعدات الإنسانية وأسست منظمات “خيرية” هدفها الفعلي جمع التبرعات لتمويل العنف المستشري في المنطقة.
السؤال الذي يطرح بنفسه بقوة الآن: هل سيؤدي انهيار أسعار النفط الى أقل من النصف والمستمر عمليا منذ نحو ثلاثة أعوام إلى انحسار ظاهرة الريع العابر للحدود وبالتالي إلى تراجع دور العامل الخارجي في تمويل الفصائل المسلحة؟ من المؤكد أن سخاء الدول النفطية بدأ بالتناقص ووجدت معظم هذه الدول نفسها مضطرة لمراجعة التبديد الهائل للموارد المالية في حروب أهلية يصعب التنبؤ بنتائجها. لكن الصراع الإقليمي الحاد لا يُرجح توقف عمليات التمويل والدعم للمليشيات وحركات التمرد المختلفة. ومع أهمية فضح عمليات شراء الذمم وتشجيع العنف والتحرك لإدانة الدول التي تقف وراء ذلك، يبقى إيقافها هدفا بعيدا المنال طالما أن هناك جهات ومنظمات وشخصيات داخل البلدان المبتلية بالصراعات مستعدة لتقبل هذه “المساعدات” وللتصرف وفق إرادة الممولين.
من هنا تكتسب الإجراءات الوطنية لتجفيف مصادر تمويل العنف داخل هذه البلدان ومنها العراق أهمية قصوى. ويتوقف ذلك إلى حدٍ بعيدٍ على مدى النجاح في ثلاثة مجالات مترابطة في ما بينها وهي: مكافحة الفساد وتشديد الرقابة على التحويلات والمدفوعات المالية وتطبيق نظام ضريبي حديث وكفوء.
من دون شك تشكل قنوات الفساد الذي ينخر في جسد الدولة العراقية مصدراً مهماً لتمويل الجماعات والميليشيات المسلحة. وكثيرا ما يتم ذلك عن طريق الصفقات المشبوهة التي تُوظف لصرف المال العام في مشاريع وهمية، بينما يذهب المال في الواقع لصالح منظمات وشركات ومقاولين ورجال أعمال على علاقة بالجماعات المسلحة. لقد أكد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في مناسبات عديدة بأن “الفساد لا يقلُّ خطورة عن الإرهاب”، لكن هذا التشخيص الصحيح لم يُترجم حتى الآن إلى نجاحات ملموسة على الأرض، إذ لا تعاني مكافحة الفساد في العراق من سوء الإدارة وغياب الشفافية وتورط قوى متنفذة في الدولة في عمليات الاختلاس والرشوة فحسب، وإنما أيضا من انتشار الاتهامات الكيدية والأخبار المضللة والملفقة عن صفقات فساد مزعومة هدفها في حقيقة الأمر هو خلط الأوراق والتغطية على الفاسدين الحقيقيين وإرباك جهود محاربة الفساد.
من جهة أخرى تصطدم جهود مكافحة الفساد وكذلك محاولات تجفيف المنابع المالية للعنف والإرهاب بالصعوبات الكبيرة في الرقابة على التحويلات المالية وانتشار التعامل بالمدفوعات نقدا بعيدا عن النظام المصرفي. وكل ذلك يؤكد أهمية قيام المصرف المركزي والبنوك الأهلية بتسيط الضوء على التعاملات المشبوهة واتخاذ إجراءات فعالة للحد من عمليات غسيل الأموال.
كما يمكن للنظام الضريبي أن يصبح سلاحا قويا في محاربة الفساد والجريمة المنظمة والعمليات المشبوهة لتمويل العنف، وهذا ما تثبته تجارب الدول المتقدمة. من البديهي أن المرتشين والمختلسين والمستفيدين من الصفقات المشبوهة لا يصرحون بدخلهم هذا خوفا من الفضيحة والملاحقة القانونية. ولكنهم من خلال ذلك يرتكبون جريمة التهرب الضريبي عن سابق عمد وإصرار. وإذا كانت عملية إثبات جريمة الفساد أمام المحكمة تعتبر صعبة قانونيا، فإنه يكفي أن يخفي الشخص المعني عن السلطات المالية استلامه مبالغ معينة (حتى لو كانت شرعية) لكي تتحقق أركان جريمة التهرب الضريبي. ولهذا أثبت النظام الضريبي فعاليته في معاقبة مرتكبي جرائم أخرى. ويمكن الإشارة هنا الى أمثلة دخلت التاريخ ومنها رجل العصابات الأمريكي الشهير آل كابوني الذي لم يدخل السجن في ثلاثينيات القرن الماضي على جرائم القتل العديدة التي ارتكبها وإنما بتهمة التهرب الضريبي. لكن خطط تحديث النظام الضريبي في العراق بعد 2003 بقيت للأسف حبرا على ورق. وإضافة إلى ملاحقة الفاسدين والمتورطين في تمويل العنف يمكن للنظام الضريبي المتطور ولتفعيل جريمة التهرب الضريبي في الوقت نفسه أن يُسهما أيضا في حشد موارد مالية إضافية وفي تقليص ظاهرة الدولة الريعية المصدر الأول للعنف في المنطقة.
نقلا عن المدي