17 نوفمبر، 2024 6:28 م
Search
Close this search box.

الاقتصاد السياسي للعنف (1-2)

الاقتصاد السياسي للعنف (1-2)

ما هو الفرق بين احتجاجات ساحة التحرير في بغداد وما دُعي سابقا بساحة “العزة والكرامة” في الرمادي؟ بالتأكيد هناك اختلافات وأوجه شبه كثيرة ولكن يوجد فارق ملفت للنظر: يأتي المحتجون إلى ساحة التحرير عادة كل جمعة، بينما تحوّل احتجاج الرمادي في أواخر عام 2012 بسرعة فائقة إلى اعتصام مفتوح ودائم قبل أن يتم فضّه بالقوة. هذا يعني أيضا بأن معظم المشاركين في تظاهرات ساحة التحرير المنتظمة على مدى سنوات يدبرون قوتهم وقوت عوائلهم خلال أيام العمل العادية ويتفرغون للتعبير عن غضبهم في عطلة نهاية الأسبوع ، بينما كان الآلاف في ساحة “العزة والكرامة” متفرغين للتظاهر يوميا وقادرين على ترك أعمالهم ومصادر دخلهم من نهاية عام 2012 وحتى آخر يوم من عام 2013. وربما لفترة أطول لولا قيام القوات العراقية باقتحام ساحة الخيام التي نُصبت وسط الطريق الدولي الرابط بين العراق والأردن.
صحيح أن التيار الصدري حاول أيضا تحويل احتجاجات ساحة التحرير في بغداد إلى اعتصام دائم لإحراج الحكومة وربما لأهداف أبعد من ذلك، ولكن النجاح في ذلك لا يتوقف على “الحماس الثوري” للأتباع وإنما أيضا على تقديم حوافر اقتصادية وضمان التمويل الداخلي والخارجي لمثل هذا الأنشطة التي أثبتت “فعاليتها” في العراق وسوريا ولبنان ومصر وغيرها. ويبدو أن التمويل لم يكن يُمثل مشكلة للجهات التي وقفت وراء ساحة “العزة والكرامة” لأن مظاهر البذخ كانت واضحة منذ البداية من خلال إقامة الولائم والذبائح لرفع معنويات المشاركين والحضور الدائم لعربات النقل التلفزيوني المباشر التي كانت تزود على مدار الساعة قنوات تلفزيونية تخصصت في تغطية ما يحدث في الساحة. وكل ذلك يُكلّف بالطبع عشرات الآلاف من الدولارات يوميا.
يوضح هذا المثال البسيط الأهمية القصوى لكشف مصادر التمويل الداخلية والخارجية لحركات التمرد والجماعات المسلحة والميليشيات والأحزاب السياسية التي تلجأ للعنف كوسيلة للتغيير. فبدون فهم الجانب الاقتصادي والمالي يصعب تفسير نشوء هذه الجماعات وتطورها وإمكانياتها في تجنيد الأتباع وقدرتها على الاستمرارية. وعلى الرغم من أن مظاهر “الثراء” و”الترف” تبدو واضحة للعيان على فصائل معارضة مسلحة كثيرة في الشرق الأوسط، لم تلق مصادر التمويل اهتماما كبيرا. ومن الواضح أيضا أن تجفيف مصادر تمويل العنف لا يقل أهمية عن مكافحته سياسيا وأمنيا واستخباراتيا. وينطبق ذلك بشكل خاص على ظاهرة الإرهاب ومنظماته المعروفة مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدول الإسلامية/داعش.
تتطلق معظم الدراسات الرصينة التي بحثت القاعدة الاقتصادية لحركات التمرد وللحروب الأهلية التي عصفت ببلدان نامية عديدة من نظرية الريع. وبحسب كارل ماركس فإن الريع هو مصدر خاص للدخل يرتبط بالملكية الخاصة للأموال غير المنقولة وخاصة العقارات والأرض التي تتميز بكونها محدودة طبيعيا، ما يعني أن مستلم الريع لا يؤدي “عملا انتاجيا”. غير أن العلوم السياسية الحديثة قامت بتطوير هذا المفهوم وتعميمه على الموارد الطبيعية التي لا تخضع للمنافسة العادية وإنما يمكن احتكارها والتحكم بأسعارها كما هو حال النفط والغاز والمعادن الثمينة الأمر الذي يتيح جني أرباح “سهلة” وعالية نسبيا. وتبين تجربة العراق أن هذه الموارد الطبيعية تشكل دافعا قويا لتأجيج الصراعات والحروب الأهلية وفي نفس الوقت مصدرا لا ينضب لتغذيتها بالجنود والسلاح وبالحوافز الاقتصادية اللازمة لإطالة أمدها. وكلما تكون الدولة غنية بالموارد الطبيعية وفي نفس الوقت ضعيفة أو فاشلة وغير قادرة على فرض مبدأ احتكار وسائل القوة، يزداد خطر اندلاع حروب داخلية. ولعل تحليل مصادر تمويل تنظيم داعش الذي دخل التاريخ باعتباره التنظيم الإرهابي الأكثر ثراءً في العالم يُقدم بعض الاستنتاجات التي تنطبق أيضا على حركات تمرد مسلحة أخرى.
في دراسة حديثة أعدها المركز العالمي لدراسات التطرف (ICSR) بالتعاون مع المجموعة الأمريكية المعروفة للتدقيق المالي ومراجعة الحسابات أرنست أند يونغ (Ernst & Yong) قُدرت إيردات بيت مال دولة الخلافة المزعومة بمبلغ يتراوح بين نحو مليار وقرابة ملياري دولار في عام 2014، أي في فترة عز قوة “دولة” أبو بكر البغدادي. بحسب هذه الدراسة التي استندت إلى كشوفات مالية لداعش والتي تُبين أيضا حرص التنظيم على توثيق أبواب الإيراد والصرف بدقة “تحسدها” عليها بعض الحكومات، يعود أكثر من نصف الإيرادات في هذا العام إلى النهب والسلب ومصادرة الأموال (أي الغنائم بمفهوم الفقه الإسلامي) والغرامات التعسفية. بينما جاء تهريب النفط في المرتبة الثانية مساهما بنحو 25% من إجمالي الإيرادات. وفي حين أُعتبرت التبرعات القادمة من الخارج خلال هذه الفترة غير مهمة، تشير الدراسة إلى الدور المتعاظم للضرائب والرسوم في تمويل ميزانية داعش. غير أن هذا البند ليس له علاقة بالضرائب المتعارف عليها، وإنما هي أقرب إلى الأتاوات التعسفية التي اعتاد التنظيم فرضها على التجار ورجال الأعمال وسائقي الشاحنات وعلى المنافذ الحدودية. كما قدّر معدو الدراسة قيمة الفديات في عام 2014 مقابل الإفراج عن المختطفين بمبلغ لا يزيد على 40 مليون دولار مشيرين إلى صعوبة الحصول على بيانات دقيقة. ويبدو هذا الرقم متواضعا بالمقارنة مع معلومات النائبة الايزيدية فيان دخيل التي صرحت في شباط/فبراير 2017 بأن حكومة إقليم كردستان دفعت فديات تصل الى 40 ألف دولار مقابل تحرير الأسيرة الواحدة من آلاف الايزيديات اللواتي قام التنظيم باستعبادهن في صيف 2014. وبغض النظر عن تصنيف الدراسة لإيرادات التنظيم، يمكن القول بأن الريع بمفهومه الواسع لا ينطبق على تهريب النفط فقط وإنما أيضا على “الغنائم” والإتاوات والجمارك والفديات وتهريب الآثار لأن جميع هذه العوائد تأتي دون جهد يُذكر ولا تشترط عملا انتاجيا بالمعني المعروف، وإنما تشترك في كونها ثمرةً لاحتكار القوة في المناطق الخاضعة كليا أو جزئيا لسيطرة التنظيم الإرهابي.
غير أن الدراسة التي صدرت بعنوان “الخلافة في انحدار” في أواخر شباط/فبراير عام 2017 ، تشير أيضا إلى انهيار ميزانية داعش إلى النصف تقريبا في عام 2016 ضمن اتجاه تنازلي يرجح استمراره في هذا العام أيضا في ظل الهزائم الكبيرة التي مني بها التنظيم في العراق وسوريا. كما تلاحظ الدراسة تراجعا كبيرا في دور الأموال المنهوبة والمصادرة ضمن تطور يمكن وصفه بالطبيعي لأن اقتصاد “الغنائم” يؤدي عاجلا أم آجلا إلى تلاشي قاعدته المادية. لكن هذا الانكماش في الموارد المالية للتنظيم الإرهابي لا يدعو للإفراط في التفاؤل لأن تكاليف الاعتداءات الإرهابية ليست باهظة كثيرا. على سبيل المثال لا يتطلب تنفيذ اعتداء بسيارة مفخخة إنفاق أكثر من بضعة آلاف من الدولارات، بينما يتسبب بخسائر بشرية ومادية هائلة. من جهة أخرى تُبين التجربة بأن التنظيمات الإرهابية والحركات المتمردة لا تعطي أهمية فائقة للجانب المالي فحسب، وإنما تبدي أيضا قدرة على التأقلم وتسعى لتنويع مصادر دخلها وتلجأ أحيانا لأساليب غير مألوفة. ومن الملفت للنظر في هذا السياق هو ما نشره معهد أوروبي للأبحاث الأمنية عن مشاركة داعش في المضاربات المالية بالعملة الافتراضية “بيتكوين” التي تتسم تعاملاتها بالسرية. صحيح أن داعش تفوق على الجميع في درجة وحشيته ولجوئه لأساليب موغلة في القدم لحشد الموارد المالية، إلا أن هناك أيضا أوجه شبه لا يمكن نكرانها مع حركات متمردة أو معارضة أخرى داخل العراق وخارجه في مؤشر على أن هذه الحركات تستفيد من خبرة بعضها البعض الآخر. فقبل ما دُعي بصولة الفرسان ضد التيار الصدري في البصرة عام 2008 انتشرت مثلا تقارير عن فرض ميليشيا جيش المهدي حينها لـ”ضرائب” أو بالأحرى أتاوات مقابل “تخليص” السلع المستوردة في ميناء البصرة وعلى مبيعات البنزين في محطات تعبئة الوقود. ويمكن أن يصبح بيع نفط إقليم كردستان بعيدا عن القنوات الرسمية مصدرا لتمويل صراعات عنيفة بين الإقليم والحكومة المحلية، بل وحتى لاحتراب داخلي بين القوى الكردية نفسها. بيد أن الدراسة المذكورة تشير بوضوح أيضا إلى أن داعش يتمتع حتى الآن بنوع من “الاستقلال” المالي. ففي حين يُرجح معدو الدراسة حصول التنظيم في مراحله المبكرة على دعم وتبرعات من دول الخليج، يؤكد هؤلاء بأنهم لم يعثروا خلال الفترة 2014 حتى 2016على أدلة تُثبت حيازته لمصادر دخل خارجية. هنا بالذات يكمن فرق جوهري مع معظم حركات التمرد الأخرى في المنطقة والتي تعتمد بدرجة كبيرة على التمويل الخارجي في ظاهرة لوحظت بشكل خاص في العقد الثاني من الألفية الجديدة.
 يتبع
نقلا عن المدى

أحدث المقالات