23 ديسمبر، 2024 6:48 ص

الاعتصام المدني العلاج بالصدمة ورأسمالية الكوارث!!

الاعتصام المدني العلاج بالصدمة ورأسمالية الكوارث!!

تتفق مناهج التحليل السياسي على حصر المدخلات التاريخية والموضوعية في بوتقة الواقع ومعطياته المتأزمة بغية الانتهاء الى مخرجات ترسم مستقبله،وما يجري اليوم من احداث جسام تمثلت في غضب الشعب واعصامه المدني ، تتطلب وقفة تحليل موضوعية ، في هذه المقالة نحاول تحليل مستقبل العراق السياسي بعد عقد ونيف من التغيير عام 2003 ، كون وقائع الفهم التاريخي لظاهرة الصراع السني -الشيعي ، كما يرها الباحث عصام فاهم العامري ، المشارك في ندوة نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة (27-29 شباط / فبراير 2016) بعنوان: “الشيعة العرب: المواطنة والهوية العربية”، ويقول العامري انه يرى “هذه الظاهرة في حقيقتها تعبير عن ظاهرة اوسع لا تشمل المنطقة فحسب وانما اجزاء كبيرة من العالم وهي جزء من تطور صارت تشهده السياسة العالمية منذ الثلث الاخير من القرن العشرين ليبرز جليا بعد الحرب الباردة، والمقصود بها صعود” القومية الدينية” (Religious Nationalism) وتحولها بفعل عوامل عديدة الى “قومية طائفية” (Sectarian Nationalism)، ومنذ ان طرح مفهوم الدولة القومية على أنه المثل الاعلى للوجود السياسي والنموذج المثالي للدولة العصرية، فإنه ارتبط بثلاث مبادئ رئيسية: الولاء القومي، والسيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لكن العامري يؤكد على “ان صعود القومية الدينية في الشرق الاوسط حمل معه تحولاتها الى القومية الطائفية. وهذا التحول متأتي من أن القومية الدينية بطبيعتها تتجه الى (قومية طائفية).
ويتفق العامري مع التحليل القائل بان “شيعة السلطة” في العراق قد حرصوا على الاستمرارية في القومية الطائفية ولكن باستدارتها نحو تهميش السنة العرب، ولم يكن الهدف انتقامي فحسب وانما ايضا لان القومية الطائفية تسمح لطبقة شيعة السلطة باستنساخ نفسها والاستمرارية في التنعم بامتيازات وعطايا السلطة وقد دخل عنصر الانتخابات في المعادلة بعد سقوط النظام السابق، وبدا الهدف الاساسي هو ترسيب المدركات الطائفية في سلوك الناخب، ولذلك لم يتوانوا في استخدام التاريخ القريب بخصوص المظالم التي تعرضوا لها وبخصوص التاريخ الاسلامي كذخيرة للتحشيد الطائفي.. الامر الذي قابله سياسيو السلطة من السنة بقدر من الاستثمار من اجل الحصول على مكاسب انتخابية والنفوذ عبر التحشيد الطائفي المقابل. لتتضخم القومية الطائفية في العراق وتتفاعل مع القومية الدينية وبالتالي القومية الطائفية في المنطقة بأسرها.
موضحا ان هذا التطور سمح ببروز ثلاث متغيرات على نحو كبير:
-المتغير الاول، حيث القومية الطائفية ببعدها السني لم تعد عربية ولم تعد فقط شاملة لمنطقة الشرق الاوسط بل اضحت تحتضن في تأثيراتها مساحات واسعة من العالم الاسلامي.
-المتغير الثاني، هو تشكل الصراعات الاقليمية في منطقة الشرق الاوسط كي تبدو تعبيرا عن تصادم القوميتين الطائفتين الأساسيتين وأضحت تمثل في حيثياتهما صداماً بالنيابة كتعبير عن عودة الحرب الباردة بين الغرب وروسيا.
-المتغير الثالث، وهو غير منعزل عن المتغيرين اللذين أضحيا يطرحان امكانية تقديم خطاب قومي عربي طائفي ضد الشيعة، وهو أمر يبدو اليوم ممكناً أكثر من أي وقت مضى، بل سنجد أن هناك مَن يتبنى خطابا قوميا اليوم يتجه ضد إيران مضمنا في خطابه هجوما واضحا ضد الشيعة، ولن يكون هذا الخطاب محصورا في أوساط سلفية عقائدية تتخذ من كتب الفرق الإسلامية مصدرا لمواقفها السياسية، بل ستجده في أوساط علمانية لا علاقة لها بالتراث التاريخي،وإذا كان المشهد لم يتبلور فيه خطاب قومي واضح في هذا السياق الذي ينفي الشيعة من الرابطة العربية، فإن ملامحه يمكن استقراؤها من خلال تعبيرات وتعليقات كثيرة، بل وتبدو الفرصة مواتية اليوم أكثر من قبل لبلورة معنى جديد للهوية العربية بلغة تحمل الكثير من العنصرية تجاه الشيعة، وهذا الأمر ممكن نظريا وعملياً.
في ضوء هذه المعطيات التاريخية لفهم التحول الى القومية الطائفية في عراق ما بعد 2003، حاولت ” نقاش” استطلاع اراء عدد من الخبراء والمحللين السياسيين عن فرضيات تقسيم العراق كمنهج معمول به في المواقف والتصريحات، بل والسيناريوهات المطروحة لهذا التقسيم، كمدخلات واقعية لتحليل المخرجات المطلوبة لرسم مستقبل العراقي الأمد المنظور والمتوسط.
الملاحظة الأساسية التي توصلت لها ان الأغلبية من الباحثين في الشأن العراقي تتفق على دستورية تشكيل الأقاليم وكلنها تختلف مع تسمية فدرلة الدولة الى أقاليم بنقلها الى نموذج من التقسيم الطائفي والاثني، بل وان اغلبية الآراء قد اتفقت على ان العراق لا يمكن تقسيمه بالمنهجية المعلنة اميركيا “خطة بايدن” الى 3 أقاليم شيعي وسني وكردي، ولكن بالإمكان فدرلة الدولة عبر سياسات لا مركزية يمكن ان تنتهي الى أقاليم متعددة.
وفي هذا السياق، يؤكد حسين درويش العادلي، وهو خبير متخصص في الإسلام السياسي، الى ان العراق يجاور 3 أمم ” العرب ، الفرس، الاتراك” واي تغيير في منهجية تشكيل حدود الدولة لما بعد نتائج اتفاقية سايكس بيكو ، تعني خلخلة الجغرافية السياسية في هذه الأمم الثلاث، ويؤكد العادلي على ان العراق يحكم من 3 فواعل اساسية هي قوة المرجعية الدينية في النجف الاشرف الاعتبارية ، والنفوذين الإيراني والأميركي ، وردا على سؤال عن حقيقة تواجد وفد أميركي برئاسة جيمس جيفري ، السفير الأمريكي السابق في العراق وسورية لرسم معالم تقسيم العراق او وضع سيناريوهات مستقبلية له ، قال العادلي” ان الامريكان دائما يسعون لفهم معطيات الواقع العراقي، وانه جزء من الجانب العراقي في
عملية الحوار المشترك لهذا الفهم ، لكنه استدرك بالقول ” هذا الحوار لا يرسم استراتيجيات تقسيم العراق بل سيناريوهات للخروج من المأزق الحالي ، وان الأمور تتجه نحو الانفراج بعد التوصل الى سيناريوهات تبدو الأكثر قناعة جميع الأطراف ما بعد تحرير جميع المناطق العراقية من احتلال تنظيم داعش ، على حد قوله
وردا على سؤال اخر عن رايه بالأصوات التي تطالب بالاقلمة للعراق، قال العادلي ” نظام الأقاليم بذاته ليس تقسيما إذا ما توفرت اشتراطاته وبالذات إعادة تقعيد الأنظمة والقوانين المتصلة بتطبيق نظام الأقاليم. التخوف الحالي من الأقلمة مبرر بسبب صراع الهويات وتعالي النزعات الانفصالية على أساس قومي أو طائفي، لذا فالأقلمة حالياً ووفق حيثيات الصراع الدائر على الدولة وفي الدولة يعتبر خطراً على الوحدة الوطنية، لكن وفق اشتراطاته القانونية والموضوعية فالأقلمة ليس تقسيما.
موضحا “إنَّ مَن يظن أنَّ التقسيم هو حلاً فهو واهم، أساساً التقسيم الناجز غير وارد ألبتة، هو ورقة ابتزاز سياسي ليس إلاّ،.. قرار التقسيم ليس قراراً عراقياً، هو دولي إقليمي بامتياز، والتقسيم لم تتوافر ولن تتوفر اشتراطاته بالأفق المنظور، فالعالم غير مستعد إعادة إنتاج خارطة سياسية جديدة للمنطقة وما ستفرزه من تداعيات مجتمعية وسياسية واقتصادية،.. أتصور أن نتائج التقسيم ستكون أكثر كارثية من الكوارث الحالية، والجهد الدولي اليوم لا يتجه باتجاه التقسيم بل بإجراء تسويات تاريخية كبرى، وهذا ما سيحدث في سوريا والعراق تحديداً”.
ويتفق خبراء عراقيون مع هذا الراي، من بينهم فالح عبد الجبار، عالم الاجتماع العراقي المعروف والأستاذ في جامعة لندن ، وعضو فريق الخبراء الذي شكله السيد مقتدى الصدر ، زعيم التيار الصدري لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في العراق ، ورد على سؤال بقوله ” التقسيم فكرة بلهاء و خطرة انظر الى كل خطوط التقسيم بالعالم تجدها خطوط حرب: كوريا، كشمير بين الهند و باكستان واخيرا احدث مثال: السودان”
من جهته يرى الفريق الدكتور توفيق الياسري، احد قادة انتفاضة 1991، ان اقلمة العراق في هذه المرحلة بالذات وقبل نضج وعي الفهم للمشروع الديمقراطي الذي يعزز وحدة البلاد ويوحد موقف الامة ومشروعها الوطني ولحمتها الاجتماعيه واعتماد مبدأ المواطنه في عملية البناء وفي الحقوق والواجبات لاسيما والعراق يعيش اخطر مرحلة بتاريخه المعاصر في ظل انتشار الطائفية التي وصلت حد الاحتراب الداخلي ، والفساد المالي والاداري الذي بات اخطر سلاح بيد اعداء العراق وعمليات التدمير المنظم لمفاصل الدولة، مشددا في حديثه على ان ” الاقلمة في هذه المرحلة هي تأسيس لمشروع تدميري للعراق ولشعبه وهو المحطة المتقدمة على طريق تمزيقه انطلاقا نحو استقلال دويلات هزيلة تابعة لهذه الدولة او تلك”.
ويتفق مع هذا الراي، الدكتور نعمة العبادي ، أستاذ العلوم السياسية والخبير في الشؤون الاستراتيجية الذي يؤكد انه على الرغم من ان الواقع احيانا يشعرنا بان الطرق مسدودة امام فكرة التعايش في وطن موحد وان الحل هو الاقلمة إلا ان هذا الامر غير صحيح لجهة ان العراق غير قابل لذلك وان هناك تناظر بين الجغرافية والديمغرافية على مستوى داخل العراق وجواره ولذلك ستكون المكونات هي دول متضادة وليست اقاليم في سلطة اتحادية فضلا عن ان مكانة القانون والسلطة متباينة من مكان لاخر لذلك لا يلائم هذا الوضع فكرة الاقليم وسوف يكون العود الى المركز بقدر القوة والضعف ومن هنا فان الاقلمة هي بكل ماتعني الكلمة تقسيم وليس تقسيم فقط بل تصدع وتشظي.
في ضوء كل ما تقدم يبدو من الممكن القول:
أولا: ان مستقبل العراق السياسي ما زال غامضا مرهونا بتسويات إقليمية ودولية كبيرة، لعل ابرزها الموقف الأمريكي في جني ثمار ما بعد الاتفاق النووي مع ايران ، وموقف الرئيس الأميركي أوباما من السياسات الجديدة لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط .
ثانيا : الكثير من الخبراء والمحللين العراقيين يتفقون على ان الفيدرالية هي نوع من التقسيم ، ويتفقون في ذات الوقت بان الفيدرالية الإدارية او السلطة اللامركزية يمكن ان تكون نوعا من الحلول لمشاكل الطائفية المتوارثة في العراق الجديد .
ثالثا : البحث عن حلول عراقية من قبل واشنطن او موسكو بل وحتى من قبل الرياض وطهران تواجه تحديات جوهرية تتمثل في الانشقاقات داخل التحالفات الطائفية او القومية ، فليس ثمة مواقف واحدة موحدة داخل التحالف الوطني ” الشيعي” او التحالف الكردستاني او تحالف القوى العراقية ” السني ” والمشاورات الجارية الان للإصلاح والتغيير عبر مبادرات متعددة الجوانب لن تكون اكثر من مساومات داخل الكتل الرئيسية الثلاثة ومن ثم فيما بينها وهي عملية صعية جدا في محاصصة المناصب من جديد تحت عنوان حكومة التكنوقراط .
رابعا : مشكلة التحليلات السياسية تتجاوز حقيقة الضغوط الإقليمية والدولية على الفواعل الاجتماعية في العراق الجديد ، فالجميع يرى ان العملية السياسية تمر بمأزق خطير جدا يمكن ان ينتهي الى تقسيم العراق في مرحلة ما بعد داعش ، لكن الكثير منهم يرى ان هذه الضغوط يكتنفها الغموض وسياسات متعددة الأطراف يمكن ان تنتهي بحلول عراقية مطلوبة ومرغوبة ، بل وهناك من يتوقع ان تكون هذه الحلول على حساب المواطن العراقي .
خامسا : الكثير من الاحاديث التي تجري عن موقف زعيم التيار الصدري ولجنة خبرائه لإعادة تشكيل الحكومة ما زالت تصطدم بمؤشرات التزام الكتل البرلمانية بالمحاصصة ، وما يجري الحديث عن اعتصام متجدد ومتظاهرات غاضبة لن تكون الكثر من ضغوط جانبية قد تؤتي اكلها وقد لا تكون اكثر من تضليل سياسي لاتفاقات جانية تخالف جميع التوقعات .
كل ذلك يؤكد ان رأسمالية الكوارث تحتاج الى علاج بالصدمة وليس الى علاج تدريجي او مرحلي بانتظار الانتخابات المقبلة ، وكل يوم يولد مؤشرات جديدة عن مستقبل عراقي يبقى غامضا على المراقب العادي لكنه صفحة بيضاء مفتوحة على الراسخين بالعلم .