الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته يتناول نواة التراجيديا العراقية التي تتعاقب فصولها منذ بداية الثمانينيات ولا تزال. ليس فقط لأن موضوع برنامج التسلح النووي العراقي هو العقدة في هذه المأساة، إنما أيضاً لأن مؤلفيه العراقيين العالميين النوويين هما الأبرزان في تاريخ الجهد العربي لتأمين رادع نووي يحمي الأمن الاستراتيجي العربي، كما هما البطلان الرئيسيان الفاعلان الأهم في سلسلة الأحداث هذه وتعاقباتها وتداعياتها.
لقد رأوا من واجبهم تسجيل الحقيقة كما يعرفونها ولاسيما في مجال التسلح النووي. فقد كانوا على مدى أعوام يطوون الليل بالنهار مع مجموعة طيبة من الفنيين العراقيين يسعون لإنجاح برنامج نووي عراقي بجهد وطني خالص. ثم أمضوا أربعة عشر عاماً أخرى يتصارعون مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الكتاب يروي البدايات الجنينية لمشروع البرنامج النووي العراقي، حيث يأخذ القارئ بجاذبية التناول الإنساني بشفافية اجتماعية وثقافية نحو إدراك أبعاد ما جرى من البداية إلى النهاية – إذا جاز تعبير النهاية ونحن بصدد صراع لا يزال مستمراً- حيث يمتزج المشروع العلمي الاستراتيجي بالفاعلين البشر بمستوياتهم وملكاتهم المختلفة.
في بعض أجزائه يصل إلى حدود التشويق السينمائي البوليسي، وفي بعض أجزائه يصل إلى حدود الطرح العلمي المجرد بما ينطوي عليه من تقانات وتقنيات، لكنه في كل الأحوال يشكل متابعة دقيقة ومخلصة من خلال الذكريات ومن خلال الوثائق وحتى من خلال المشاهدات الخارجية للرحلة الطويلة الشاقة التي قطعها برنامج العراق النووي من المخططات الأولية إلى المختبرات، حتى قاعات الاجتماعات الأمنية والاستراتيجية ومناقشات المنظمة الدولية ومداخلات المخابرات بمقاصدها الخطرة.
الكتاب ليس دعاية سياسية أو حجة تبريرية لهذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتصارعة في العراق وحوله – يقول المؤلفان- وليس دفاعاً أو تفنيداً لهذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتصارعة في العراق وحوله، وليس دفاعاً أو تفنيداً لهذا الرأي أو ذاك بل هو كشف للحقيقة بحلوها ومرها، وبارقة أمل لأجيالنا اللاحقة أن لا تفقد الأمل بأن تجعل مصيرها فوق راحاتها في البناء والتقدم والازدهار السلمي، بما في ذلك امتلاك ناصية التكنولوجيا المتطورة مع سرعة الأحداث والزمان. وبالتالي فأية حقيقة تثير الاختلاف والجدل تحتاج إلى بعض الوقت لانجلاء مكامنها واختبار صلابة عودها وصحة مراجعها وتقييمها سواء أكان ذلك بتجربة الأحداث ذاتها أم بشهادة الناس الذين صنعوا تلك الأحداث وساهموا فيها سلباً كان ذلك أم إيجاباً.
في الكتاب قصة يرويها المؤلفان مع البرنامج النووي العراقي بتفاصيلها والذي كانوا يسمونه ((البرنامج الوطني)) إيماناً منهم كعلماء عراقيين بأن ذلك البرنامج هو الأسلوب الأمثل للتطور العلمي والتكنولوجي في العراق، وعليه أن يحرك العقول العلمية ليكون الملهم لتفتح إبداعات التقنيين العراقيين حيث يتمكنوا من بناء مشاريع صناعية مساندة بالجهد الذاتي فيعززوا الثقة بالنفس وبالمقدرات الوطنية ما سيجعلهم ينفذوا مشاريع العراق المستقبلية بأقل قدر من الاعتماد على الشركات الدولية المحتكرة للتكنولوجيا، ومن خلال ذلك البرنامج سيقفز العراق إلى ما يطلق عليها حافات العلوم المتقدمة في عصر الثورة العالمية العلمية والتكنولوجية.
كان ((البرنامج الوطني)) بحق – القول للمؤلفين- مدرسة لتأهيل العلماء وتدريب الكوادر الهندسية والتقنية حيث بدأنا البرنامج بعدد قليل من العاملين فيه وتوصلنا إلى أكثر من (8000) منتسب قبل تدمير البرنامج عام 1991.
ويذهب المؤلفان للقول: لنا الشرف حيث كنا في طليعة المسؤولين الأساسيين عن برامج الطاقة الذرية العراقية طوال الفترة الأهم من تاريخها (1965-1991)، ولكن في المقابل كان من سوء حظنا إننا كنا في قمة هرم المجابهة بين الحكومة العراقية من جهة وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية من جهة أخرى. وهي المعنية بتطبيق ما يخص الجانب النووي من قرار مجلس الأمن رقم 687 الصادر في نيسان/1991، حيث تولى المفتشون الدوليون إجراء تحرٍ شامل وقاسٍ وظالم ولفترة طويلة عن أسلحة ليس لها وجود. وعندما يئسوا من بحثهم لجأوا إلى التنقيب بأدق التفاصيل عن البرامج العراقية السابقة التي تندرج ضمن تصنيفها لأسلحة الدمار الشامل، على الرغم من أن جميع مكونات العمليات العسكرية عام 1991، أو في صيف 1991، عندما تولت قوات الحرس الخاص تدمير ما تبقى منها وبأمر من صدام حسين شخصياً ومن ثم تدمير البقية الباقية من أبنية ومكاتب وأثاث وخدمات من قبل لجان التفتيش، ولم يبقى لدينا (نحن العراقيون) أي شيء من تلك البرامج، حتى مسودات التقارير التي كانت بحوزة العلميين والتقنيين والتي تعتبر من ممتلكاتهم الشخصية.
كانت أساليب لجان التفتيش – الكلام للمؤلفين- أقرب إلى أساليب عصابات المافيا… راقبناهم بعيون ملأى بالدموع يدمرون أبنيتنا وما تحتويه، إن كنا قد ضحينا بيفاعة سنوات عمرنا، وبالسهر والقلق المستديم، نبني ذلك الصرح التكنولوجي المتقدم بعقولنا وصرنا وحدنا دون أن نستعين بأية خبرة أجنبية، ودون أن نشتري أو نسرق المعلومات كما فعل غيرنا في بلاد العالم التي سعت أو تسعى إلى امتلاك ناصية العلوم التكنولوجية النووية.
لقد تحدث المؤلفان وبشكل موضوعي ومحايد عن الأساليب القسرية واللامهنية التي انتهجتها لجان التفتيش طوال الفترة 1991-2003، وكيف إن أعضائها كانوا قد توصلوا يقيناً إلى جميع مكونات البرنامج النووي العراقي، وكذلك الحال في برامج أسلحة الدمار الشامل الأخرى والتي تم تدميرها بالكامل، وقد حصلوا على القصة بحذافيرها وعلى أدق التفاصيل لتلك البرامج وسيطروا على جميع الوثائق والتقارير العلمية والتقنية ما لم يترك أي مجال لإعادة العمل بهذه البرامج أبان تلك الفترة أو حتى بعد أن يتم رفع الحصار عن العراق، غير إنهم أحجموا لأمر ما عن ذكر تلك الحقائق في تقاريرهم إلى مجلس الأمن الدولي فتنصل الدكتور محمد البرادعي مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية من قول الحقيقة، وخفت صوت الدكتور هانز بليكس عن كشف الحقيقة لمجلس الأمن في اجتماعاته ولاسيما قبل اجتياح العراق في آذار/2003، وغلفا تصريحاتهما بجمل دبلوماسية تقبل كل تأويل حيث صرح البرادعي إن وكالته تحتاج إلى ثلاثة أشهر أخرى ليتم التحقق من النقاط القليلة العالقة، وكأن السنوات الثماني العجاف من التفتيش والتحري لم تكن كافية. غير إنه قال في تقرير رسمي أرسله إلى مجلس الأمن في التاسع من نيسان/2003، أي يوم احتلال بغداد، بأن العراق لم يكن قد أعاد العمل بالبرنامج النووي بعد عام 1998. وإن النقاط العالقة يمكن حلها في مرحلة التحقق والرقابة المستديمة. كما صرح هانز بليكس بعد فوات الأوان أيضاً بأن اللجنة التي كان يرأسها وهي لجنة الأنموفيك كانت تخضع لضغط كبير من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
في عام 2001، أحكم المحافظون الجدد سيطرتهم على الإدارة الأمريكية برئاسة جورج بوش الابن، ثم جاءت أحداث 11/أيلول لتفتح الطريق واسعاً أمام إدارة بوش لإحكام سيطرتها على العالم تحت ذريعة محاربة الإرهاب الدولي… فوجهت الإدارة الأمريكية جهدها صوب العراق، متخذة من عدم التزامه التخلي عن أسلحة الدمار الشامل حجة لحملتها، إن العراق قد أعاد النشاط لبرنامجه النووي منذ عام 1998، وإنه على وشك امتلاك السلاح النووي. غير إن الإدارة الأمريكية أصرت على استصدار القرار رقم 1441 من مجلس الأمن قبل عودة المفتشين… وتنفيذاً لهذا القرار السيء، أعد العراق تقارير شاملة وكاملة وصحيحة بلغت (12000) صفحة، ولكن حال وصول التقارير إلى نيويورك استولت عليها وزارة الخارجية الأمريكية وبحجة توافر الإمكانيات لديها لاستنساخها وتوزيعها على أعضاء مجلس الأمن، فشطبت كل ما يرد في التقارير من ذكر لأسماء شركات أمريكية وبريطانية ساعدت العراق في برامجه السابقة للتسلح غير التقليدي. ووزعت النسخ المصححة على الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن فقط ثم أعلنت وبسرعة إن لا جديد في هذه التقارير الذي كانت تنتظره أمريكا، هو أن يعلن العراق عن برامج أعادها بعد 1998 وهي غير موجودة.
سارع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي إلى الالتحاق بركب قارعي طبول الحرب على العراق، فقد أحجم في تقريره إلى مجلس الأمن الدولي في 14/آذار/2003، وعند حضوره جلسة المجلس، أحجم عن ذكر الحقائق كاملة وقال في استحياء:- إن الوثائق تبدو غير صحيحة ولم يقل صراحة إن العراق لم يعد النشاط لبرنامجه النووي بعد عام 1998. غير إنه وبعد زوال الضغط الأمريكي تحرر من خوفه وأعطى في 9/نيسان/2003 يوم احتلال بغداد: إن العراق لم يعد النشاط للبرنامج النووي بعد عام 1998 ولا يمتلك أية مقومات لبرنامج نووي بعد أن تم تدمير جميع مكونات برنامجه السابق.
وأثر احتلال العراق قررت الإدارة الأمريكية تكليف فريق مسح مؤلف من 1400 أمريكي من منتسبي المخابرات ومن منتسبي المؤسسات الأمريكية المعنية بشؤون نزع السلاح. ولكن بعد تسعة أشهر من التحري والتحقق في عموم أراضي العراق أعلن رئيس الفريق ديفيد كاي، عدم امتلاك العراق للأسلحة الكيميائية والبايولوجية وعدم وجود أي برنامج نووي للتسلح، وتبعه فريق ثاني خرج بالاستنتاجات ذاتها التي توصل إليها الفريق الذي سبقه، فاضطر أركان الإدارة الأمريكية إلى الاعتراف بأن المعلومات التي وصلتهم قبل شن الحرب على العراق لم تكن صحيحة، وتوج ذلك الاعتراف المهم من قبل أعلى قمة للسلطة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية المتمثلة بشخص جورج بوش الابن.
هل كان صدام جاداً في مسعاه لخلق برنامج نووي وطني؟! أم كان يهدف إلى أغراض أخرى؟ يتساءل المؤلفان ويجيبان:- كلنا يعلم بأن أي بلد يبدأ ببرنامج نووي طموح يتوجب عليه أن يتمسك به ويدعمه، ولا يأتي بأمر يحل عائقاً بينه وبين المضي قدماً بتحقيقه. ونجد دولاً عديدة تعاقبت على سلطتها حكومات من كل أطيافها السياسية وحتى حدثت فيها انقلابات مختلفة، إلا أن جميع الحكومات المتعاقبة حافظت على برنامجها النووي وأغدقت على تحقيقه العطاء والرعاية حتى بلوغه غايته القصوى… أما صدام حسين والذي كان يمتلك سلطة أكبر من أي قيصر قبله، فهو الوحيد بالدنيا الذي أمر ببناء برنامج نووي وعاش في الحكم ليخلق الظروف التي تدمر ذلك البرنامج.
لو افترضنا – التعقيب للمؤلفين- إن صدام حسين كان جاداً في مسعاه للنهوض بالعراق حسب إمكانات بلادنا الغنية بما تحت الأرض وفوقها لما أطلق يد حسين كامل للتسلط المطلق على مقدرات التصنيع والصناعة وعلى برامج العلم والتكنولوجيا في العراق. ولو كان صدام حسين يدرك المعاني الاستراتيجية لامتلاك العراق التكنولوجيا النووية لما سلك الدروب التي أدت إلى خراب العراق.
إن هذا الكتاب، بميزة الحضور المباشر في تطورات هذه المأساة الكبرى، يكشف أكثر من أي كتاب آخر من الأسرار والمعلومات عن برنامج العراق النووي وما رصد ضده ولتدميره من طاقات ومصادر، وعن الشخصيات الدولية التي شاركت في الصراع من قريب أو من بعيد. ثم عن عمق واتساع المعاناة التي ألمت بالشعب العراقي طوال سنوات الصراع على هذا البرنامج وضده. لهذا، سيبقى هذا الكتاب مرجعاً لسنوات وحتى لأجيال تالية لكل من يريد أن يفهم ما حدث ليفهم ما سيحدث ويستعد له ويهيئ طاقاته كي لا تتكرر أخطاؤنا وكي لا يسهل على الآخر/ العدو أن يدفع بنا إلى المهاوي ذاتها.
الكتاب، جدير بأن يعد كتاب الساعة، فهو يتناول أحداثها وأبعادها وتداعياتها وقضاياها، لكنه أجدر بأن يعد كتاب التجربة والمستقبل، لأن فيه كل ملامح الأزمة العربية الراهنة في أقصى أخطارها – الخطر الاستراتيجي الأمني- وفيه الردود على التساؤلات التي شغلت العالم بأكاذيب أسلحة الدمار الشامل العراقية التي استخدمت مبرراً أول وأكبر لغزو العراق واحتلال ونهب ثرواته النفطية والعلمية والثقافية، فيه مفاتيح أسرار الحقيقة، وعلينا واجب أن نعيها كشرط لتجاوز التجربة نحو المستقبل العربي الذي تبدأ بدايته الجديدة عندما تنتهي محنتنا، محنة احتلال عراقنا.
إن هذا الكتاب سيبقى مرجعاً لأجيال عربية قادمة – من العلماء والناشطين السياسيين ورجال الدولة وراسمي السياسة وصانعي القرار- لسبب يفوق كل الأسباب الأخرى أحقية وأهمية، وهو إنه يعكس تشبث المؤلفان بالأمل، بقلب عامر بالإيمان، وعقل موقن بالحقيقة:- إن العراق بعظمة شعبه، رغم الخطوب، وخلفيته الحضارية التاريخية، هو أقوى من أن يستكين للكوارث، وسيعود يوماً بلاداً للشمس من جديد لتزول الغيوم السوء وبقايا دخان الحروب، ولا يقدم لنفسه وجيرانه والعالم إلا ما ينفع الناس.
* الكتـــاب :
د.جعفر ضياء جعفر، د.نعمان سعد الدين النعيمي – الاعتراف الأخير، حقيقة البرنامج النووي العراقي، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، أيار/2005، 376صفحة.