22 نوفمبر، 2024 11:21 م
Search
Close this search box.

الاعتدال في الخطاب الديني دليل وعي والتزام  بواجب

الاعتدال في الخطاب الديني دليل وعي والتزام  بواجب

عندما نلقي نظرة سريعه على مشهد الأحداث التي يمر بها بلدنا- بل والبلدان الأخرى- نجد أن وراء كل حدث أو موقف أفكار وقناعات لأطراف مختلفه تحاول اثبات صحة ما لديها من توجهات واراء من خلال الخطابات والتصريحات واللقاءات ..الخ..مما له انعكاساته كذلك على تكوين ذلك الأختلاف في قناعات افراد المجتمع وتوجهاتهم وبالتالي تأثيره على واقع الحياة اليوميه كما هو معلوم .لأن كلمة أو عبارة أو تصريح منفعل قد يكون له اثره في  اثارة مختلف المواقف المتشنجه القابله للتطور الى اشكال من الأنفعال والعنف والتطرف ،هذا ما شهدناه ونشهده عند متابعتنا لسير الأحداث ،وبصورة خاصة ما نسمعه من خطاب ديني من على منصات الخطابة هنا وهناك .
اصبحنااليوم بحاجه إلى خطاب ديني معتدل يضع في المقدمة مصلحة أبناء البلد من خلال وعي يستند الى المسؤوليه الوطنية  والواجب الأخلاقي والتكليف الشرعي ،وذهنيه تدرك أن الدين هو رسالة المصلحين وصفة المتعقلين.
 نحتاج إلى تحليل لما يدور في أوساطنا من ظواهر , والانطلاق من تحليلنا لكل ظاهره نحو تكوين رؤية واعية تستوعب الأسباب وتستقصي النتائج ومن ثم الخروج بصيغ وأساليب عمليه لتجاوز مايشهده واقعنا من سلبيات أدى إليها الفهم القاصر , والتعصب الأعمى , والتفسير الخاطئ .
ومن ابرز تلك الظواهر , ظاهرة الخطاب الديني وتأثير تلك الظاهرة سلباً وايجابا   على مجمل الأوضاع السائدة .
ولكي نخضع هذه الظاهرة إلى التحليل ودراسة ما يتعلق بها من جوانب لابد من الاشاره إجمالا إلى وظيفة كل من الدين كنظام سماوي والعقل واستنتاجاته ودوره في تقويم مسيرة الانسانيه وإيضاح العلاقة بين الدين والعقل , ولكي نفهم هذه العلاقة لابد أن نستحضر حقيقة مهمة تمثل نقطة انطلاق نحو بلوغ هذا الفهم وهي أن كلاً من الدين والعقل منهجان يؤديان إلى غاية واحده وهي تنظيم الحياة الانسانيه وان اختلفا في الطريقة والأسلوب الذي يوصل فيه كلاً منهما إلى تلك الغاية وبناء على ما تقدم لابد من الاشاره إلى وظيفة كلا المجالين :-
الدين رسالة إلهيه هدفها رسم المسار الذي ينبغي أن تسير بموجبه حياة الإنسان , وفي هذه الرسالة قانون شامل لكل مامن شأنه ان يقيم الحياة على اساس من العدل والمساواة وحفظ الحقوق وصيانة الكرامه وكل ما يرتقي بالإنسان الى مستوى انسانيته , والدين يضع لحياتنا هدفاً ويحدد لنا الوسائل التي توصلنا الى ذلك الهدف , فهو ينقلنا من حالة العبثيه والعشوائية الى حاله من النشاط والعمل الهادف , لأن الانسان عندما لايكون لديه هدف في الحياة انسان ضائع يسيطر عليه الملل والضجر , ولا يجد لحياته طعماً , والدين فوق كل ذلك علاقة خالق له كل صفات الفيض والعطاء بمخلوق ما كان شيئاً مذكوراً لو لا خالقه الذي افاض عليه نعمة الوجود وأغدق عليه هذه النعم التي لاتحصى وهذه العلاقة بين الخالق والمخلوق لكي تستمر وتقوى تفرض عليه جملة امور بالإمكان حصرها في كلمه واحده هي الاستقامة .
اما العقل فأننا عندما نتأمل في بداية وجود الانسان نجد ان العقل حاضر منذ النشأة الاولى وقد ورد في الاثر ان الله سبحانه وتعالى عندما خلق الانسان واوجد فيه العقل قال له( اقبل فأقبل ثم قال له ادبر فأدبر قال بك اعاقب وفيك اثيب) وفي هذا دلاله على ان وجود العقل سابق على وجود الدين , وبإمكان الانسان بهذا العقل ان يدبر اموره وينظم شؤونه ويبني حياته ،بل ما قامت الحضارات والاكتشافات والاختراعات إلا بهذا العقل … ولو اتبع الانسان احكام عقله دائماً لهداه الى كل مايصلح شأنه ولكن الميول والأهواء والغرائز والمصالح … الخ   تؤثر على مهمة العقل في توجيه الانسان فتحرفه يميناً او شمالاً , فهذه المؤثرات تحاول دائماً اجتذابه وحرفه عن الطريق السوي … وهنا يبرز دور الدين الاساسي وهو ارجاع الانسان الى رشده والى ما يستقيم مع الفطره السليمة , والى ترسيخ وظيفة العقل الذي اودعه الله تعالى في الانسان. فالدين والعقل يلتقيان عند غاية واحده اساسيه هي بلوغ الانسان انسانيته , وإذا ما ادركنا هذه الغاية وأخضعنا سلوكنا لمنطق العقل فأننا في نهاية الامر نكون قد حققنا هدف الدين الاساسي وهو تحقيق كرامة الانسان من خلال نضوجه الفكري وفهمه للحياة  .

وبهذا المنظار يكون مؤدى وظيفة العقل ودور الدين هو اقامة صرح الحياة الانسانيه على اسس قويه رصينة تكفل سعادة الانسان . ولكن عندما نلقي نظره بسيطة على تاريخنا الاجتماعي ماذا نجد ؟  ان التاريخ يطلعنا على كوارث اصابت نظامنا الاجتماعي , ويوقفنا على مآسي وقعت نتيجة التوظيف الخاطئ للعقل , وكان قدر مجتمعنا ان يرزح تحت نير هذه الويلات والحروب والدمار والفقر والتخلف والصراع الذي لامبرر له , اما الدين فأنه لم يأخذ فرصه كافيه في الاصلاح ولم يسمح لرسالته ان تؤدي دورها في تصحيح مسيرة المجتمع بل ان الفهم السيئ والتفسير الجامد ،والتعصب الاعمى ،جعل من الدين سبباً للفرقة والتناحر والعداء بين الانسان وأخيه الانسان وهو مانطالعه ونلمسه كل يوم في واقع نتمنى ان يعود له صفاءه ونقاءه .
وبناء على ما تقدم فقد ارتبط الخطاب الديني بمستوى فهم وظيفة الدين اجمالاً وصلتها بالقيم الانسانيه فبالقدر الذي يبدو فيه الخطاب الديني ضرورياً لنشر الوعي , وإشاعة الإحكام الالهيه وإرشاد الناس فأنه في الوقت ذاته قد يكون وسيلةٍ لنشر مفاهيم وأراء تثقل كاهل المجتمع بأعباء ها  عندما يتخندق الخطاب في اطار طائفي متعصب لايرى إلا صحة الرأي الذي ينادي به . ولقد كان للخطاب الديني ولازال تأثيراً بارزاً على مجمل الاوضاع السائدة ايجاباً وسلباً وسبباً لأستقطب الكثير من التوجهات , وبث مختلف الاراء والأفكار هنا وهناك تبلورت فيما نراه من تجمعات يحاول كل منها الاعلان عن وجوده وإيجاد مساحه لتحركه , وهكذا وجدنا انفسنا امام كم هائل من العناوين والمسميات التي لاتنتهي , مما كان له الاثر الكبير في ايجاد كثير من الاتجاهات والتيارات بفعل التأثير الذي احدثه الخطاب الديني في هذه المناسبة او تلك .  وهذا يعود الى عوامل عديدة اهمها :-

1 -غالباً مايرتبط الخطاب الديني بطقوس تضفي
    عليه طابع القداسه لاسيما اذا كان ذلك الخطاب
    مشبعاً بمفاهيم العقيدة الدينيه فيصبح حينئذ عند
    اصحاب هذه العقيدة من المسلمات التي لايرقى
    اليها الشك .
2- غياب الوعي الثقافي والفكري عند نسبة كبيرة من
    الجمهور مما يعني عدم وجود عقليه نقدية لما
     يطرح من اراء وأفكار .
3- التوجهات السياسيه التي تتخذ من الخطاب
    الديني وسيله لتمرير افكارها وتنفيذ برامجها .
4- المصالح الماديه حيث ان كثير من التوجهات
    اضافت الى خطابها الديني مغريات ماديه اجتذبت
    الكثيرين من ذوي التفكير البسيط وهؤلاء شكلوا
    شرخاً في البنيه الاجتماعية .
5- غياب الخط الفكري الذي يتبنى مشروع توحيد
     كافة التوجهات تحت رؤية وطنيه واعية تضع
     في الاعتبار الاول مصلحة الشعب والوطن .
6- التوجهات الخارجية والأفكار التي زرعتها في
     نفوس بعض الذين انخرطوا في تنفيذ برامجها
    والتي تجسدت في شعارات التكفير والعداء
     وممارسة العنف والإرهاب .

7- سعى البعض من خلال الانضواء تحت هذه
    التوجهات الى تأكيد ذاته والتخلص من حالة
    الضياع والفشل في الحياة فأخذ هؤلاء يرددون
    مقولات وشعارات دون ان يفهموا
    معناها … ويتحركون في اطار هذه التوجهات
    دون ادراك للأسس التي تقوم عليها .
ان النقاط المتقدمه ونقاط اخرى تفسر لنا ما للخطاب الديني من اثر عندما يتجه هذا الخطاب في خط طائفي متعصب , لايرى إلا صحة رأيه وخطأ الاخرين , وقد يتعدى ذلك الى تكفيرهم كما حدث ويحدث وما نسمعه بين فتره وأخرى من هذا المنبر او ذاك , فالمشكلة في واقع الامر مع هذا النوع من الخطاب إذ ان الخطاب الديني المعتدل لااشكال فيه ولاغبار عليه بل هو من ضرورات الإرشاد والثقافة والمعرفة في كل زمان.
وفي اوساطنا من جهابذة الفكر الاسلامي ممن اغنوا بمؤلفاتهم ساحة الفكر العالمي وأثروا بأطروحاتهم مختلف الميادين الثقافيه ونالوا اعجاب القاصي والداني على اختلاف الاديان والقوميات … ولنا ان نفتخر حقيقة بهؤلاء المفكرين الذين عبروا عن ما في الاسلام من فكر ناصع , وقابليه على التفاعل مع الاخرين , واستعداد لمد جسور الإخاء الانساني .
ولعل الركيزة الاساسيه التي يستند عليها اي خطاب هي انطلاقه من رؤية فكريه تنبثق عنها جمله من الاراء والتصورات المعبره عن هوية الخطاب , وعندما تكون هذه الرؤية منغلقة على ذاتها ومتقوقعة في قالب جامد خاص بها فمن المؤكد ان الخطاب الصادر عنها خطاباً محدداً بمفاهيم ومقولات وشعارات قد لاتلقي من الاخرين قبولاً وتلقياً لأنها صدرت من الاساس عن رؤية لاتقيم لأفكار وقناعات الاخرين وزناً وبالتالي ايجاد حاله من التقاطع والتنافر ينتج عنها كذلك ردود افعال مقابله تزيد الحاله سوء  لذا اصبح من الضروري في عصرنا الحاضر ان تتعامل كافة التوجهات والتيارات بذهنيه منفتحة على واقعها , تؤمن بالحوار , وبقيمة التفاعل المستمر بين تجارب بني البشر في الحياة الانسانيه , والإيمان بالتعايش السلمي وان العنف والإرهاب والاقتتال والتخريب والدمار ظواهر لايقرها دين ولاعقل وتنبذها تجربة الحضارة الانسانية التي ماوصلت الى ماوصلت اليه إلا بتعاضد العقول وتلاقح الافكار والتقاء التجارب وتعاون بني البشر على اختلاف اديانهم وقومياتهم وألوانهم ولغاتهم .

وفي عصر اصبح العالم بأسره بحكم التطور الذي بلغه في المواصلات والاتصالات يعيش حاله من التقارب والتعايش والاتصال تمتنع معها العزله اذ لابد من التواصل مع العالم كضرورة من ضرورات الحياة المعاصره لكن ذلك لايعني بأي حال الغاء الهوية الذاتيه لهذا المجتمع او ذاك … اما من اعرض عن ركب الحياة الانسانيه وركن الى قرون الاسلاف باحثاً عن قوالب تراثيه محطمه لتطبيقها على الحاضر , فمن المؤكد انه يخالف منطق الحياة المتطور … لأن الدين والعقل لم ولن يختلفا ابداً في اقرار حقيقة مهمة وهي ان الله تعالى انما سخر كل ما في هذا الوجود لصالح الانسان وما عليه إلا البحث في هذا الوجود عن الوسائل المؤديه الى اسعاده وتسهيل سبل معيشته … ولقد كان من نتيجة التواصل الحضاري بين الشعوب والأمم هذا التطور الهائل الذي بلغته الانسانيه , فالاكتشافات والاختراعات والصناعات وكل الاساليب التي انتجتها العقول المبدعه لم تكن حكراً على شعب دون اخر , ولا على امة دون اخرى بل كانت اسهاماً حضارياً مشتركاً يشهد به تاريخ الحضارة منذ ان وضع الانسان الاول اقدامه على هذه الارض , ام من يريد ان  يخالف هذه الحقيقة وينزوي بفكره , وينغلق بطقوسه عن العالم فذلك الذي يشغل نفسه محاولاً ارجاع عجلة الحياة الى عصر الكهوف .

ان الانفتاح على فكر الاخرين يوفر فرص للتلاقي والحوار والتفاعل ومن ثم ايجاد ارضيه من التفاهم الانساني وتوفير مناخ هادئ من الاحترام والفهم وتجاوز لكثير من الاشكاليات الموجودة في هذا الجانب او ذاك .

وعلى ضوء ماتقدم فأن أي اتجاه فكري لكي يستكمل مقومات نجاحه لابد ان يفهم مالدى الاتجاهات الاخرى المنتمية لنفس الميدان ويتعامل معها تعاملاً موضوعياً مقترن باحترام ثوابتها ومبادئها مع الاستعداد لفتح باب الحوار الهادف وصولاً الى تحقيق فهم مشترك لكثير من الجوانب ينتج عنه وسط شفاف خالي من الغموض والتعقيد ينعكس الى الحياة الاجتماعية فيجعلها اكثر استقراراً وأمانا ،   ولتحقيق هذه الغاية لابد من توافر جمله امور في أي خطاب ولاسيما الخطاب الديني ومنها :-

1-  بناء مفاهيم ومقولات الخطاب على اسس موضوعيه  قابله للفهم من الاطراف الاخرى باستخدام الوسائل التي تساعد على تكوين هذا الفهم .
2- الايمان بأن فهم الاخر وإفهامه وسيله اساسيه لرسم مسارات فكريه مستقلة لاتصطدم مع بعضها من خلال تكوين ذلك الفهم للطرفين .
3- وجود قناعه بأن الحياة الاجتماعية لكي تسير في اطارها الصحيح لابد من ايجاد حاله من الاحترام بين مكونات المجتمع السياسيه والدينية والقومية … الخ وان المصلحه الاجتماعية تقضي باجتناب كافة حالات التصادم والتنافر مادام الجميع يعيشون على ارض واحده .
  4 – استيعاب الخطاب لظروف المرحله وما يكتنف تلك
      الظروف من اشكاليات والتعامل مع تلك الاشكاليات
      بعقليه تستوعب اسباب نشوئها والعوامل المؤثره فيها
      بحيث لايثير الخطاب عندما يستحضر هذا الجانب أي
      ردود فعل سلبيه لدى الاطراف الاخرى .
  5- محاولة ايجاد قراءه تاريخيه مشتركه قدر الامكان
     واجتناب الخطاب للقراءة التاريخيه الذاتيه لأن
    ماموجود لدينا من اتجاهات دينيه ومذهبيه قد تختلف في
    القراءة التاريخيه لمختلف الوقائع والإحداث .
6- وبما ان المفترض في الخطاب الديني – خاصةً – انه
    يصدر عن رسالة الدين باعتبارها رسالة بناء وإصلاح
    للانسانيه فمن باب اولى ان يستحضر الخطاب هذه الغاية
    ولا يتخطاها ويسعى الى تكريس قيم ومبادئ ما انزلت
    الاديان إلا لأشاعتها بين بني الانسان .
وفي الوقت الذي ننشد في صفة الاعتدال في الخطاب الديني فأن ذلك لايعني الغاء الثوابت الاساسيه لهذا الاتجاه او ذاك بقدر ما يعني التزام الخطاب بمسار ليس فيه تجاوز على ثوابت الاخرين واحترامها وإذا كانت هناك وجهة نظر او رأي مخالف فأن الحوار المؤدي الى قناعات موضوعيه مشتركه هو السبيل الامثل اما التطرف بأي حال لاينتج حاصلاً . والله الموفق .

أحدث المقالات