هيمنت “الاصلاحات” بمعناها الواسع ومفرداتها المتعددة على المشهد العام في العراق، طيلة الاسابيع القلائل الماضية، ويبدو انها ستبقى تتصدر قائمة القضايا الاكثر اهمية واهتماما بالنسبة للشارع العراقي والقوى السياسية والنخب الثقافية، فضلا عن الحكومة، متمثلة برئيسها حيدر العبادي، واعضاء فريقه الوزاري.
ومع ان حركة “الاصلاحات” انطلقت منذ صيف العام الماضي، بفعل ضغوطات المرجعية الدينية والشارع وبعض الكتل السياسية داخل البرلمان وخارجه، الا ان حجم تفاعلات “الاصلاحات”، اتسع وتنامي بوضوح خلال الشهرين الماضيين، وذلك لاكثر من سبب، من بينها:
-ارتفاع نبرة خطاب المرجعية الدينية، الذي عبرت فيه عن استيائها من عدم ايلاء اصحاب الشأن اذانا صاغية للمطاليب الاصلاحية، حتى قالت على لسان معتمدها في كربلاء المقدسة السيد احمد الصافي من على منبر صلاة الجمعة قبل شهرين “لقد بحتّ اصواتنا”، وكتعبير واضح وصريح جدا عن ذلك الاستياء، اعلنت المرجعية بعد اسبوع الغاء الخطبة السياسية لصلاة الجمعة، وترك امر اعادتها لمقتضيات الظروف والضرورات.
-عدم بروز اية مؤشرات في الافق توحي بوجود خطوات او مبادرات جادة وعملية لاصلاح الواقع القائم، ولم تكن عملية الغاء ودمج بعض الوزارات، وتخفيض جزء من رواتب وامتيازات اصحاب الدرجات الخاصة مقنعا بما فيه الكفاية للشارع العراقي.
-تفاقم الازمة الاقتصادية بسبب تراجع اسعار النفط، واتساع مظاهر القلق والاحباط لدى فئات وشرائح اجتماعية عديدة، ناهيك عن الاشارات التي راحت تتوالى من مصادر رسمية وغير رسمية عن عجز الدولة الاستمرار بدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين اذا ما بقيت الازمة الاقتصادية على حالها.
-تفاقم حدة الخلافات والتقاطعات السياسية بين الفرقاء في عموم المشهد السياسي العراقي، وغياب افاق اية تفاهمات وتوافقات سياسية حقيقية يمكن من خلالها اخراج البلد من الحلقة المفرغة التي يدور فيها.
ولعل ابرز دلالات ومصاديق اتساع نطاق تفاعلات حركة الاصلاحات خلال الشهرين الماضيين، هو طرح جملة مبادرات ومشاريع واوراق اصلاحية من قبل عدد من القوى والشخصيات السياسية، وتصاعد موجة التظاهرات والاعتصامات الجماهيرية في العاصمة بغداد ومختلف المحافظات العراقية، بمشاركة اعداد كبيرة من المواطنين من مختلف التوجهات والانتماءات السياسية والاجتماعية، وكذلك تأكيد رئيس الوزراء في مناسبات عديدة على قرب الاعلان عن قرارات واجراءات جديدة تتضمن دمج والغاء بعض الوزارات وتغيير عدد من الوزراء ورؤساء الهيئات المستقلة، ووكلاء الوزارات بشخصيات اكثر كفاءة ومهنية.
ولاشك ان تلك التفاعلات يمكن ان تفضي في اطارها العام الى تحقيق نتائج ايجابية، من قبيل تقليص حجم الهدر في المال العام، وتطويق مظاهر الفساد الاداري والمالي، ومعالجة الترهل في مجمل مفاصل المنظومة الحكومية، وكسر المعادلات السياسية القائمة على اساس المحاصة في ادارة شؤون الدولة، وتعزيز الرقابة والمتابعة لاداء كبار الموظفين، لاسيما اصحاب الدرجات الخاصة، والبحث عن سبل واليات علمية وعملية للتقليل من اثار وتبعات الازمة الاقتصادية، عبر تنويع الموارد المالية، بتفعيل المجالات الزراعية والصناعية والاستثمارية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ان كل ذلك يمكن ان يتحقق كما هو مرجو وضمن سقوف زمنية قصيرة تحول دون الوصول الى طرق موصدة ونهايات مظلمة؟.
لاول وهلة، لايبدو ان ذلك ممكنا، لانه بقدر ما تمتاز المشاكل والازمات الراهنة بمختلف ابعادها وعناوينها بالتعقيد والتتشابك والتداخل، فأن سبل ومسارات حلها ومعالجتها تبدو هي الاخرى معقدة ومتشابكة ومتداخلة، وطبيعة الحراك الذي افرزته تفاعلات “الاصلاحات” يكفي ان يكون مؤشرا ودليلا على ذلك.
هنالك اليوم اتفاقا وتوافقا على مبدأ “لاصلاحات” وخلافات واختلافات قد تكون عميقة حول التفاصيل والجزئيات والمنطلقات.
فالبعض يتحدث عن تغيير شامل في التشكيلة الحكومية من ضمنها رئيس الوزراء، واخر يدعو الى تعديلات وفق معايير الفشل والنجاح، واخر يطالب بحكومة انقاذ وطني، واخر يؤكد على ان السبيل الافضل يتمثل بأجراء انتخابات برلمانية مبكرة، الى جانب المطاليب والدعوات العامة لجماهير المتظاهرين والمعتصمين والتي هي بحاجة الى تفكيك، مثل مكافحة الفساد، وانهاء المحاصصة السياسية، وتقليص عدد اعضاء مجلس النواب واعضاء مجالس المحافظات.
وطبيعي ان الخلافات والاختلافات حول التفاصيل والجزئيات والاولويات لاتوفر الارضيات والمناخات المناسبة لاتخاذ خطوات سريعة ومثمرة ومقبولة، لاسيما وان الهوه بين التوافقات والتفاهمات السياسية، والسياقات الحكومية من جهة، وتوقعات الجماهير من جهة ثانية، كبيرة جدا، وبالتالي تقلل فرص التقدم الى الامام مسافات طويلة خلال فترات زمنية قصيرة.
وهنا فأن تقليل الهوه، يتطلب امورا عديدة، منها، ان تكون مختلف القوى والكيانات السياسية، وخصوصا الرئيسية منها والمشاركة في الحكومة، على استعداد حقيقي لتقديم التنازلات، والتخلي عن بعض-ولانقول كل-المواقع التي حصلت عليها وفق مبدأ المحاصصة او حتى الاستحقاق الانتخابي، ومن تلك الامور ايضا، فتح ملفات الفساد، وتقديم كبار المفسدين بصرف النظر على الجهات التي ينتمون اليها لمحاكمات عادلة وشفافة وسريعة، ومنها كذلك اجراء تقليص حقيقي للدرجات الخاصة، كالوزراء والوكلاء والمستشارين والمدراء العامين والقادة الكبار في وزارتي الدفاع والداخلية، واعادة النظر سريعا بالرواتب والحقوق التقاعدية لهؤلاء، وخفض عدد الوزارات والهيئات المستقلة، والتي وجد البعض منها لا لضرورات المصالح العامة، وانما لترضية واسكات هذا الطرف او ذاك.
مثل هذه الخطوات والاجراءات، اذا تمت بوتيرة سريعة، واستنادا لرؤية واضحة ومنهج مدروس، بعيدا عن الحسابات الحزبية الضيقة، فهي يمكن ان تخفف قدر لابأس به من الاحتقانات، وتنزع فتيل الازمات، وتساهم بالتخفيف من وطأة الضغوطات الامنية والاقتصادية على البلاد، على العكس من مطاليب غير واقعية وانفعالية، من قبيل، تشكيل حكومة انقاذ وطني، او حل الحكومة واجراء انتخابات مبكرة، او الغاء الدستور وكل ما ترتب عليه من حقائق ومعطيات على الارض.