قبل ان أخوض في هذا الموضوع دعني عزيزي القاريء ان آخذك في رحلة قصيرة للتعرف على مادة الحمض النووي التي هي اللبنة الاساسية في تشكيل ال DNA واسمها الكامل الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأوكسجين DNA االذي اكتشفه العالم السويسري فريدريك ميشر في عام ١٨٦٩ وفكر بعدها في احتمال وجود علاقة بينها وبين الوراثة . ان الأحماض النووية هي الجزيئات الاساسية الصغيرة للنيوكليوتايد الذي هو مركز الخلية الحية وتستطيع خلق البروتينات والكربوهيدرات والشحميات وهي التي تكون مادة ال DNA التي تشكل الحجر الأساس لوجود الكائنات الحية بأجمعها وهي التي تحمل الشفرة الوراثية التي يتخلق منها الجنين بعد تخصيب البويضة .
انتشر في الأسبوع الأخير على مواقع التواصل الاجتماعي فيلم توثيقي قصير صادر عن مؤسسة راديو بيتنا الإعلامية عنوانه ” رحلة الحمض النووي” . يظهر في الفيلم رجل وامرأة وهما يحاوران مجموعة من الشباب الذين تم اختيارهم على أساس انهم يمثلون طيفا واسعا من تعدد الجنسيات و الأجناس والالوان والاعراق الموجودة في بلدان العالم .
يبدأ البرنامج حين يتكلم بحرية كل واحد من هؤلاء الشباب عن اصله ونسبه حيث تبدأ لا إراديا رحلة الاعتزاز بالوطنية القطرية والقومية… وكديدن البشر دوما يبدأون تدريجيا بإظهار نفورهم من بعض البلدان والجنسيات الاخرى … حيث ترى شابا إنجليزيا يعلن عن عدم محبته للالمان .. وشابة ذات جذور كردية تبدي بغضا للاتراك .. واُخرى تعلن تأكدها من نسبها الفرنسي وعدم محبتها للإنكليز .. و شاب بنغلاديشي لا يحب الهنود والباكستانيين و شاب أيسلندي يرى انه أفضل من الجميع وهكذا على هذا المنوال … ثم يتم الطلب من كل واحد منهم ان يبصق في أنبوب اختبار وذلك لأخذ عينة من احدى خلايا الفم التي تفرز عادة مع اللعاب لغرض فحص مادة ال DNA ورسم احتمالية تتبع الجذور التاريخية لوجود تلك المادة الوراثية المدهشة وتوزعها على مختلف البلدان .
وبعد مضي أسبوعين تم اللقاء مجددا مع هؤلاء الشباب وأعطي كل واحد منهم نتيجة نسبه الوراثي والنسبة المئوية لأصل أجداده كأن يكون ٣٠٪ إنكليزي و ٥٪ ألماني وهكذا… جميعهم عقدت لسانهم الدهشة حينما علموا ان اجدادهم قد أتوا من بلدان عديدة وبضمنها البلدان التي يكرهونها… شاب عراقي اكتشف انه مسلم يهودي حسب جذور شجرته الجينية… بل والاجمل من ذلك ان الخريطة الجينية للشابة الكردية أظهرت ان بعض أسلافها قدموا من تركيا وان الفحص الوراثي اثبت ان لديها قرابة مع الشاب العراقي حيث زغردت فرحة بهذا الاكتشاف البالغ الرقة والذي يجعل المشاهد الذي مازالت لديه بعض الآدمية ان يجتهد كي يمنع دمعة حارة من ان تسيل على الخد فتحفر ساقية فيه.
ان الطبيعة تحبذ دوما ان تتنوع مصادر الجينات كي تكون لها القدرة على اصطفاء صفات جينية أقوى من تلك التي يتم وراثتها من الأبوين السابقين… ولتوضيح هذه النقطة أودّ ان أشير الى دراسة نشرت في الولايات المتحدة في الثمانينات تشير الى ان الأبناء الذين ولدوا من اباء كانوا جنوداً اميركان خدموا في فيتنام واقترنوا من فتيات فيتناميات هؤلاء الأبناء سجلوا معدلات ذكاء اعلى من الأطفال الأميركان الذين ولدوا من أب وأم أمريكية بزواج تقليدي…. لذا فان التعلق والتباهي الأجوف بنقاء النسب قد يعني فيما يعني ضعفا في الجينات وتدنيا في الملكات الفكرية… فلا غرو إذن ان بعض الاعراب الذين يملؤن الدنيا ضجيجا وزهوا بأنفسهم وأنسابهم النقية قد تخلوا عن اللحاق بركب الانسانية الذي يمضي بسرعة مدهشة نحو الامام وهم يسيرون بسرعة صاروخية نحو الخلف .
اما الذين يدعّون بأن نسبهم يمتد الى الأنبياء و الاولياء والصالحين فأقول لهم ان كُنتُم تتمتعون بالخلق القويم وتمارسون فضائل الأخلاق فسبب ذلك ليس الدماء التي تجري في عروقكم والتي تعود الى ذلك النبي او الولي بل لأنكم قد اتخذتم قراراً ان تكونوا أبدا في صف الاخيار والطيبين… اما اذا دعتك نوازع الشر ان تستجيب لها فلا تبرر فعلتك وتلتمس عذرا فيما تفعل مستندا على حصانتك الجينية التي تدعيها لنفسك لانه ببساطة حتى الأنبياء كان لديهم قرابة دم مع بعض الاشرار فمن غير المعقول ان تنسب اصلك انتقائيا نحو ذلك النبي ثم تنكر قرابتك مع بعض الذين ابتلى بهم ذلك النبي بقرابتهم… وأرجو ان تتذكر ان ابا لهب لم يكن سوى احد أعمام الرسول الكريم (ص).
يجب على كل زعيم حزب سياسي او رجل دين يعظ الناس او زعيم مليشيا مسلحة ان يشاهد هذا الفيلم القصير يوميا كي يتذكر ان الناس الذين يدعو الى كراهيتهم او ابادتهم قد يكونوا أقربائه او على الأقل قد تكون بينه وبينهم صلة جينية… هذا الفيلم القصير من شأنه ان يطفأ أشد جمرات التطرّف سعيرا اذا كان في صدر من يشاهده فؤاد ينبض بالحد الأدنى من إمكانية التعايش مع باقي اخوانه البشر.
علينا ان نعيد النظر بالشتيمة العراقية الكلاسيكية ” انعل ابوك يابو اصلك” التي نلجأ اليها تنفيسا لغضبنا بل ويجب ان نشطبها من قاموس شتائمنا العامر لان أصل المشتوم قد يكون متطابقا مع أصل الشاتم حسبما ورد في الفيلم القصير رحلة الحمض النووي .
لا اجد ما اختتم به مقالي هذا سوى الحكمة الرائعة لبوذا التي يقول فيها ” اذا كان معتقدك الديني يدعوك الى كراهية الآخرين فعليك إذن ان تبحث عن معتقد آخر .