23 ديسمبر، 2024 3:11 م

الاسواق المتغيرة.. لعبة الكبار في خفض اسعار النفط

الاسواق المتغيرة.. لعبة الكبار في خفض اسعار النفط

كان الاقتصادي الاميركي جون بيركنز john perkins قد ألقى في كتابه Confessions of an Economic Hit Man اعترافات قرصان اقتصادي، الاغتيال الاقتصادي للأمم، الصادر عام 2004 والذي تربع عرش الكتب الأكثر مبيعاً وترجم إلى ثلاثين لغة أجنبية، الضوء على ممارسات نخبة رجال الاعمال والسياسة في الولايات المتحدة الاميركية لبناء امبراطورية عالمية تسيطر عليها (الكوربورقراطية) Corporatocracy أي حكم منظومة الشركات الكبرى الاميركية المدعومة بالنخب السياسية.

فقد عملت حكومات الولايات المتحدة تاريخياً على استخدام المنظمات الدولية لخلق ظروف تؤدي الى خضوع الدول النامية لهيمنة ثلاثي النخبة الاميركية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك، إذ أن الادارة بالازمات كان من بين أهم الوسائل التي تستخدمها الولايات المتحدة لتمديد تأثيرها على مختلف بلدان العالم من خلال نماذج التنبؤ وأنظمة الاستشعار الاقتصادي Economic sensor systems التي يستعين بها خبرائها لدراسة تأثير سياساتها على المستوى المحلي والعالمي.

ومع الاستهلاك الكبير للاقتصاد الاميركي من النفط الذي يصل الى 20 مليون برميل يومياً وبما يعادل ربع الاستهلاك العالمي من النفط، ومع النمو الشديد لإنتاج النفط غير التقليدي والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، بات النقاش المكثف بشأن تأثير صادرات الطاقة على المستهلكين الأمريكيين، وأمن الطاقة Energy security على صعيد الاقتصاد والسياسة الخارجية مسألة هامة جداً، فلطالما حاولت الولايات المتحدة ضمان أمن الطاقة من خلال ضبط سعر النفط، والتحكم بواردات النفط، وتقييد صادرات النفط، وفي كل مرة، كانت قوى السوق القوية، وزيادة الطلب وانهياره أو الفجوات بين الأسعار الأمريكية والاسعار العالمية مسيطرة على السياسة المعتمدة.

مبادرة أمن الطاقة( The Energy Security Initiative (ESI

تم استحداث مبادرة أمن الطاقة (ESI) منذ عام 2008 في معهد بروكينغز للبحوث والدراسات في واشنطن، وهو من أهم مراكز الابحاث التي تركن الحكومة الاميركية الى استشاراتها في الشؤون السياسية والاقتصادية، يرأس هذه المبادرة الاقتصادي الاميركي جارلس ابينغر Charles K. Ebinger وهو خبير في السياسات النفطية وعمل مستشارا لدى الكثير من دول العالم لشؤون الطاقة، وقد قدمت مبادرة أمن الطاقة تقريراً مهماً الى الادارة الاميركية في شهر تشرين الاول 2014 ورد فيه أن خيارات سياسة الطاقة في الماضي قد شكلت المشهد الاستراتيجي والاقتصادي والبيئي الحالي بطرق سيئة، وان القرارات التي نتخذها اليوم من الممكن ان يكون لها تأثير عميق على قدم المساواة في المجالات الاقتصادية والبيئية وفي المشهد الاستراتيجي في المستقبل، وبالتالي، فإن تحقيق مستقبل أكثر أمنا يتطلب جهدا أكثر تصميما

على فهم عواقب الإجراءات الحالية التي نقوم بها في كل من هذه المجالات وتحويلها إلى وصفات سياسة فعالة.

ويضيف التقرير انه من المنظور الاستراتيجي، نحن نركز على الجغرافيا السياسية للطاقة في عدد من البلدان والمناطق في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط وآسيا ومنطقة القطب الشمالي وروسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، لفهم تقاطع السياسة والطاقة، والمخاطر الأمنية التي تشكلها على الولايات المتحدة، ومن المنظور الاقتصادي، فنحن نركز على احتمالية تعطل امدادات النفط وارتفاع الأسعار وآثارها على الولايات المتحدة وأسواق الطاقة العالمية، اما من المنظور البيئي، فنركز على انبعاثات تغير المناخ وغازات الدفيئة، بما في ذلك دراسة مصادر العرض غير الأحفوري والآثار السياسية والاقتصادية للتكنولوجيات البديلة لمختلف الصناعات والترتيبات الدولية اللازمة لخفض الانبعاثات العالمية.

فقدمت مبادرة (ESI) الفرص الاقتصادية وفرص أمن الطاقة الناتجة عن رفع الحظر عن صادرات النفط الأمريكي الخام، فبينت أن حظر صادرات النفط الخام لا يخدم، ولم يخدم لفترة طويلة، أمن الطاقة الأمريكي، إذ انه بسبب هذه السياسات تحولت الولايات المتحدة من دولة تنعم بفورة مخزون نفطي إلى دولة تعاني نقصاً منه، على الرغم من انها من أكبر الدول المنتجة للنفط، إذ تخطى الإنتاج اليومي الأمريكي مطلع عام 2014 الإنتاج اليومي لكل من المملكة العربية السعودية وروسيا، ومع استمرار الازدهار، من المحتمل أن تتربع الولايات المتحدة نهاية عام 2014 على المركز الأول لإنتاج النفط على مستوى العالم.

ففي عام 2014 أنتجت الولايات المتحدة 7.44 مليون برميل من النفط الخام يوميًا وهو أعلى مستوى لها منذ 1989 ويزيد بنسبة 49% عن مستوى الانتاج في عام 2008، وعند احتساب الوقود السائل المنتج من الغاز الطبيعي، يصل الإنتاج الأمريكي إلى حوالي 11 مليون برميل يوميا مطلع عام 2015.

فطوال العقد الماضي، وعلى الرغم من التطورات التكنولوجية الكبيرة التي انفقت عليها الولايات المتحدة مليارات الدولارات مثل تقنية رصد الزلازل الثلاثية والرباعية الأبعاد، والحفر الأفقي، وتكسير النفط غير التقليدي والغاز الطبيعي، الا ان النفط المستورد بقي سيد الموقف وظلت الجدوى الاقتصادية لهذه الانواع منخفضة نتيجة ارتفاع كلف استخراجها مقارنة باسعار النفط العالمية.

ان إحدى المسائل المهمة التي برزت للنقاش اليوم في ظل تقرير مبادرة امن الطاقة هي متى سينتهي الحظر الحكومي عن صادرات النفط الخام الاميركية الذي أقر في قانون سياسات حفظ الطاقة الصادر في العام 1975، فقد أوصى التقرير أن تعيد الولايات المتحدة النظر في سياستها للطاقة وأن تحدثها من خلال رفع الحظر عن صادرات النفط الخام بشكلٍ كامل وفوري، فوفقاً الى نماذج الاقتصاد الكلي للاقتصاد الأمريكي وأبحاث سوق النفط العالمي أنه كلما كانت

صادرات الولايات المتحدة من النفط الخام أكبر، زادت المكاسب الاقتصادية ومكاسب أمن الطاقة.

إنّ رفع الحظر عن تصدير النفط الاميركي يعني السماح للمنتجين الأمريكيين بالاتصال بإشارات السعر العالمي الامر الذي سيولّد توسعاً في إنتاج النفط الأمريكي، مما سيؤمن الاكتفاء الذاتي من النفط الخفيف، وهو بالتاكيد سيؤدي الى تخفض أسعار النفط العالمية.

إذن هذه الاخبار غير السارة الاتية من أكبر مستورد عالمي للنفط عززت التوقعات Expectations بانخفاض الطلب العالمي على النفط، اضافة الى انخفاض الطلب عليه اصلاً من قبل كل من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والصين واليابان الذين يستهلكون بحدود 47.6 مليون برميل يومياً وهو مايشكل بحدود 60% من الطلب العالمي على النفط بسبب ازمة الركود العالمي التي خيمت على هذه الاقتصادات مطلع العام 2014، مع الملاحظ ان في كل مرة تنخفض فيها اسعار النفط يقوم المنتجين بتخفيض العرض الامر الذي يؤدي الى عودة الاسعار الى الارتفاع مره اخرى لتصل الى اسعارها قبل الانخفاض، ولكن في هذه المرة ظهرت نتائج اجتماعات الاوبك بدون تخفيض مستوى الانتاج مما زاد الطين بله.

وكان للاخبار التي نُشرت عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية والمتعلقة بمخزون النفط الاميركي اثراً على اسعار النفط، التي أكدت زيادته بمعدل 5 مليون برميل لمخزون النفط الخام التجاري الأميركي الإجمالي البالغ 361.7 مليون برميل، فيما اورد معهد النفط الأميركي زيادة مشابهة في مخزون النفط الخام بقيمة 5.1 مليون برميل.

ومن الطبيعي ان الدول المنتجة للنفط ستقوم بزيادة انتاجها من النفط لتعويض الفجوة في موازناتها، الامر الذي يزيد الامور سوءاً ويؤدي الى المزيد من الانخفاضات في الاسعار العالمية للنفط، ومن غير المستبعد ان تعم فوضى نفطية لغاية وصول الاسعار الى مستوى 50 دولاراً للبرميل اذا ماسادت اجواء عدم الاتفاق بين الدول المنتجة لتوحيد سياساتها النفطية لمواجهة خطر قد يكون أكثر فتكاً من خطر داعش.