حدثني احد قضاة تحقيق النزاهة بان دعوى حركت عنده ضد مدير عام بتهمة ابرامه عقد بطريقة مخالفة للقانون ، فتبين بالتحقيق الاداري بان العقد صحيح وان شخص اخر هو من ابرمه ، وليس المدير العام المتهم ، فقرر القاضي اغلاق الدعوى بدون استدعاء المدير العام كمتهم لعدم وجود جريمة اصلا ، فنقضت محكمة الجنايات القرار بحجة وجوب استدعاء المدير العام كمتهم ، ووجوب الاستعانة بجهة غير الادارة للتحقق من صحة العقد ، فاستعان القاضي بقسم التدقيق في هيئة النزاهة ، فانتهى الى صحة العقد وان المدير العام منقطع الصلة بالعقد ، فاصدر قاضي التحقيق قرارا باستقدام المدير العام ، دون ان ينفذه ، وعرض القضية على لجنة العفو فقررت اللجنة شمول القضية بالعفو العام رقم 19 لسنة 2008 ، الا ان محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية نقضت القرار وامرت بوجوب جلب المدير العام المسكين كمتهم قبل شمول الدعوى بالعفو ، فاضطر الى جلبه كمتهم رغم انه مقطوع بانقطاع صلته بالعقد .
وكان قاضي النزاهة قد اصدر امر بالقبض ضد مفتش عام احد الوزارات دون ان ينسب اليه فعلا حقيقا كجريمة وابقاه موقوفا لاكثر من شهر وبقي موقوفا خلال العيد ، واحيل لمحاكمته امام محكمة الجنايات والتي ابقته موقوفا بسبب الضغوط التي مورست ضدها ، لكنها افرجت عنه لعدم امكانية الحكم عليه لعدم وجود اي شئ يمكن ان ينسب اليه كمتهم ، سوى استهدافه من جهات معينة نافذة ، فنقل قضاة الجنايات في اليوم التالي الى محاكم ادنى . وحينما سأل قاضي التحقيق عن سبب ابقاءه الرجل موقوفا رغم برائته فاجاب لو اطلقت سراحه لنقلت الى تلعفر .
واستقدم هذا الاسبوع مفتش عام مستهدف اخر ، بتهمة انه كلف سائقه بلجنة ترقيات رغم ان المقصود ليس بسائق بل معاون محاسب وهذا موجود امام المحكمة بالوثائق ، كما استقدم الرجل بدعوى اخرى لان معاونه ارتكب جريمة ما ، فهل هذا معقول ، فهل يلاحق شخص عن فعل غيره ؟؟؟؟؟
عموما ان القضاء العراقي له موقف – انتقده انا بشده – حول استدعاءه الناس كمتهمين بطريقة لا ابالية بسبب وبدون سبب ، بلا ادلة ، وبلا افعال يمكن عدها جرائم ، وبدون التحقق من وجود جرائم اصلا ، بحجة وجوبية استدعاء المتهمين في كل القضايا التي تحرك امام قاضي التحقيق .
لكن هذا النهج لا يشمل – في الحقيقة – سوى الفقراء وغير المحميين من السلطة واصحاب النفوذ والتأثير ، فهؤلاء تنقلب القاعدة بشأنهم اذ يغلق القضاء دعواهم ولو كانت افعالهم جرائم لا شك في تكييفها او وصفها ، ويغلقها بدون استدعائهم ولو كانت الادلة ظاهرة القوة ، والسبب معروف ، وساقوله بطريقة ملطفة …. هو ان القضاء لا تتعادل قوته كسلطة مع القوى الرسمية وغير الرسمية التي تحكم البلاد من الناحية الفعلية .
وخير مثال ما حصل في غلق قضية صفقة الاسلحة الروسية ، فكيف اغلقت هذه القضية بدون استدعاء المتهمين وهي جريمة رشوة لا شك في وصفها القانوني ، وتوفرت عنها ادلة ، يكفي ما تناقله الاعلام منها ليس لاستدعاء المتهمين فقط ، بل تكفي لاحالتهم على المحاكمة .
فكيف اغلقت تلك القضية دون استدعاء المتهمين ، على خلاف ما تعود عليه القضاء الجزائي العراقي من بهذلت الناس باستدعائهم كمتهمين بسبب وبدون سبب ، حتى استقر العرف القضائي بعدم جواز غلق القضايا بدون تدوين اقوال المتهمين ، بل وتطور هذا العرف مؤخرا الى التوجه الى عدم غلق الدعاوى لو لم تكن جرائم الا باحالة المتهم الى محاكم الموضوع ، ووضعه في قفص الاتهام مثلما وقع في قضية المفتش العام التي ذكرناها انفا الذي اوقف لاكثر من شهر دون ان ينسب اليه فعل مجرم ، حتى تمت محاكمته امام الجنايات وهو موقوف ، وبقضايا كثيرة اخرى .
فما هو تفسير غلق قضية الصفقة الروسية بدون استدعاء المتهمين على خلاف ما استقر عليه القضاء العراقي ؟؟
وما هو تفسير عدم استدعاء المتهمين في قضية توفرت فيها ادلة ، لا يمكن لاحد ان يدعي انها لا تكفي قطعا لاستدعاء المتهمين ، بل تكفي – برائيي – لاحالتهم على المحاكمة ؟
وبودي ان اعرف هل تحركت الجهات التحقيقية لطلب المعلومات والتعاون مع الجانب الروسي لطلب ما لديهم من ادلة وهي من تدعي تطبيق اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد؟ وساجيب جازما بانهم لم يفعلوا ، ولن يفعلوا .
انا اعرف تماما حجم الضغوط والتهديدات والظروف المعقدة والصعبة التي يعمل تحتها القضاة في العراق والتي تجبرهم لان يتورطوا باصدار مثل قرار غلق فضيحة الرشوة في الصفقة الروسية ، لكني اسأل هنا من هو المسؤول عن وضع القضاة بتلك الظروف وتحت تلك التحديات والضغوط والتهديدات ؟ ومن هو المسؤول عن توفير الحماية الفعلية لهم ليتمكنوا من انصاف انفسهم وانصاف الناس وبناء دولة القانون التي يؤمنون بها ؟