الرؤية التي يراها المسلمون للعلوم الطبيعية تختلف ، فمنهم من يقصر العلم على المباحث الدينية ، بينما يعممه اخرون أمثال صدر الدين الشيرازي الى جميع المجالات الانسانية حيث يراه مفهوماً تشكيكياً .
ويتمثل معيار العلم المطلوب اسلامياً في كونه مفيداً ، ويكمن معيار الفائدة في الهداية الى الله والتأدية الى رضوانه ، ولا فرق على هذا المستوى بين العلوم الدينية الخاصة وعلوم الطبيعة ، ويمكن ان نحدد سعة مفهوم العلم في الاسلام من الأحاديث الشريفة نظير ” اطلبوا العلم ولو في الصين ” ، ” العلم ضالة المؤمن فَخُذُوه ولو في أيدي المشركين ” . ومن البديهي ان هذه الأخبار لم تلاحظ خصوص المعارف الدينية المحددة ، اذ لا شك في ان الرسول ” ص ” لم يكن ينتظر ان نجد العلوم الدينية في الصين .
وتمسكاً من المفكرين الإسلاميين بمبدأ الارتباط بين عالمي الدنيا والاخرة فهم يَرَوْن حديث علي بن ابي طالب عليه السلام ( ثمرة العلم العبادة ) منهجاً يجب اعتماده في تقييم العلوم المختلفة ، فكل علم يؤدي بصاحبه او المجتمع الى الفساد غير مرغوب فيه مهما كان . فيما يرى أمثال سيد قطب ان العلم الذي يريده القران ليس محدداً باطار واحد ، لكنّه كل علم نافع للبشرية في الدارين معاً ، وبذلك لابد من الإقرار بالأساس الميتافيزيقي للعلم .
لذلك ليس هناك في الاسلام علم مرفوض لذاته ، بل يتم التعامل معه على أساس الواقع الذي ينتجه ومدى علاقته بالحياة المادية والروحية للإنسان ، بمعنى انه قد يُرفض لظروف طارئة .
كما ان الوحي لم يكن يوماً مصدراً وحيداً للمعرفة في الاسلام ، بل يمكن للتجربة والاستقراء والمشاهدة ان تكون مصادراً مقبولة ومحترمة في المنظومة المعرفية الاسلامية . ولانّ المسلمين اعتقدوا ان العلوم الطبيعية المختلفة تعين الانسان على فهم الآيات الآفاقية والأنفسية التي تقود لمعرفة الله فقد اهتموا بها كثيراً في عصر الازدهار الحضاري لهم . من هنا ليست هناك – حسب الرؤية الاسلامية – علوماً دينية وغير دينية ، بل تسير العلوم الطبيعية في طول العلوم الدينية ، وتكون متممة لها .
ان فكرة التوحيد المحورية في الاسلام جعلت العلماء المسلمين يبحثون في الظواهر الطبيعية لإثبات عودة الكثرة الى الوحدة ، وهو الامر الذي عزّزته الدعوة القرآنية لدراسة تلك الظواهر كطريق لمعرفة الله من خلال الاثار ، لا سيما حين اعتبر علماء كبار – مثل البيروني صاحب التركة الكبيرة في العلوم الطبيعية – ان هذه المعرفة الطبيعية نوع من انواع العبادة التي تقرّب من الله ، فيما رأى الأئمة المعصومون القائمون على تبليغ الرسالة السماوية ان ( التفكّر ) من ارقى صور العبادة .
وفي ” رؤية الاسلام للكون والطبيعة ” يمكننا ان نجمل الغايات التي يريدها القران الكريم من دراسة ظواهر الطبيعة او ما يمكن ان نسميها بواعث العلم التجريبي الفكري في الاسلام بمجموعة عناوين : مبدأ الأشياء او بدايتها ، النظام والانسجام بين اجزاء الخلق ، هدفيَّة الطبيعة وغائيتها ، أهمية الانسان وتسخير الطبيعة له وتحذيره من إفسادها ، التدليل على إمكانية البعث والنشور من خلال معرفة خلقية كل ما في الكون ، التدليل على وحدة الخالق من خلال معرفة الوحدة الغير منظورة التي تربط اجزاء هذا الكون وهو من المباحث الحديثة والعظيمة القائمة حالياً .
لاقى البحث حول الوحدة لدى الفيزيائيين الذين تأثروا بعقيدة التوحيد تأييداً شديداً ، بل وحتى من قبل أندريه لينديه عالم الفلك المعاصر الذي لا يعتقد بوجود الله ، حيث يقول : ” ان علم الفلك الحديث متأثر بشدة بعقيدة التوحيد الغربية … ان الفكرة التي تقرر إمكانية تقديم فهم نهائي للكون عبر نظرية للأشياء كلها نشأت عن الاعتقاد بالإله الواحد ” . وهذه الصورة الوحدوية هي التي سعى نيوتن لإثباتها للأجرام السماوية .
ان العلاقة بين العلم والميتافيزيقيا تعاني إشكالاً بنائياً ، بمعنى هل هناك من أساس مشترك بينهما ، ام هل هما كيان معرفي واحد ، ام لا حاجة لاجتماعهما معاً ؟ هذه التساؤلات يجيب عليها بعض الباحثين الإسلاميين المتخصصين في المجالات الطبيعية بطرحه لأربعة استفهامات ومناقشتها . فهو يتساءل عن ماهية العلاقة بين العلم والدين في الاسلام ، ويرى أساساً مشتركاً بينهما ، حيث يهدفان معاً لإيصال الانسان الى الله ومعرفته من خلال اثاره الظاهرة ، كما ان الميتافيزيقيا توجد الحافز الدافع للمعرفة الطبيعية من خلال الحث القرآني لدراسة الآيات الإلهية ، وكذلك يمكن للدين توظيف الجهد العلمي فيما لا يتسبب بالخراب والدمار .
امّا ماهية المصادر المتداولة للمعرفة الطبيعية التي يقر بها القران الكريم كخاتم للكتب السماوية فتتلخص في ثلاثة : المعطيات الحسية ، والتأمل والتدبر ، والشهود الروحي . والأخير لا يتوفر لأي إنسان إنما هو مصدر معرفي مباشر للحقائق الكونية يحظى به من له القابلية المناسبة كالأنبياء بواسطة الوحي او العلماء بواسطة الإلهام .
وعن استيعاب سائر جوانب الكون بواسطة النظريات العلمية السائدة فنخالف الاتجاهات الوضعية والبراغماتية وذات النزعة العملية التي تجعل من الحس مصدراً وحيداً للمعرفة ، حيث نرى ان الحس لا يمكن له ان يكون طريقاً فريداً لنيل المعارف ، كما ان المعرفة الحسية تعاني اشكالية الحدود التي يستطيع الحس بلوغها ، الذي لا يستطيع ان يساعد البشر في الولوج الى عالم الماورائيات والظواهر غير المحسوسة التي لابد من تكوين تصورات ورؤى عنها . ففي الوقت الذي تتعامل فيه المعرفة الاسلامية مع الطبيعة كجزء من حقيقة أوسع رأى بعض الباحثين الماديين ان العلم – الفيزياء او الكيمياء – يستطيع ان يفسّر جميع مظاهر الكون ، وهو الامر الذي خالفه مجموعة من الباحثين المعاصرين أمثال جراح الاعصاب الكندي ( ويلدر بنفايلد ) وعالم الأحياء الانجليزي ( إيكلس ) والفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل ( ويغنر ) الذين يَرَوْن ان العقل والحياة حقائق خارج نطاق التفسير العلمي او التطوري حالياً ، فيما يقول المتخصص في المنطق الرياضي ( كورت غودل ) : ( انني لا اعتقد ان الدماغ الإنساني قد تكوّن بطريقة داروينية ، وان ذلك في الواقع أمر قابل للرفض … وتمثل الطاقة الحياتية عنصراً أولياً في تشكيل الكون وهي تتبع بعض قوانين الفعل ورد الفعل ، وهذه ليست بالقوانين الساذجة ) .
ورغم النجاحات التي حققها العلم في القرنين الاخيرين الّا ان سؤال ( هل يتولى العلم بمفرده تفسير الكون ؟ ) لا زال قائماً ، فهو يواجه جملة من الاشكالات المعاصرة ، فقد تم التشكيك اخيراً بقدرة العلم على اجابة الأسئلة الكبرى او النهائية التي يتم طرحها من قبيل الحياة وبداية الخلق ومادته ولماذا نحن هنا وغيرها ، وهناك أسئلة ترتبط بشؤون العلم الخاصة لكنها تُبحث خارجه مثل ما هو مصدر قوانين الفيزياء و لماذا تقع قوانين الطبيعة في دائرة إدراكنا ، وما هو السبب في وجود عالم تسوده تلك القوانين من حيث الضرورة . ان مبادئ العلم يجب بحثها خارجه ، وهنا يرى الاسلام ان العقول خُلقت مع الكون لذلك هي منسجمة معه .
كما ان من الاشكالات ايضاً اننا نتعامل مع العلم والكون وفق فرضيات قَبْلية لا بأذهان خالية مجردة ، لذلك فالمعطيات تكون مسبوقة بالفكرة البشرية . وكذلك فالتجربة الحسية لا تنتج النظرية العلمية الّا بعد استخدام القدرة العقلية الخارجة عن دائرة التجربة ذاتها في إيجاد العلاقة العلّية بين الظواهر الطبيعية ، لان العلم وصفي فقط لا استنتاجي . ومثال ذلك اننا نستخدم توصيفات فرضية ونعطيها قيمة علمية مثل ( الكوارك ) . بل ان مبادئ العلم الاساسية – كعلمية وصحة النتائج التجريبية – هي احكام وفرضيات عقلية خارج العلم . وايضاً يمكننا ان نضع ما قاله ( ماكس بورن ) من ” ان تعميمه في مجال الذرة كان فلسفياً اكثر منه فيزيائياً ” إشكالاً آخراً . فيما ان عملية الوثوق بالعلم تحتاج الى ما هو خارجه أساساً لها .
كما تعرضت بعض مبادئ العلم الحديث العقلية الى جدل وطرح البدائل لها ، فالتطورات العلمية البحثية خلقت تيّارات تنتقد الرؤية الميكانيكية للعالم ، فيما دعت الأزمات البيئية الى إيجاد علاقة مناسبة بين الانسان والطبيعة والتقنية ، وراح مؤرخو العلم يعيدون النظر في المستوى العلمي والعلاقة الدينية العلمية للأمم السابقة ، امّا اهم الجدليات فهي الناشئة عن التيار الذي ينظر للكون بمنحى شمولي ويتوقع وجود ما لا نعرفه من الحقائق والمبادئ الحاكمة في الطبيعة .
ومع ازدياد التطور العلمي يتم الاقتناع اكثر ان العلم غير قادر على تفسير الكثير من الظواهر والعلاقات داخله ، لذلك يرى اليوم الكثير من الباحثين انه يحتاج الى رؤى – من خارجه – لتُتم الصورة المعرفية له .
ان العلم في الاسلام يرتبط بالميتافيزيقيا ويستند الى أساس قيمي حسب الرؤية القرآنية ، وبذلك فللبحث العلمي ضمن الإطار الاسلامي خصائص، منها : التطابق مع مبادئ الوحي والهداية لله والوحدوية ، الانسجام بين اجزاء الكون والرؤية التكاملية التي تجمع بين المادية والماورائية كنسيج واحد ، الغائية ، اخضاع العلم لرؤية شمولية ، البحث في العلل والاسباب غير الحسية او غير المادية ، تعدد مستويات المعرفة ، تناولها العلوم الانسانية غير التطبيقية بعيداً عن منهج المادية او المكننة .
ان اعتماد العلوم الانسانية على منهج العلوم الحديثة ، بدراستها للإنسان كمادة شبيهة بالآلة الميكانيكية ، جعلها عمياء عما يتجاوز ما خلف تلك المادة من روح وعقل ، لذلك تعاني البشرية اليوم نتائج تلك الأخطاء الفرضية ، فتتراجع يومياً عما التزمته من رؤية في المجالات الاجتماعية والنفسية او السياسية او غيرها . والعلم ذاته يشبهه السير ( آرثر أدينغتون ) ب ” شبكة الصيد التي حين يكون حجم ثقوبها ثلاثة سنتيمترات فلا يمكن لنا التوقع ان نرى صيداً بحجم اصغر من هذه الثقوب ” .