18 ديسمبر، 2024 7:37 م

الاســــلام … ليـــــس حـــلاًّ

الاســــلام … ليـــــس حـــلاًّ

بالرغم من أن مفردة (الاسلام) واحدة ، ولكن ، كان للمسلمين الأوائل والمتأخرين شرف إزاحتها عن معناها (الدقيق) الذي ورد في القرآن الكريم ، وأصبحت استخداماتها تدل على موارد (ثلاثة) ، وهي حسب تسلسلها الزمني :-

أولاً / الاسلام (القرآني) / بمعناه (العالمي) الذي ورد في كتاب الله ، والذي يشمل الرسالات والشرائع السماوية التي ابتدأت بنوح (عليه السلام) ، وانتهت بخاتم النبيين والرسل محمد (صلى الله عليه وآله) .

ثانياً / الاسلام (الاصطلاحي) / بمعناه المحدود ، الذي إكتمل وارتضاه الله لأتباع الشريعة المحمدية في حجة الوداع ، وهو الذي احتكره أتباع الشريعة المحمدية لأنفسهم دون مبرر ، وجعلوه حصراً على (الذين آمنوا) برسالة محمد (صلى الله عليه وآله) .

ثالثاً / الاسلام (السياسي) / بمعناه (المعاصر) ، الذي أنتجه لنا الفكر البشري في مراحل ما بعد السقيفة ، والذي صاغ مفرداته أتباع الشريعة المحمدية بناءً على تطورات (السياسة) ، ومتطلبات السلطة ، والرغبات الشخصية ، بآليات الوضع والدس والتحريف .

والموضوع هنا ليس معنياً بالاسلام (الأول والثاني) ، لأن هذين المفهومين قد اندثرا في الفكر (الاسلامي المحمدي) منذ البدايات الأولى للاسلام والمسلمين ، ومنذ أول تصدٍ واضح لرغبات الأشخاص بإزاء رغبة ورأي الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ومع أول خرق لوصاياه ، بل تطور الوضع إلى انبثاق (معارضة إسلامية) بإزاء من يعتمد الاسلامين بمعناهما (الأول والثاني) ، ولذا ، فالذي يعنينا هو (الاسلام) بمعناه (الثالث) المطروح على الساحة ، والذي يحرك التوجهات والأمزجة في العالم الاسلامي (المعاصر) .

لقد أثبت العرب والمسلمون الأوائل (ذكائهم) السياسي ، حين حصروا (الاسلام) بالشريعة المحمدية ، متخذين من آيتين في سورة (آل عمران) من كتاب الله منطلقاً لهذا الفهم ، وهما آية (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) وآية (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، معتبرين أن الله سبحانه وتعالى قد جعل (الاسلام) هدية (خالصة) لأتباع الشريعة المحمدية ، في مساوقة مع مفهوم (شعب الله المختار) ، واعتبروا قول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة :- (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا) ، أحقية حصرية لهم في (خلافة الله في الأرض) ، وامتلاكهم (الحق الإلهي) في (الغزو) ، و (الفتوحات) ، و (السبي) و (الأسرى) ، وأخذ (الجزية) والاعتداء على حرمات وممتلكات الآمنين في البلدان البعيدة ، ومعاملة بقية (المسلمين من أتباع الشرائع الأخرى) على إنهم مواطنون من (الدرجة الثالثة) ، واعتبارهم (كافرين) ومشركين ، وإن مجرد إبقائهم (أحياء) فهو (مِنـّـة) تستحق الشكر والعرفان .

إن أول بوادر الخطأ والخطيئة بدأت حين أضاف (المسلمون) ركناً ثالثاً لإسلامهم المحتكر ، فقد جعلوا (الايمان بالرسول) ركناً من أركان الاسلام ، وهو خلاف ما جاء في كتاب الله سبحانه ، والذي يعتبره المسلمون (دستورهم) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه (ظاهراً) ، والذي جاء فيه بأكثر من آية ، إن أركان الاسلام هي ثلاثة ، (الأيمان بالله) و (الايمان باليوم الآخر) و (العمل الصالح) ، بدلالة الآية الكريمة من سورة البقرة :- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) .

ومن خلال الآيتين السابقتين في سورة آل عمران (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) نصب أتباع الشريعة المحمدية أنفسهم قضاة وشهوداً وسلطة تشريعية وتنفيذية (قسرية) على العالمين ، وحكاماً على معتقدات الناس ، متناسين إن الحكم في معتقدات الناس هو الله سبحانه ، وهذا ما نص عليه القرآن ، في سورة الحج :- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، فضلاً عن قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة :- (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ، وهي تكفي لدحض مزاعم الدين السياسي والمتطرف جملة وتفصيلاً .

***** ***** ***** *****

لقد أبتلي الاسلام المحمدي بوجود مؤامرات وأجندات (إسرائيلية) يتزعمها شرذمة من (المندسين) أمثال (كعب الأحبار) وكثير أمثاله ، وكذلك الأجندات والمؤامرات (البيزنطية) التي اضطلع بها الحاقدون من الطلقاء أمثال (معاوية وأبيـه) الذين لم يتسن لهم نسيان (ثاراتهم) من محمد (صلى الله عليه وآله) ، لأنّـه سفّه وضاعة أحلامهم ، وكسر طغيان شوكتهم ، وأذل تجبر عزيزهم ، وأهرق دمائهم ، واستأصل شأفة الكفر والطغيان والرذيلة بينهم ، وقتل الجبابرة والضالين المضلين من آبائهم وإخوانهم وأخوالهم وأعمامهم ، وقوّض إمبراطورية (الدعارة) والخسة و (وأد البنات) في عرصاتهم ، وكذلك ابتلي الاسلام يشرذمة من المنافقين الذين قصمت عدالة وانسانية الاسلام ظهور مصالحهم ، وأنهت ديكتاتورياتهم ، أمثال (عبد الله بن أبي بن سلول) .

إن آلهة هؤلاء (الشرذمة) من المندسين والحاقدين والمنافقين لم تكن لترضى بالهزيمة أمام (إله محمد) ، ولكنها آثرت الكمون والاستتار والمراقبة والسكون ، بانتظار الفرصة السانحة للانقضاض على الفضيلة ، وتقويض دعائم الدين على حين غفلة من حراس الشريعة ، أو انشغالهم ، أو (استضعافهم) ، أو تغييـــبهم ، لتنفس فيها عن الحقد والضغينة بين الفينة والفينة ، بانتظار وصول (أدواتها البشرية) إلى السلطة ، فكانت تحرك هذه الأدوات من أجل تحريف وتزييف الدين ، عبر وضع الأحاديث والمرويات بآليات حرّيفة وبتقنيات عالية ، مستغلة بذلك فترة (حظر ومنع) كتابة الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأسباب لا يعلمها إلاّ الله ، ومَن مَنَعْ ، وشيئاً فشيئاً تمكنت من النجاح ، حتى أصبح (أعداء الاسلام) وأتباعهم ، هم (قادته ، وأمراءه ، وملوكه ، وأئمته) ، وهم كتبة تأريخه وموروثه وتراثه .

لقد كانت هذه الشرذمة تعي تماماً أنها لا تستطيع (التحرش) بكتاب الله ، أو تحريفه ، أو دس الزيادة فيه ، أو حذف شئ منه ، لأن الكتاب (مجموع ومرتب) بالشكل الذي نجده حالياً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وليس في زمن (عثمان بن عفان) كما زعموا ، لأن الرسول الأعظم ما كان له أن يترك معجزته ودستور البشرية من بعده دون جمع وترتيب ، بدلالة قول الله سبحانه وتعالى في سورة القيامة :- (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ*) ، ولذلك فأقصى ما استطاعوه في تجريح كتاب الله ، هو :-

1/ زعمهم – أولاً – بأن القرآن قد (جمع) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لإثارة الشك في نفوس المسلمين ، وتهيئة الوعي الجمعي لقبول إمكانية ضياع بعض آيات القرآن ، أو نسيانها ، أو نقلها بالمعنى ، أو الانزياح نحو نظرية (المؤامرة) والتشكيك بالغايات التي أدت إلى جمع وتسلسل سور وآيات القرآن بهذا الشكل .

2/ بعد انتهاء مرحلة توطيد وتوكيد (خرافة) جمع القرآن على عهد عثمان بن عفان ، قاموا بوضع الروايات التي تشير إلى نقص القرأن ، وتحريفه ، واختلاف (السلف) في إدراج أو منع إدراج بعض الآيات ضمن الكتاب ، كآية (الشيخ والشيخة) و (الرضعات العشر) ، ومهزلة (أكل الداجن) لبعض الآيات .

3/ ثم قاموا بعدها بــ (تحريف) القرآن من خلال (تفسيره) ، ووضع روايات لأسباب (النزول) لتشتيت الوعي لدى المتلقي عن المراد الحقيقي من الآيات ، وإضفاء صفات (العلم المطلق) بالقرآن – قراءة وتفسيراً وتأويلاً ونزولاً – لدى بعض الصحابة ، كي يسهل إلصاق الروايات بهم ، واعتبارها من المسلمات ، أمثال (عبد الله بن عباس) الذي كانوا يسمونه (حبر الأمة الأعظم) .

ولم تنته المؤامرة عند هذا الحد ، بل كان المجال الأكبر لهذه الشرذمة هو (الدس) في الروايات الواردة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، عبر ما يلي :-

1/ وضع الروايات التي من شأنها الاساءة والتشكيك برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وزعزعة إحترام المسلمين لنبيهم ، وإحراجهم أمام الروايات الكثيرة والمخزية ، والمناقضة لكتاب الله والفطرة السليمة ، والمخالفة لسيرة وأخلاق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) التي اختصرها رب العالمين سبحانه بآية من سورة القلم حين قال سبحانه :- (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، ونجد أمثال هذه الروايات في اتهام الرسول (صلى الله عليه وآله) بالانتحار مراراً وتكراراً ، أو اتهامه بأنه (مسحور) أو غيرها من الروايات التي ما زالت (مقدسة) عند المسلمين .

2/ وفي الوقت الذي يصف فيه الله الغاية من أرسال رسوله (صلى الله عليه وآله) في سورة الأنبياء ، بقوله :- (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ، يأتي تافه من توافه المسلمين برواية وضيعة ، يدّعي فيها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال :- (لقد جئتكم بالذبح) ، أو :- (بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بالسَّيْفِ) ، أو (جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي) ، أو (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ، كل هذا لكي (ينفروا) الناس من رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جهة ، ولكي يبرروا للسلطة (قتل الناس) ، وغزوهم في بيوتهم ، وسلب أموالهم ، وهتك حرماتهم في ما يسمى بالفتوحات ، تحت ذريعة نشر الاسلام .

3/ وضع الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، والتي من شأنها أن تخلق من (النكرات) والمجرمين والارهابيين (نماذج) إسلامية مقدسة ، ووضعهم بإزاء الأنموذج الاسلامي الحقيقي ، لتضييع الحقيقة على المتلقي ، ونفي (التميز) عن (القدوة والأسوة) الحسنة .

4/ منع ومطاردة وتغييب أيـّـة رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تشير المسلمين إلى أهل الحق ، وبذل الجهد في تأويلها وتفسيرها ، وإزاحتها عن معناها الأصلي ، ووضع الروايات المناقضة لها ، لتسهيل قيادة الأمة ، وتبرير تصدي البعض للسلطة ، كالطلقاء وأولاد الطلقاء مثلاً .

5/ الدين السياسي (السلطوي – الاسلاموي) كان على المحك مع بعض الناقمين على تصرفات السلطة المخالفة للدين والشريعة والفطرة السليمة ، ولذا ، كانت السلطة بحاجة إلى حديث أو مروية تكبح جماح (الثورة) ضد الفساد ، فجاءوا بحديث (يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ، وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ ، قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ ، وَأُخِذَ مَالُكَ ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ) والذي أرسى قواعد الذل والخنوع والخضوع ، ودرجت عليه الأمة زمناً طويلاً ، وجاء أهل الدراية لنقض هذا الحديث بعد أن رسخ هذا الحديث في الوعي الجمعي الاسلامي ، وبعد أن اقتضت الحاجة إلى (الثورة) لدى عبيد الرواية أنفسهم .

***** ***** ***** *****

لقد كان الحكام والملوك المسلمون بحاجة ماسة إلى (حديث) يوطد لهم ملكهم ، ويبرر لهم قتل (المسلمين) بذريعة دينية ، فحاء الحديث المزعوم :- (من بدّل دينه فاقتلوه) ، رغم أنف عشرات الآيات القرآنية التي تعطي للانسان (حرية المعتقد) ، فكان وعاظ السلاطين على أهبة الاستعداد لالصاق تهم (الزندقة) و (الردة) بمن يخالف عروش أولياء نعمتهم ، أو ينتقد تصرفاتهم ، أو يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر .

ومن هذا الحديث الموضوع والمزعوم ، جاء نشاط الفقهاء للعمل على تنشأة ثقافة (التكفير) ، وذبح المرتد ، وقتل المبتدع ، وانتشرت الجرائم ضد الانسانية بذرائع دينية ، وأصبحت فتاوى الفقهاء (حجة) بنفس مقدار حجية القرآن والسنة النبوية ، بل أصبحت حجية فتوى الفقيه أقوى من حجية القرآن والسنة ، بسبب انتشار (الصنمية) ، والثقافة السمعية ، وقمع السلطة ، وسياسة التجهيل والاستحمار .

لقد وضع المسلمون كتب الصحاح والكتب المعتبرة والتفاسير المعتمدة وصحة السند يإزاء كتاب الله ، وجعلوا (العقل) في المرتبة الثالثة بين مصادر التشريع ، ضاربين عرض الجدار حقيقة أن (العقل) هو الحاكم على تفكيك وفهم النص ومطابقته للواقع ، سواءً كان قرآناً أو سنة نبوية ، ولذلك وقعوا في مطب (عدم التفريق) بين السنّة المحكية ، والسنة الواقعية ، وألصقوا (الحجية) بالسُنّتين ، ومنحوا السنة النبوية صفة (الثبوت) وعدم التغيير ، فألغوا وظيفة العقل ، ما جعل بعضهم ينحى في (الاجتهاد) منحى الاجترار لما قاله أو فعله أو فهمه الأولون .

كانت السلطة بحاجة إلى أحاديث ومرويات تطرد وتمنع من خلالها (الشعب) عن الوصول الى العروش ، أو لتبرر لنفسها القيام بالأعمال التي توطد الحكم أو تستلبه ، فجائت الروايات والتفسيرات على وفق ذلك ، حتى لو كانت مسيئة أو مخالفة لسيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، أو مخالفة لكتاب الله ، ولذلك يقول (الصادق النيهوم) بهذا الصدد :- (إن الدين الذي ورثناه عن أسلافنا ، هو ليس الدين الذي بشر به القرآن) .

فالدس ، والاحقاد ، والفهم القاصر الخاطئ والمخطئ ، وضرورات السياسة والسلطة وغيرها من المنطلقات ، هي التي حرفت الدين وغيرت مساره ، وأنتجت منظومة روائية (فكرية) وعقائدية وفقهية لا علاقة لكثير منها بأصل الدين وغاياته السامية التي تدعو لإذكاء روح المحبة والألفة والتسامح بين بني البشر ، فجائت (عقوبة) رجم (الزناة المحصنين) كعقوبة ثابتة ، رغم إنها جزء من الشريعة (اليهودية) ، وبالرغم من مخالفتها لصريح القرآن .

وبدأ (الطبري) بالتأسيس لمفهوم (البدعة) الذي اتخذه من جاء من بعده ذريعة لينكل بكل عمل مطابق لحركة الواقع ومسيرة التأريخ وضرورات التغيير والتجديد ـ ولكنه لا يشبه ما جاء به السلف الصالح ، أو لم يأتوا به من قبل .

***** ***** ***** *****

إن تطبيق الشريعة في العبادات والمعاملات (الشخصية) ، وحل النزاعات يمكن أن يكون داخل أروقة المؤسسات الدينية ، بعيداً عن (يد السلطة) ، أو تحت رعايتها ، ولكن بشكل رضائي ، يتقبله الانسان ويطمئن إليه بحكم انتماءه وانزياحه العقدي ، وهذا لا يتطلب تدخل السلطة ، ولا صدور القرارات من برلماناتها أو مجالسها التشريعية .

ولكن ، في حدود التشريعات والقوانين التي تمس (المجتمع) ، والأنظمة التي تتعلق بالأمن العام ، وفي مجال تطوير (افتصاد الدولة) ، والعلاقات الخارجية ، وأساليب الحكم ، يصبح تطبيق (الشريعة) مستحيلاً ، وربما يكون مدعاة لخلق (توتر) بين طوائف ومذاهب أبناء الشعب الواحد ، بسبب تعدد القناعات والتوجهات والمناهج والمدارس الفقهية ، واختلاف الرؤى الفكرية الناتجة عن اختلاف المدارس (الدينية) .

فــ (ولاية الفقيه) أو (دولة الخلافة) أو (حكومة الشورى) أو (الإمارة الإلهية) ، ستتعارض فيما بينها لرسم شكل الحكومة المنتجة ، وكذلك فالنظرة إلى الآخرين واعتبارهم (شركاء في الوطن والانسانية) أو اعتبارهم (كفاراً) يجب قتلهم أو أخذ الجزية منهم وهم (صاغرون) ، ستؤثر على رسم سياسة الدولة مع المواطن داخل الدولة ، وتؤثر في رسم العلاقات الخارجية للدولة .

فالفكر الداعشي (التكفيري) الرافض للآخر ، موجود في أغلب الفرق والمذاهب الاسلامية ، على الأقل من الناحية (الفكرية) دون الناحية (التطبيقية) ، مع اختلاف (التسميات) وأساليب التعامل مع الآخر ، وإن العودة إلى تطبيق (السلوك والفهوم) التي أنتجها فكر (السلف الصالح) موجود لدى أغلب الفرق والمذاهب والطوائف الاسلامية ، وإن الرغبة في (تطبيق) الحدود موجودة لدى الكثير من (المسلمين) على اختلاف طوائفهم ، واختلاف حجم وشكل الحدود في متبنياتهم الفقهية .

إن إدعاء كل مذهب أو فرقة أو طائفة بقربها أو (التصاقها) بالحق دون غيرها ، بل وادعائها بأن من خالفها في ضلال مبين ، وسعيها إلى امتلاك زمام السلطة لتطبيق مناهجها الفكرية التي تراها (الأصلح) لقيادة الأمة ، ورغبتها في تطبيق الشريعة على وفق متبنياتها الفقهية ، سيخلث أجواءً من العداء والتوتر والشعور بالاستصغار والامتهان لدى السعي نحو تلأسيس (دولة الشريعة) ، ويجعل منها مشروعاً دائماً لانتقاد وتخرص إحدى الطوائف أو المذاهب عند عدم إعتماد رأيها في مادة (دستورية) تراها نخالفة للشريعة حسب متبنياتها ، ما يجعل من الضروري الذهاب إلى (دولة مدنية) ، تحكمها طبقة (التكنوقراط) ، وتطبق فيها القوانين الملائمة لمصلحة المجتمع ، دون تجاوز (المحرمات) التي (حددها) الشارع المقدس ، والتي نجدها في كل الكتب السماوية ، والتي تتفق معها (الفطرة السليمة) لدى الانسان السوي ، ابتداءَ من الأنبياء والمرسلين وانتهاءً بأي إنسان يعيش في غابات الأمازون ، والتي يطلق عليها تسمية (المحرمات) أو (الوصايا العشر) أو غيرها من التسميات.

***** ***** ***** *****

إن تأسيس الدولة المدنية يجب أن يبتنى على أساس (القبول) بحدوده (العليا) لدى أفراد المجتمع أثناء صياغة (الدستور) ، ويجب أن تراعى فيه (حرية الرأي والمعتقد) ، وإلغاء (القدسية) عن الحاكمين ، ووضع السلطة (التشريعية) بيد الشعب ، واستخدام (آلية) الاستفتاء ـ واعطاء الشعب حق التصويت – بشكل (عيني) أو من خلال ممثليه في المجالس التشريعية – على (تقنين أو تحديد أو منع أو إطلاق) المسائل (المباحة) شرعاً والتي درج عليها المواطنون داخل المجتمع وفي حياتهم اليومية ، كتعدد الزوجية ، أو تحديد السن القانونية للزواج ، أو تحديد مقدار (الديات) ، والغاء قانون الاعدام .

ويحق للدولة المدنية استصدار القوانين والتشريعات (المؤقتة) والملائمة لروح العصر ، والمواكبة للتغيرات التي تفرضها حركة التطور ، بالاعتماد على المتخصصين من طبقة (التكنوقراط) ، في موارد الاستيراد والتصدير ، وقوانين المصارف والبنوك ، والهجرة ، وسن قوانين المرور ، دون الرجوع إلى الفقهاء والخوض في اختلافهم وأدلتهم ، بل ولا حتى الاستئناس برأيهم .

وللدولة المدنية حق (تحديد أومنع أو إطلاق) تطبيق وتنفيذ (العقوبات) الواردة في القرآن ، واختيار الأقرب لإمكانية التطبيق في المساحة الواسعة بين حدودها (الدنيا) والحدود (العليا) التي وضعها الشارع المقدس .

ولا يفهم من هذا الطرح بأن الاسلام عاجز عن قيادة الحياة ، أو أنه مقرون بالفشل من حيث النظرية والتطبيق ، أبداً ، ولكن الاسلام لم يعد قادراً على النهوض بتأسيس دولة ، لسببين مهمين :-

أولهما / إن الاسلام بنسخته القديمة (السلفية) عند كل المذاهب والطوائف لم يعد يواكب متطلبات العصر في موارد عديدة ، والدليل على ذلك ، إنزياح الدول الاسلامية نحو (التحايل) على الفقه في إصدار قوانين مخالفة لمتبنياتها (المفترضة) ، وإصرارها على عدم الاعتراف بفشل تطبيق متبنياتها الفقهية ، كاقرار المعاملات الربوية حتى في المصارف والبنوك الاسلامية .

وثانيهما / صعوبة تقديم الأنموذج الحقيقي بنسخته (المتجددة) ، لغياب (القائد الكامل) المعصوم الذي يمكنه العودة للدين الحقيقي ، وضمان عدم انزياحه نحو المزاجية والتأثر بالموروث والبيئة ، وقدرته على تجاوز مدارس الغلو والتكفير والتطبير والتكبير التي تمتلك القدرة والقابلية على أن تسقط أي مشروع للتغيير والتجديد المفترضين ، بواسطة استخدام الديماغوجية واستثارة عواطف الناس البسطاء ضد المصلحين والمجددين ، ووضعهم في خانة (الخارجين عن الدين) ، في شريعة أريد لها أن تكون خاتمة الشرائع .

فحين ترد في الدستور عبارة (الاسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع) ، أو عبارة (الاسلام هو المصدر الوحيد للتشريع) ، فإنما يراد منها (الاسلام) بالمعنى الدارج ، والذي يعني الشريعة المحمدية ، وبالرغم من الأسلوب (الخادش) الذي تستبطنه هذه العبارة بالنسبة لأتباع بقية الشرائع ، وتعزيز إحساسهم بالغربة ، فإن العبارة – نفسها – تضع المتلقي أو المواطن (الواعي) تحت طائلة الحيرة ، وتثير لديه مجموعة من التساؤلات التي تفضي إلى (التوجس) ، ومنها :- (أي نموذج إسلامي سيعتمده الدستور في مصدرية التشريع ؟ هل هو النسخة السلفية ؟ أم النسخة الإخوانية ؟ أم النسخة الداعشية ؟ أم نسخة التشيع المتطرف ؟ أم التسنن والتشيع المنفتح على الآخر ؟) .

وهل سيعتمد الدستور في تشريعه على مصادر فقه (الغزوات والفتوحات) ؟ أم فقه (عدم الاعتداء على الآخرين) ؟ أم فقه (نشر الدين بالقوة) ؟ أم فقه (الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة) ؟ أم فقه (الذبح) ؟ أم فقه (التسامح) ؟ أم فقه (مهادنة السلطان الجائر) ؟ أم فقه (الثورة على الظلم) ؟ أم فقه (كفر ونجاسة أبناء الشرائع السماوية الأخرى) ؟ أم فقه (الأخوة في الانسانية) ؟ أم فقه (إقامة الحدود) ؟ أم فقه (شرعنة قتل غير المسلمين) ؟ أم فقه (السبي) ؟ أم فقه (تكريم بني آدم) ؟ أم فقه (الجزية) ؟ أم فقه (المواطنة) ؟ أم فقه (الرجم) ؟ أم فقه (قطع اليد) ؟ أم فقه (التهجير) ؟ أم فقه (أحكام الردة) ؟ أم فقه (حرية المعتقد) ؟ أم فقه (القمع) ؟ أم فقه (الحوار) ؟ أم فقه (الاتهام بالزندقة) ؟ أم فقه (احترام حرية التفكير والتعبير) ؟

إن أحد المصادر التي تدفع بالانسان أن يوجس في نفسه خيفة من تسلط علماء ورجال الدين على السلطة ، هو شعوره بأن علماء ورجال الدين وفقهاءه هم أكثر المخلوقات وأشدهم قدرة وقابلية على الالتفاف على (فتاواهم وفتاوى غيرهم) بشكل انسيابي وناعم الملمس ، لتغييرها ونفيها ونقضها أو إثباتها وإيجاد الأدلة على ذلك ، ويمكنهم بسهولة أن يفتحوا الذرائع ، في نفس المكان والزمان والظروف التي يمكنهم فيها (سد الذرائع) ، باستخدام مصطلح (المصلحة) التي يرون أنهم الأولى والأحق في تقديرها وتقريرها ، ونعني بــالمصلحة ، (رصاصة الرحمة) في جبين التغيير والتجديد .

***** ***** ***** *****

وصحيح إن دور السلطة المدنية هو ضمان حرية (الفكر والمعتقد) الشخصية بالنسبة للأفراد ، ولكن دورها الأكثر أهمية يكمن في (تقنين) السلوك (المجتمعي) المترتب على هذا الفكر أو المعتقد ، من خلال :-

1/ حصر الممارسات والطقوس والشعائر والمظاهر الدينية (العامة والخاصة) بعيداً عن السلطة ، وخارج الدوائر الحكومية ، وخارج مؤسسات الدولة .

2/ تقنين حرية (الفكر والمعتقد) بالشكل الذي يمنع الأفراد من (الاستهتار) بالاخرين ، أو الاعتداء على معتقداتهم ، أو إزدرائها ، أو السخرية منها ، أو خدشها ، وكبح جماح الرغبة لدى البعض في قمع أو تغييب أو مصادرة الآخر .

3/ منع ممارسة وتأدية الطقوس والشعائر بالشكل الذي يسبب استفزازاً للآخرين ، وتقنين أو تحديد أو ترشيد أو توجيه أيّة شعيرة أو ممارسة طقسية يمكن أن تؤثر على حركة وانسيابية ومصالح المجتمع .

ولأن الدين (لا يمنح أخلاقاً) ، بل يعتمد على الاستعداد في الأرضية الأخلاقية لدى المتلقي ، فينميها ويشذبها ، ويوجهها باتجاه صحيح ، فهنا ، يصبح لزاماً على الدولة إيجاد القوانين التي تنظم حركة وسلوك الأفراد بعيداً عن مزاجيتهم وأفكارهم ومعتقداتهم التي يمكن أن تنفلت لتجر المجتمع إلى هاوية الفوضى ، لأن الوازع أو الرادع لدى الفرد عن الجريمة أو الأخطاء التي تسبب ضرراً لنفسه أو للآخرين إنما تكمن في ثلاثة ، وهي :-

1/ الرادع الأخلاقي والتربوي / الناشئ عن الضمير ، والذي يمنع الانسان أو يردعه عن ارتكاب ما يسئ لنفسه أو للمجتمع .

2/ الرادع العقائدي / الناشئ عن الايمان والخشية والمحبة بين الانسان والمولى .

3/ الرادع القانوني / الناشئ عن قوة السلطة في تنفيذ القانون .

إن الرادع القانوني هو الرادع (الأقوى) في المجتمعات ذات الأصول (البدوية) ـ أو المجتمعات متعددة الطوائف والمذاهب ، وخصوصاً المجتمعات التي يغلب عليها (فساد المتشرعة) ، وقد قيل من قبل :- (إن الله يزع في السلطان ما لا يزعه في القرآن) ، أي بمعنى :- (يفعل السلطان ، ما لا يفعله القرآن) ، لأن قوة السلطان والنظام والقانون ، قد تكون مانعة ورادعة بقوة للبعض عن إرتكاب الحماقات والمخالفات والجرائم أكثر مما قد يمكن أن يمنعه كتاب الله (القرآن) ، فالخشية من السلطان – لدى البعض – أشد من الخشية من القرآن .

وختاماً … فإن الدولة المدنية هي الطريق الأصوب والأقصر لتحقيق (ديكتاتورية الأغلبية) التي تسمى بــ (الديموقراطية) ، والتي تعني (حكم الشعب) ، والتي تعتبر من أفضل أنواع (الحكم) في غياب الحاكم (الكامل) أو المشرع القانوني (المعصوم) ، وهذا الأسلوب من الحكم هو الأصلح (الجبري) في زمننا ، والذي يمكن من خلاله للشعب أن يحكم نفسه بنفسه ، ويتحمل مسؤولية إختياراته وخياراته .

العراق – عاصمة العالم المحتلة