23 ديسمبر، 2024 7:50 ص

الاستقرار والقلق في العراق

الاستقرار والقلق في العراق

هناك نظرية بديهة تخضع لها كل ظواهر الحياة، تلك النظرية تنص على أن الطبيعة تميل دوما الى الاستقرار، فالرياح العاصفة لابد لها من هدوء، والبركان لابد له من خمود، والأعاصير لابد لها من سكون، وكذا الحال مع باقي ظواهر الحياة.
في أرض عُلِم أنها أرض الحضارات ومهبط الأنبياء والرسل، عُلِم أيضا أنها محط أطماع أقوام وأمم عبرت البحار والجبال على مر العصور، للوصول اليها والاستحواذ على ما فوقها وما في باطنها، تارة تحت مسمى الفتوحات، وأخرى تحت مسمى العائدية، وثالثة تحت مسمى التحرير.
وبتحصيل حاصل من كل هذا شاء قدر سكان هذي الأرض أن يعيشوا تحت اضطراب وقلق مستمرين، على أيدي أشرار وافدين اليهم من غياهب الأرض ومتاهاتها. وظل هذا الحال ملازما لحياة السكان اليومية قرونا طويلة، تخللتها بين الفينة والأخرى بضع سنين تنفسوا خلالها الصعداء بفعل بطل أسطوري، تمثل لهم بشخص حاكم او سلطان مسك زمام أمور هذي الأرض وأحسن صنيعا فيها، ولسوء حظهم أن الأخير هذا سرعان مايرحل ويعود الاضطراب والقلق أشد من سابق عهده.
بعد عقود الجور والدكتاتورية والظلم، وسني القمع والبطش والكبت، والحروب والحصار والحزب الواحد والقائد الأوحد، هبط من السماء الأمريكية وحي الديمقراطية، مبشرا وليس نذيرا، فقد بشرنا بأدواتها ولم ينذرنا بتداعيات سوء استخداماتها، وفي الأحوال جميعها (أنعم الله من الأجاويد) فقد أزاحوا صنما كان قد نأى بالعراق والعراقيين بعيدا عن ركب الحضارات الغربية والشرقية عقودا، فبين ليلة وضحاها، وبعد أن كان العراق مركونا على رفوف الحصار مكبل العقول والطاقات والقدرات، ناهيك عن كبحها وتعطيلها المتعمد، فإذا بإطلالة عام 2003 وإذا بالحريات تنهمر عليه كالسيل الجارف، وبذا تكون نظريتنا التي ذكرتها آنفا، فُصِّلت للعراقيين (تفصال) فاصبحوا يميلون الى الاستقرار على ضوئها. ومعلوم ان الفرد لايشعر باستقرار في بلده إلا إذا توافرت له جملة حيثيات، منها وأهمها الضمان، وهذا بدوره تندرج تحته مسميات عدة، فضمان الأمن واستتبابه، وضمان السكن، وضمان الخدمات، وماأقصده هنا هو الضمان الصحي، وحين توفيرها جملة وتفصيلا له على الدوام ومن دون غبن او غدر، يشعر الفرد بالتصاقه بتربة وطنه، حيث ان الضمان يحقق له كيانا ووجودا وشعورا بأن له حضورا دائما لدى حاكميه ومسؤوليه، ومن غير ذاك الضمان فهم جلادوه وسجانوه. فأبواب ضمان المواطن حق على الحكومة ان ترعاه، ليرعى -بالمثل- الواجبات المنوطة على عاتقه تجاهها.
ولو قلبنا صفحات تأريخ العراق القديم والحديث، تبين لنا أن القلق والاضطراب اللذين أشرت اليهما في مبتدأ حديثي هذا، كان أغلبهما تجلبه رياح الشر من خارج الحدود، غير أن المنظر لأحداث العراق بعد عام 1963 يلمس أن رياح الشر تلك لم تكن تعبر الحدود لولا الأجواء الملائمة لها داخلها، كما أنها لم تكن شرورا بفعل خارج عن إرادة البشر، بل هي من صنع البشر وحياكته وصياغته وسبكه، بشكل يتلبس واقع الحال العراقي حسب تقلبات الظرف ومستجداته، ولاسيما بعد سقوط النظام السابق، فاضطرابات السنة الأولى بعد سقوطه لم تكن كاضطرابات عام 2005، وكذلك اضطرابات عامي 2006 – 2007 لم تكن كمثيلتها في الأعوام 2008 – 2009 – 2010.
والفرق ذاته بعد انتهاء الاحتلال وخروج آخر جندي امريكي من العراق يوم الاحد 18\12\2011، واللافت للنظر ان الاضطرابات لم تكن تتمحور بشخص قائد او سياسي بعينه، كما كان بعضهم ينحى باللائمة على رئيس الوزراء آنذاك، ولو كان الأمر كذلك لانتهت الاضطرابات بانتهاء مهمته، لكنها أخذت قالبا آخر ونمطا ثانيا مع معطيات رئيس الوزراء اللاحق، وإن كان بعضها -الاضطرابات- قد خفت وتيرته، فإن بعضها الآخر ازداد حدة ونكوصا وخطورة وتداعيات، الأمر الذي إن دل على شيء فإنما يدل على عزم جهات -داخلية بالدرجة الأساس- للإبقاء على القلق والاضطراب في الساحة العراقية، سواء أكان المالكي حاكما أم العبادي أم عبد المهدي أم علاوي أم الزرفي أم غيرهم! وقطعا هذا لغاية في نفس يعقوب قضاها، ولو أسلمنا الأمر لتلك الجهات، فإن نظرية ميل الطبيعة الى الاستقرار تكون معطلة في العراق وغير قابلة للتطبيق، بفعل فاعل بل فاعلون كثر.