من ملامح العدل: الاستقامة، وقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة وتحث عليها، فالله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا}[ الشورى 112].
وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}[ الشورى 15].
وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ} {الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *}[فصلت: 30].
فهذه الآيات وغيرها تُبين منزلة الاستقامة ومكانتها، وبما أن لزوم الصراط المستقيم استقامة على دين الله وشرعه، وهذا عين العدل وجوهره؛ لذلك لا بد من تعريف الاستقامة.
قال الراغب: استقامة الإنسان: لزومه للمنهج المستقيم.
وقال عمر رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب. [تهذيب مدارج السالكين، 2/528].
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله.
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: استقاموا: أدوا الفرائض.
وقال ابن القيم: فالاستقامة كلمة جامعة اخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات، فالاستقامة فيها وقوعها لله، وبالله وعلى أمر الله، ثم قال: سمعت شيخ الإسلام يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
وقال أيضاً: الاستقامة ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء.
من ثمرات الاستقامة، البينية:
روى الإمام البخاري في صحيحه: أن أبا بكر رضي الله عنه خطب يوم السقيفة، وكان مما قال يخاطب الآنصار: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. [تفسير الطبري، 2/6].
والوسطية المرادة هنا يظهر فيها معنى الخيرية جلياً لا لبس فيه، فأين البينية؟
فالبينية تتضح إذا علمنا ما امتازت به قريش من صفات أهلتها لأن تكون خير العرب، وهذه الصفات من الشجاعة والكرم والعدل وسائر الصفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات اتصفوا بأفضلها دون إفراط أو تفريط، أو غلو أو جفاء. ولذلك فقد نالوا هذه المنزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلاّ لهم، وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصيصة الوسطية فيهم، ويصدق فيهم قول زهير:
هم وسط يرضى الآنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم.
والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينية بين نوعي الظلم؛ ولذلك كان وسطياً. [الوسطية، الصلابي، ص: 41].
وتأمل معنى ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا: قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي: المتوسط بينهما. [تفسير المنار، محمد رشيد رضا، [2/4].
وقال الأستاذ محمد قطب: إن الوسطية هي التوازن، والتوازن هو العدل، حيث قال في قوله تعالى: َ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[ البقرة 143]. وسطاً في كل شيء متوازنين في كل ما تقومون به من نشاط. [منهج التربية الإسلامية،1/28].
وقال الدكتور عمر الأشقر: من المعضلات التي لم ينجح المشرعون من البشر في حلها التطرف في التشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار وبعض آخر يجنح إلى أقصى اليمين، وقلما يوفق وَاضِعو القوانين إلى التوسط والاعتدال. [خصائص الشريعة الإسلامية، ص: 86 ـ 87].
وقال في موضع آخر: إذا نظرت إلى الشريعة وجدتها وسطاً في كل أحكامها، فأحكامها بين الغالي والجافي.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “العدالة من منظور إسلامي”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري.
تفسير المنار، محمد رشيد رضا.
خصائص الشريعة الإسلامية ، د. عمر الأشقر.
العدالة من منظور إسلامي، د. علي محمد محمد الصلابي، دار ابن كثير- بيروت.
مدارج السالكين، شمس الدين ابن قيم الجوزية.
الوسطية في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي.
الوسطية في ضوء القرآن الكريم، د.ناصر العمري.