17 نوفمبر، 2024 10:31 م
Search
Close this search box.

الاستعلائية الامريكية

الاستعلائية الامريكية

تجلت لأغلبنا اهمية تفهم واقع المجتمع الامريكي من الداخل، فتأكد للكثير منا ان من ابرز حقائق العصر الثابتة، غرام المجتمع الامريكي بعلم النفس وخضوعه له في معظم شؤون حياته اليومية والفردية والجمعية على قدر سواء. وتبين على وجه الخصوص انه كلما انسلخ هذا المجتمع من القيم الروحية التي بدأ بها جورج واشنطن وغرزها ابراهام لنكولن، زادت فرص استسلامه المنحرف لعلم النفس السوي، وان الذي يراقب تطور الفكر السياسي الامريكي عن كثب بجد تحول تجاه اهتماماته ازاء قضاياه الداخلية المتفاقمة صوب الخارج… في العوالم النامية على نحو خاص والعالم الاوروبي على نحو مماثل الى درجة كبيرة، ثم صوب الانجازات العلمية الفضائية بهدف ان يذهب الانسان الامريكي الى الفضاء الخارجي بحثاً عن حياة كونية، الا ان قدميه راسختان فوق رأس الارض، برغم كل امراضه الداخلية التي افرزتها المدنية عالية التقدم في جميع ولاية البيض والهجينة والسود… وعندما يطلق الامريكان على انفسهم كلاماً من طراز – نحن الافضل- ويتخذون منه شعاراً وهدفاً معاً طبقاً لمفهوم الانسان المتفوق –Superman- فانهم في الواقع يهربون من واقع آخر مر يمزق اوصال مجتمعهم على نحو خفي كثيراً. غير ان ما يصيب البشرية من هذا الواقع هو اسقاط ما في هذا المجتمع على العالم لغاية التنفيس وحسر الضغط الداخلي عن كاهل هذه الدولة (العالمي) المثقلة بالانجاز العلمي المادي ازاء العجز الروحي الذي تناقص دون درجة الصفر في السلوك والغاية معاً، وذلك باختيارها علمانية جديدة تجعل من العلم بديلاً لله سبحانه، فما دام العلم يصنع كل شيء وليس امامه من شرط غير المال والوقت، فليس ثمة حاجة اذن الى الله.

هذه هي القاعدة التي يستند اليها العقل الامريكي – العلم سياسي- منذ عقد الستينات على وجه التحديد. ولقد ترسخت اكثر فأكثر بعد كل عقد او سنة، اي بعد اتساع القدرة على الانجاز، وما شكليات صلاة الشكر على مائدة رئيس الولايات المتحدة الا ورق (سيلوفين) يغطي مختلف صور الدعارة الفكرية الحديثة، واذ ليس لاي مفكر كما يبدو لنا، حق الاعتراض على ما يختاره العقل الامريكي للجسم الامريكي من حياة وما يرسم للمجتمع الامريكي من نظام. الا ان محاولة اسباغ هذين الانجازين على العالم كله والوطن العربي على نحو اكثر خصوصية، تثير موجة من الازدراء الاخلاقي وعاصفة من الاستهجان النفسي، فضلاً على التحفظ العلمي والموضوعي الرصين، في نفس الانسان المثقف على اساس القيم العليا للانسان نفسه. وكلما اشتد الضغط الامريكي الانجازي على الامم الاخرى بهدف الامركة والاذلال والتبعية، تعددت فرص المقاومة وتنوعت برغم ظاهرة الاستسلام في عدد من المجتمعات النظيرة للمجتمع الامريكي، ولكن من دون تطابق، اما المحاكاة والتقليد الاعمى فلا يمثلان حالة معيار، لان صانع الشيء ليس كمن يستعمله من جهة، ولان استعمال الانجاز لا يقضي الى الابتكار او الابداع عند الجاهلين من ذوي الكنوز. بل ان مفهوم (مزايا التخلف) برأي منظريه، ليس ميزة على نحو دائم ولكنه يوفر الفرصة للحصول على اعلى تقنية متطورة بالمال المتاح واختصار زمن البحث

والانجاز المماثل الذي قد يطول مداه، الا ان هذا المفهوم لم يجد له موضعاً في العقل الامريكي على نحو ايجابي، بل لم يجد الفرص الكاملة داخل هذا العقل، انما تنكب حيزاً محدود فقط، اذ نراه مقيداً بشرطي – المستوى المعين مسبقاً والكلفة العالية قصداًــ ولكن محاولة تسييس المجتمعات العالمثالثية ومنها العربية على النموذج الامريكي العام تمثل محور الخطورة الفكرية والحياتية التي يتعين التوجس منها كثيراً لانها اصبحت من (مزايا التقدم) المتحقق في نصف الكرة الارضية الشمالي، وفي الولايات المتحدة على وجه الحصر، لانفضاح غايتها الاستعلائية الميمنة باتجاهها صوب مفهومين متداخلين بوصفهما انجح وسيلتين لها، اذ هما تعبير (العالم الحر) ومنه او ماله (الاقتصاد الحر) او اقتصاد السوق، ثم (الديمقراطية). بيد ان الحصيلة العملية لهذه المطابقة لم تثمر حالة تماثل شاملة حتى في مجموعة دول (النمور السبعة) بل ادت الى حالات تشابه متدرجة في ممارسة الحرية والديمقراطية داخل هذه المجتمعات حتى صار مفهوم الحرية نسبياً برغم كل محاولات الاطلاق الضيقة حسب المفهوم الليبرالي الامريكي، واصبح بالمقابل مفهوم الديمقراطية متعدداً برغم الاستعمال الغربي السائب في عالم العلاقة بين وسائل الاعلام والسلطة التنفيذية، ومع ذلك، فانه ان وصل درجة (الصفر المطلق) بتماسه مع المصلحة الوطنية العليا ترى الديمقراطية تموت بقرار دستوري او رئاسي او ملكي برغم انف الحرية والديمقراطية، وما التضليل في تغطية الحركات العسكرية في اثناء حرب الخليج الثانية والثالثة الا صورة واحدة في هذا الشأن.

هذا هو القانون الطبيعي الحديث في السياسة الامريكية المعاصرة ظن استعمال لغتين في موضوع واحد، ثم السعي الى احتواء المتناقضات على الحرية والديمقراطية معاً، فمناضرة المجتمع المتخلف نظاماً وفكراً على حساب مجتمع متقدم من بدهيات الولايات المتحدة المعاصرة، من ذلك، فان ما افرزته تجارب العالم ل م يقدر ما يرضي طموح الولايات المتحدة ومدلول العالم، هنا، باختصار (اسيا) الحديثة، ولا يمنع اختيار غيرها اتماماً. فمنظور فوكوياما، ياباني الاصل، الذي اطلق فرضية او نظرية نهاية التاريخ عند الحضارة الغربية المعاصرة، يعترف نيابة عن العقل الامريكي، فيقول – ما اراه ان الايديولوجيا في جنوب شرقي اسيا التي تحد من حرية المواطنين وتجلب لهم النمو والرفاه في ان تثبت انه لا تلازم هناك بين حرية الاسواق وحرية المواطنين-.وربما صار انهيار الاسواق المالية في هذه الدول او بعضها نتيجة لتآمر امريكي اقتصادي كبير ومالي مدروس، اي نزعة انتقامية امريكية اخذت طريقها الى التنفيذ.

في بحث عن الديمقراطية والتنمية، ذكر واحد من اعظم صانعي السياسة الاقتصادية في العالم نجاحاً – لا اظن ان الديمقراطية تقود بالضرورة الى التنمية، فأنا اعتقد ان ما يحتاج اليه بلد ما كي ينمو ويتقدم هو انضباط وتهذيب اكثر من حاجته الى الديمقراطية، لأن فرط الديمقراطية يفضي الى التسيب والفوضى في التعامل مما يضر بالتنمية اخيراً.

هنا نتساءل: لماذا اذن يطالب الوطن العربي والعراق على نحو خاص بشيء لا يمكن توافقه مع طبيعة الواقع الاستثنائي الذي يحيط بهما من اربع جهات فضلاً على الداخل الانثروبولوجي والديمقراطي والجيوبولتيكيا لعقد احياناً.

اننا نرى وهذا رأي خاص بالطبع ان القبلية السياسية على اي من مفهوميها العضوي الحقيقي او العلائقي المجازي هي قبلية اقتصادية ايضاً. وهي ليست سلبية المدلول لزماً وضرورة، فهي موجودة من حيث طبيعة المفهوم منذ القدم، كما الرأسمالية، وفي اعرق البلدان الديمقراطية بمفهومها الليبرالي، وفي بلدان المفهوم النقيض لها معاً. وما الاختلاف الا في الشكل الخارجي والتأثير الذي يترتب عليها في بنية المجتمع وسياساته العامة من حيث طبيعة التخلف والتقدم ووعي كل منهما بدقة. فالتعددية الحزبية هي الدرجة الادنى نظرياً للقبلية السياسية، اي توزيع الاحساس القبلي واجراءاته بين مجموع الاحزاب والفئات ولو بمقدار غير متساوي تبعاً لحجم النسبي لكل منها، فالعمل الحزبي عمل بنزعة نقابية ومصلحة خاصة بوسائل محددة ولغايات معلومة لا يمثل مثابة على الدوام بل يمثل توجهاً يوازي التوجه القبلي المتوافق ولا يلتقي معه، اما اذا ابتلع حرية الآخرين في التعبير عن أرائهم فانه سيضوي تحت وصف القبلية وعصبيتها، ولكن التعبير عن الرأي لا يشترط في الاساس وجود حزب معين وبالضرورة بل يشترط وجود ادارة للتعبير اصلاً، فاذا توفرت هذه الاداة سقط المفهوم القبلي عنه، سواء أكان البلد المعين متعدد الاحزاب ام عديمها، اي ان جوهر الموضوع يكمن في مصداقية الرأي ازاء أية قضية طبقاً لفكر معروف او قريب منه فلا يصير فكرين، واحداً معلناً وآخر مستتراً، ولا يتحول ايضاً الى لا فكر لا ندري ماذا يريد.

اما الفراغ السياسي الناجم عن غياب اي تنظيم سياسي حزبي علني يعمل بموجب الدستور، فهو ايضاً صورة القبلية السياسية ولكن بدرجتها الاعلى. اما وجود الصيغة الحزبية الجبهوية او الائتلافية فأنها ليست سبباً مفضياً للحرية العامة على نحو مؤكد ولا تكون مانعاً لها وفي الحد منها في الوقت نفسه، انما هي برنامج عمل سياسي على صيغة تقع بين غياب الحزبية وبين تعدديتها المفتوحة ثم هي صيغة مهما طالت فانها مرحلية ومؤقتة حسب البرنامج.

لذلك، فان الاصرار على اقران الديمقراطية الليبرالية بالحرية الاقتصادية، ذلك الاقران الذي تطلب قرنين من الزمان ليستقر في الولايات المتحدة نفسها ومن ثم محاولة فرضه على العالم الثالث ومنه الوطن العربي بعد عملية قسرية تاريخية نقيضه لصيرورته او في الاقل تقع على هامش التاريخ لانها تقررت خارج العلمية ونمت في المحيط البعيد جدا عن الموضوعية.

من هنا، فنحن لا نتحرج من القول بوجوب توافر المركزية في أية ديمقراطية تنشد التقدم الوطني والحرية والحضارة الانسانية، ليس لاننا نؤيد استنتاج الآخر المتقدم بل لان تجربتنا الخاصة تؤكد ذلك ايضاً وقبل عوالم التقدم والمتحضر.

واعتقد ان ادبيات بعض احزابنا ومفكرينا تحترم كل صيغ العلاقة بين الديمقراطية والحرية الاقتصادية ولكن بمنظور يوفق بين الحاجة والضرورة الممكنة فيبتعد عن التقليد والتبعية من دون ان يغفل الافادة من تجارب الاخرين او ان يتنازل عن حقه في نقدها حسب هذه المعايير اذا ما حاولت الولايات المتحدة فرضها على الوطن العربي والعراق. لذلك فان أسس المشاكل التي يعانيها العراق بسبب الاذى الثأري الانتفاضي المتوحش القادم من الولايات المتحدة تزداد قيمته الرقمية كلما أصر بعض العرب على الاستقلالية السياسية والاقتصادية والفكرية بوجه السلوك الامريكي القسري غير المقبول وغير المعقول، وطنياً وقومياً وانسانياً.

[email protected]

أحدث المقالات