الوظائف الحكومية يفترض ان تكون محكومة بقانون الخدمة المدنية ولكل موظف ان يعرف ما له وما عليه من حقوق وواجبات قبل ان يتوظف او في بداية تعيينه وهذه القوانين يجب ان تنظم العلاقة بين الرئيس والمرؤوس والمسؤول والموظف الذي يعمل لديه، هذا ما يحكم به المنطق السليم والعقل الراجح بل وحتى قانون الدولة ولكن!
حين يحتوي الوطن على عدد موظفين يتجاوز خمس اضعاف حاجته الفعلية في مرافق معينة (حيث تكثر الرواتب والمخصصات) ونصف او ربع الحاجة الفعلية في مرافق اخرى (حيث القحط والجفاف الوظيفي والمالي) فأنه من الطبيعي ان تشهد الدوائر المترفة كالنفط والتعليم العالي والكهرباء ظواهر ترف وظيفي لأقارب المدير والمسؤول وحاشيته ومن لهم عرف وواسطة عنده واستعباد وظيفي لبقية الموظفين الذين يعتبر مسؤوليهم انهم قد فضلوا عليهم حين عينوهم وان الراتب الذي يستلمونه في اخر الشهر هو ((منّه وفضل)) من بيت ابو المدير او ابو المسؤول وان الموظف من غير الحاشية والعرف والواسطة عبد مملوك او اجير خادم لرغبات واهواء ونزعات وميول ونفسية المدير والمسؤول.
واقع يشتكي منه الجميع ويمارسه الجميع في نفس الوقت فلا يوجد قانون يحكم بشكل فعلي عمل الموظفين وتراهم بعد عناء البحث عن الوظيفة لسنين يحاولون التمسك بأي وظيفة حتى لو كانت لا تناسب مؤهلاتهم العلمية والتخصصية والجسدية بل وحتى العائلية فقط ليكفوا انفسهم عن الحاجة للناس وفقط لكي يستلموا راتباً هو حق لهم في اخر الشهر مما يجعل المدير والمسؤول يتفرعن على الموظف خصوصاً وانه يمتلك رقبته وحياته للسنة الاولى ويمكن ان ينهي خدماته بلمح البصر وبمجرد توقيع على ورقة (لعدم الحاجة الى خدماته) او (لتجاوزه على مسؤوليه) او (لأخلاله او تقصيره بالواجبات الملقاة على عاتقه) وغيرها الكثير من الاعذار التي تقتل الموظفين الجدد وتقطع ارزاقهم وقد قيل ان قطع الاعناق اهون من قطع الارزاق واتحدى احداً يقول ان قريب او نسيب او زميل او عرف المدير الفلاني او المسؤول العلاني قد انهيت خدماته لسبب مما ذكر وغيره حتى لو كان قد فعل كل ما سبق ذكره فهو فوق القانون وفوق الحساب بل ان اي احد في الشركة او الدائرة او المديرية لا يتجرأ ان يشتكي عليه لأنه (ظهره قوي) فألى متى!!؟؟ ومن المسؤول عن المراقبة والمحاسبة!!؟؟
مكاتب النزاهة والتدقيق والتفتيش!
ان احد المكتسبات الرئيسية لعراق المؤسسات والقوانين ما بعد 2003 هي هذه الدوائر الرقابية الحكومية او المستقلة والتي يتزايد الفساد طردياً مع تزايد اعدادها ومسمياتها وكأنها حبر على ورق واسماء رنانة ومصطلحات حداثوية ومؤسساتية جميلة بلا فائدة تذكر بل ربما تضر وتفسد ولا تصلح فصناديق شكاوى المواطنين وايميلات النزاهة والابلاغ عن المفسدين هي عبارة عن وسائل تنفيس لغضب المواطن والموظف وتنتهي الشكاوى التي فيها الى يد المدير والمسؤول المعني بالشكوى (حيث ان مفاتيحها عنده!) لينتقم شر انتقام من الموظف او المواطن المشتكي حتى اصبحت سيئة الصيت والسمعة وحين يريد احد ان يشتكي يقال له هل تريد ان تفصل من الدائرة او تخلق عداوة مع المدير!!؟؟ فألى متى؟
كليات تخرج ودوائر تعين!
تفتخر كلياتنا وجامعاتنا بانها تخرج سنوياً الاف الطلبة وبشتى التخصصات العلمية والادبية والتقنية والادارية والفنية ولكنها لم تسأل نفسها الى اين ينتهي مصيرهم!!؟؟ فنسب البطالة الحقيقية والمقنعة تتزايد يوماً بعد يوم بسبب عدم وجود اي تطور وظيفي في المؤسسات العامة والحكومية مما جعل الناس تضطر الى دفع مبالغ طائلة لقاء التوسط للتعيين او التزوير في نتائج الاختبارات الشكلية للمتقدمين للتعيين ونرى ونسمع عن حالات مثيرة للسخرية والاستهزاء والتساؤل من ان مهندس كهرباء يتم تعيينه كعامل تنظيف لان المطلوب للتوظيف عامل تنظيف فيضطر المهندس الى اخفاء شهادته والتقديم للتعيين بشهادة الثالث متوسط ليمسح طاولة ومنضدة من هم اقل منه شهادة وعلمية واهلية ونسمع عن ماجستير ودكتوراه لم يجد من يعينه باختصاصه ومؤهله الاكاديمي العالي فيلتجأ الى التعيين بأي وظيفة وبأي شهادة واخفاء الشهادة العليا التي يمتلكها والتي لا يحق له احتسابها لأنه اخفاها عند التعيين ويعمل موظفاً (اجيراً) لدى من هم بدور تلاميذه واقل منه خبرة وعلماً وفهماً والى الله المشتكى! فمن المسؤول؟ والى متى!!؟؟
التخصص العلمي والتسيب الوظيفي
تبدأ القصة حين يتعين الموظف بعد عناء طويل فلا يسأل اين ومتى ولا يعترض على اي شيء ولا يطالب بما هو حقه خوفاً من انهاء الخدمات على حين غفلة! وتمضي الايام ويبدأ المسؤولون ب((تدجين)) هذا القادم الجديد بإخضاعه الى اقسى الاختبارات النفسية والجسدية حتى يختبروا تحمله فلعله لا يحتمل فيترك الوظيفة او ينهون خدماته بعد ان يعترض على امر معين والبديل جاهز دائماً! من الاحباب والاقارب والمعارف وهكذا، وحين يطالب موظف بتعيينه في مكان تخصصه الدقيق يجابه بالرفض لكونه (جديد وما يعرف مصلحته) او ان (المدير اعّرف بما يفيد الدائرة) وغيرها من الاعذار الواهية التي تحوله الى هجين غير متجانس فلا هو احتفظ بتخصصه الاكاديمي وطور نفسه فيه مع التطور العلمي والتقني في العالم اليوم ولا هو يستطيع ان يبدع في تخصص اخر لم يدرس عنه شيئاً وانما سيق اليه سوقاً كموظف مبتدئ يبقى متلقياً لكل ما يقال ولا يستطيع تمييز ما هو قانوني وصحيح مما هو روتيني ومتعارف عليه ولكنه اجتهاد شخصي فينمو لديه ما يسمى (خبرة مشوهة) تؤدي بالنتيجة الى ان يكون مجرد مرحلة في سلسلة الروتين القاتل وامتداداً لمن كانوا قبله ومكرراً لنفس المأساة لمن يأتون بعده.
صناعة الطاغية
ربما يتساءل البعض كيف يتم خلق هؤلاء الوحوش والتماسيح الكاسرة في كل دائرة وكل شركة وكل مفصل من مفاصل الدولة؟ واعتقد ان القارئ اللبيب قد استشف بعض الاسباب مما سبق، حيث ان صاحب الخبرة المزيفة والمشوهة ينمو ويتدرج وظيفياً بإحدى طريقتي: متملق يرضي المسؤول وهذا يصعد على اكتاف غيره بلمح البصر وبلا علم ولا فهم وسرعان ما يصبح مسؤولاً صغيراً ويكبر شيئاً فشيئاً وهو لا يفقه شيئاً! او معارض منبوذ ومركون على الرف حتى يصبح قديماً ويضطر المسؤولون الى منحه منصباً لا يجيد ملأه لأنه لم يتدرج عملياً لا بتخصصه الاكاديمي ولا بالعمل الميداني والذي كان من حصة المتملقين حين كان مهمشاً ومركوناً لسنين وفي كلا الحالتين (المتملق والمعارض) ينشأ موظف قديم ومسؤول غير فاهم ولا اهل للمسؤولية ويصدف ان يعيد التاريخ نفسه ويأتيه موظفين جدد يملاهم النشاط والحيوية والطاقة لخدمة البلد والسعي لتطوره ونهضته ولكن كيف يتعامل معهم؟ أيتركهم يعملون ويبرزون ويبقى هو في المؤخرة؟ ام يقف حجر عثرة في طريقهم ويعاملهم كما عومل من قبل ويحطم معنوياتهم ويشوه تخصصهم العلمي الاكاديمي وسيرتهم العملية حتى يخلق اشباه له وهكذا تسري السفينة من جيل الى جيل بسياسة (اطفاء الشموع!).
اطفاء الشموع؟
نعم اطفاء الشموع فهذا مبدأ سائد ومصطلح معروف بين ارباب المسؤولية والاداريين في المؤسسات العامة لدينا يتحدث به البعض علانية ويخفيه الاخرون سراً ولكنهم يطبقونه في الواقع ويقصدون به ان كل موظف يبرز كشمعة ويزدهر ويبدع في عمله فالواجب على مسؤوله ان يطفأه قبل ان يتعدى ويُرشح لشغل مكان المسؤول ويتم ذلك كما قلنا بتعريضه لضغوط نفسية او ركنه على الرف حتى يفقد شحنته وطاقته بمرور الايام والسنين او تسليط مسؤول ظالم عليه يذيقه الويلات حتى يكره العمل ورب العمل ويتحول من ناشط الى خامل روتيني يتهرب من العمل ويتحين الفرص للخروج من الدائرة بأي عذر مشروع وغير مشروع وتتكرر العملية وتعاد الدورة وهكذا!
ان كل ما قيل سابقاً نزر يسير مما تمتلأ به دوائرنا اليوم ولكنه لا ينفي وجود مترفين وظيفياً او متسيبين لا يستحقون ان يشغلوا وظيفة حكومية لأنهم يستنزفون اموال الدولة ويضرون بالمصلحة العامة بتقصيرهم وقصورهم عن ملء مكانهم واداء واجباتهم وهنا لا بد للمشرع حين يريد ان يجدد قوانين انضباط الموظفين في مؤسسات الدولة ان يراعي كل ما سبق في سن القوانين وان يجعل التطبيق مرناً لصالح المواطن والموظف ما لم يخالف المصلحة العامة ويعمل القانون على منع خلق طواغيت وتماسيح وحيتان في كل دائرة وكل مؤسسة واعتقد ان هذه مسؤولية كبيرة ومعضلة صعبة في التوفيق بين شدة القانون على مخالفيه وبين رحمته بمن يحاولون تطبيقه والنهوض بالبلد.