23 ديسمبر، 2024 1:29 ص

الاستراتيحية الايرانية في العراق بعد الانتخابات

الاستراتيحية الايرانية في العراق بعد الانتخابات

ترجمة / عصام الياسري
كتب مؤخرا د. حميد رضا عزيزي / وهو باحث ايراني ـ في السياسة الخارجية الايرانية والامن في الشرق الاوسط ـ في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين ـ التابع لمؤسسة العلوم السياسية الالمانية. مقالا حول ما سينتج عن السياسة الايرانية على اثر نتائج الانتخابات الاخيرة 2021 في العراق.

بعنوان “بعد الاضطرابات الانتخابية، إيران تتبنى السيطرة على الاضرار في العراق”Nach Wahlturbulenzen bestätigt Iran Schadensbegrenzung im Irak ـ جاء في مقدمته: الركائز الأساسية لنهج إيران هي، منع نشوب صراع مسلح أو عنف واسع النطاق يشارك فيه حلفاؤها في العراق، والحفاظ على التماسك بين الجماعات الشيعية، ومنع تشكيل حكومة أغلبية أو اي إعادة لهيكلة الدولة العراقية.

في 10 أكتوبر / تشرين الأول، أجرى العراق واحدة من أكثر الانتخابات البرلمانية إثارة للجدل منذ سقوط الدكتاتور السابق صدام حسين عام 2003. فمن ناحية، كانت هناك مزاعم عديدة عن تزوير انتخابي أثناء الانتخابات وبعدها، وخاصة من الأحزاب والفصائل السياسية الخاسرة.. وبعد مضي أكثر من شهرين، لا يزال القضاء العراقي يحقق في المزاعم. من ناحية أخرى، يمكن أن تكون نسبة المشاركة المنخفضة للغاية في الانتخابات علامة على أن غالبية العراقيين يفقدون الأمل بشكل متزايد في إمكانية تحقيق تغيير جوهري من خلال صندوق الاقتراع. هذا الإحباط العام الواضح نتيجة فترة فوضى لعامين، اتسمت بالاحتجاجات والمظاهرات الشعبية، وعنف الدولة وغير الدولة ضد المدنيين، والتحالفات السياسية الهشة، والتدخل الأجنبي المكثف. من هذا المنظور، فإن مجرد المشاركة المنخفضة في الانتخابات، بغض النظر عن النتائج، يجب أن يُنظر إليها على أنها علامة تحذير حول مستقبل الاستقرار في العراق.

ومع ذلك ، لم تكن نتائج الانتخابات أقل أهمية، حيث أدت إلى تغيير كبير في تكوين الاطراف المنتصرة. والخاسرون الرئيسيون هم الفصائل الشيعية المقربة من إيران التي دخلت السباق الانتخابي تحت مظلة إطار التنسيق الشيعي. وعند إعلان النتائج الأولية، بدأت المجموعات التابعة لـ “الاطار التنسيقي” في الطعن في النتيجة، بدعوى حصول “تزوير انتخابي” ودعت إلى إلغاء نتائج الانتخابات. في غضون ذلك، نزل أنصار تلك الجماعات إلى الشوارع للاحتجاج. وسرعان ما تحولت الاحتجاجات إلى أعمال عنف، حيث اشتبك المتظاهرون مع قوات الأمن العراقية في العاصمة بغداد.

الى ذلك، فقد اشار العديد من المراقبين بتسمية الجمهورية الإسلامية “الخاسر الأكبر” في الانتخابات العراقية، وفسروا التطورات الأخيرة على أنها ضربة محتملة للحد من نفوذ طهران في الدول العربية. ومع ذلك، فإن نهج إيران تجاه الانتخابات وما أعقبها يعبر عن خلافات جوهرية مع حلفائها العراقيين. ويعد محاولة منها لإبعاد نفسها عن الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات في العراق.. اذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده الذي هنأ الحكومة والممثلين المنتخبين للشعب العراقي: إن كل ما تهتم به طهران هو “انتقال ديمقراطي وسلمي للسلطة” في العراق، مضيفا أن إيران تدعم “بشكل قانوني”، العملية الانتخابية “في البلد المجاور.

هذه التناقضات البارزة في معادلات القوة المتغيرة في العراق على حساب الجماعات المدعومة من إيران، ونهج طهران الحذر في عراق ما بعد الانتخابات، قد تثير تساؤلات حول حسابات إيران الفعلية واستراتيجيتها فيما يتعلق بالوضع الجديد. في الواقع، في ظل الظروف الحالية، ترى طهران بان العديد من التحديات الدقيقة تتطلب استراتيجية حذرة للغاية.

مقتدى الصدر: خطر يلوح في الأفق

أولا وقبل كل شيء، بالنسبة لإيران، فإن من فاز في الانتخابات هو مصدر قلق أكثر مِن مَن خسرها. مقتدى الصدر، رجل الدين والسياسي الشيعي المؤثر الذي حصلت كتلته على أكبر حصة من المقاعد في البرلمان الجديد، كان يعتبر ذات يوم أقرب حليف لإيران في العراق. ومع ذلك، فقد ذهب على مدى السنوات العديدة الماضية في النأي بنفسه عن إيران والجماعات العراقية المدعومة من إيران لدرجة أنه أصبح فعليا أحد أشد التحديات التي تواجه مصالح إيران طويلة الأجل في البلاد. فقبل كل شيء، استغل الصدر موجة تصاعد الحس الوطني والالتزام بالهوية والقومية العراقية وتزايد المشاعر المعادية لإيران في العراق خلال العامين الماضيين لتقديم نفسه كشخصية وطنية مستقلة. ولم يتردد أبدا في انتقاد الميليشيات المدعومة من إيران علنا، فضلاً عن التوسع الايراني لمنافسة الولايات المتحدة على الأراضي العراقية.

يبدو أن الخلافات بين إيران والصدر قد اشتدت، لا سيما منذ اغتيال قائد فيلق القدس السابق اللواء قاسم سليماني على يد الولايات المتحدة في العراق. ومنذ ذلك الحين، يحاول الصدر أن يتولى دور محور السياسة الشيعية في العراق، والتي كانت لفترة طويلة مخصصة لسليماني – وللجمهورية الإسلامية على نطاق أوسع. ومع ذلك، فإن خليفة سليماني، قاآني، يفتقر إلى الكاريزما وقدرات بناء الإجماع التي اشتهر بها سلفه. ما زاد الطين بلة بالنسبة للقادة الإيرانيين هو خسارة أحد أكثر حلفائهم ولاءً في العراق، أبو مهدي المهندس، الذي اغتيل أيضا إلى جانب سليماني. وكان له دور حاسم في ربط مجموعة متنوعة من الميليشيات التي تشكل قوات الحشد الشعبي وضمان التزامها غير المشروط بخطط الجمهورية الإسلامية ومصالحها. على هذا النحو، لم يكن مفاجئا أن أدى موته إلى اتساع الانقسامات بين الميليشيات الشيعية، بما في ذلك داخل قوات الحشد الشعبي. لعبت هذه الانقسامات في صالح الصدر، الذي حافظ على قدرته على حشد دعمه للانتخابات فيما كانت الفصائل الشيعية الأخرى تعاني من التردد والخلل السياسي.

ينبع عدم ارتياح الجمهورية الإسلامية من فوز الصدر في المقام الأول من قلق محلي ودولي. على المستوى المحلي، انتقد الصدر مرارا الجماعات المسلحة العديدة المدعومة من إيران، داعيا إلى حلها ودمجها في الهياكل الرسمية للدولة. كما يريد أن يتم إخضاع قوات الحشد الشعبي للسيطرة الكاملة للدولة وإبعادها عن السياسة. في الواقع، يتناقض تشديد سيطرة الدولة على قوات الحشد الشعبي مع مصالح طهران، التي تريد أن تخضع المنظمة رسميا لسيطرة الدولة (من أجل شرعيتها) مع الاحتفاظ بالاستقلالية التي تتمتع بها حتى الآن، مما يسمح ببقاء ايران سليما وبشكل غير مباشر في العراق. على الصعيد الدولي، لا يمكن أن تكون رغبة الصدر في إقامة توازن بين إيران وخصومها الإقليميين، وخاصة السعودية، بادرة واعدة لطهران. في الوقت نفسه، على عكس معظم الجماعات المدعومة من إيران والتي تدعو إلى تقليص العلاقات مع الولايات المتحدة، فأن الصدر كما يبدو لديه وجهة نظر أكثر واقعية: الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة أمر مرحب به طالما تحترم واشنطن سيادة العراق.

استراتيجية إيران للسيطرة على الأضرار

وبغض النظر عن انعدام ثقة طهران المتزايد تجاه الصدر، لا تريد إيران أن ترى فردا واحدا أو فصيلا واحدا – سواء كان الصدر أو أي شخص آخر – يسيطر على السياسة الشيعية في العراق. فيما تنظر إيران إلى الفجوات السياسية بين مختلف الشيعة العراقيين على أنها مساحة للمناورة وتأمين مصالحها، لا سيما من خلال لعب دور الوسيط النزيه أو حتى المنسق فيما بينهم. لهذا السبب، على الرغم من أن إيران تجنبت حتى الآن اتخاذ موقف علني في الصراع العراقي الذي أعقب الانتخابات بين الصدر والاطار التنسيقي، إلا أنها لا تريد للصدر أن ينجح في طموحاته في تشكيل حكومة أغلبية. إن وجود حكومة أغلبية بقيادة الصدر سيعني أن جميع الجماعات المدعومة من إيران ستُطرد من الحكومة، الأمر الذي سيكون، في السياسة العراقية، مساويا تقريبا لمحوها من الخريطة السياسية. بدلاً من ذلك، تفضل إيران موقف “الاطار” بأن تكون حكومة توافق هي الحل الوحيد القابل للتطبيق، كما كان الحال منذ عام 2003.

عندما يتعلق الأمر بهيكل الدولة العراقية، تعارض طهران أيضا احتمال إلغاء نظام الحصص، كما يطالب بذلك عدد متزايد من العراقيين خلال العامين الماضيين. تم إدخال نظام الحصص أو المحاصصة بعد سقوط صدام. وبحسب هذا النظام الطائفي، فإن رئاسة الوزراء محجوزة للشيعة، بينما يأتي رئيس البرلمان من بين السنة، والرئيس كردي. وغني عن القول، إن إزالة النظام الحالي يعني أنه في أي وقت في المستقبل، قد يفقد الشيعة العراقيون سيطرتهم الحصرية على السلطة التنفيذية، مما سيؤثر سلبا على نفوذ حلفاء إيران في البلاد.

مع الأخذ في الاعتبار هذه المخاطر المحتملة مع التسليم بأن نفوذ الصدر هو واقع حتمي – وإن كان غير مؤاتٍ – ، فإن استراتيجية إيران الحالية في العراق تستند إلى ركيزتين أساسيتين: أولاً، منع تشكيل حكومة أغلبية، وثانيا، الحفاظ على وحدة الجماعات الشيعية المتحالفة مع ثنيها عن اللجوء إلى العنف لدفع أجندتها السياسية. فيما يتعلق بالقضية الأولى، كان تركيز طهران في المقام الأول على منع أي تحالف محتمل بين الصدر والحزب الديمقراطي الكردستاني، الأمر الذي من شأنه أن يساعد رجل الدين الطموح على تهميش اللجنة العليا للمهجرين والاقتراب خطوة واحدة من تشكيل حكومة أغلبية. لذلك، بعد أيام قليلة من الانتخابات، ورد أنه تم إرسال قائد في الحرس الثوري الإيراني إلى أربيل لتحذير الأكراد من الانضمام إلى الصدر.

أما بالنسبة للبعد الثاني للاستراتيجية الإيرانية، أي محاولة الحفاظ على الوحدة بين الجماعات الشيعية، فقد انعكست جهود طهران بشكل جيد في زيارة قاآني إلى بغداد في 7 تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي كانت، جزئياً على الأقل، محاولة سريعة لإدارة الأزمات ومنع الفتنة بين حلفاء إيران. والجدير بالذكر أن قاآني وصل إلى بغداد في نفس اليوم الذي نجا فيه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي من محاولة اغتيال يعتقد بان بعض الميليشيات الموالية لإيران من نفذها. وعلى هذا النحو، استغل قاآني الفرصة للدعوة إلى “السلام والحفاظ على الوحدة الوطنية” في العراق، مؤكداً أنه “من الضروري الامتناع عن أي عمل يهدد أمن العراق”. يمكن تفسير هذا الموقف على أنه رسالة مباشرة إلى الجماعات المتحالفة مع إيران مفادها أنه في الظروف الحالية، بإن اللجوء إلى العنف لن يؤدي إلا إلى تعقيد الوضع. قد تكون حسابات إيران أنه في الوقت الذي تكون فيه الجماعات الشيعية في موقف ضعيف بالفعل بسبب أدائها الانتخابي، فإن اختيار المواجهة المسلحة مع الحكومة لن يؤدي إلا إلى مزيد من نزع الشرعية عنها. كما يمكن أن يخدم الصدر وشخصيات أخرى تريد كبح جماح الميليشيات الشيعية. وبصرف النظر عن زيارة قاآني، فأن إيران أرسلت رسائل أخرى إلى حلفائها مفادها أنه يجب حل جميع الخلافات بالوسائل السياسية.

وعلى نفس المنوال، ترى إيران في تشكيل “الاطار التنسيقي الشيعي” على أنه تطور إيجابي يمكن أن يؤدي إلى جبهة شيعية أكثر تماسكا في العراق. انما في الواقع، بالنسبة لجميع الفصائل الشيعية في العراق – باستثناء الصدريين – يبدو أن التطورات الأخيرة قد وضعت الاطار التنسيقي وبقاؤه السياسي على المحك مالم يسعى لحل خلافاته الداخلية. ربما كان هذا الشعور قد قاد رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي ورجل الدين الشيعي عمار الحكيم اللذين عبرا عن وجهات نظر انتقادية للميليشيات الموالية لإيران على مدى العامين الماضيين، والوقوف إلى جانب هادي العامري، الشخصية السياسية البارزة في الحشد الشعبي. فما كان على إيران الا أن تعمل بجد لجمع هذه الشخصيات في تحالف، الآن، جعل المصالح المشتركة بينهما أقرب مما يمكن تخيله حتى قبل بضعة أشهر. جاءت هذه التجربة بتكلفة باهظة، لكنها قد تكون ذات قيمة لإيران إذا تمكنت الجماعات المدعومة من إيران من اجتياز هذه المرحلة بأمان ولم يتم تشكيل حكومة أغلبية الصدر.

السنة والمستقلين

على الرغم من أن الصدر يبدو أنه التهديد الأكثر خطورة لمصالح إيران في العراق في الوقت الحالي، إلا أن الممثلين السنة والمستقلين في البرلمان المقبل يمكن أن يصبحوا أيضا تحديا لإيران. كان لمحمد الحلبوسي وخميس الخنجر، بصفتهما قائدي الكتلتين السنيتين الرئيسيتين في البرلمان الجديد، علاقات إيجابية بشكل عام مع إيران. كما تعاون الحلبوسي، الذي شغل منصب رئيس البرلمان العراقي منذ 2018 ، بشكل وثيق مع العامري، الذي حصل تحالف فتح فيه على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان السابق. ومع ذلك، فالحقيقة أن الحلبوسي قد تمكن من رفع مكانته كشخصية سنية شعبية قد تكون مقلقة بالنسبة لإيران، لقدرته على تحجيم الانقسامات بين السنة وتحويلهم إلى جبهة موحدة في السياسة العراقية. كما تشعر إيران بالقلق من محاولات خصومها الإقليميين السنة، مثل المملكة العربية السعودية وتركيا، للتأثير على كل من الحلبوسي والخنجر. إلى جانب ذلك، كما في حالة الأكراد، يمكن لقيام تحالف محتمل بين الحلبوسي والصدر، يمهد الطريق لتشكيل حكومة الأغلبية المطلوبة ودفع الجماعات الشيعية الأخرى إلى الهامش.

كما شهدت الانتخابات الأخيرة نجاحا كبيرا للمرشحين المستقلين الذين فازوا بأكثر من أربعين مقعدا. تعتبر ايران هذا التطور بالنسبة لها مقلقا، حيث يمكن اعتباره علامة على أن المجتمع العراقي ينأى بنفسه عن الكتل القديمة والسياسة التقليدية. وفقا لذلك، قد تحتاج إيران عاجلا أم آجلا إلى تكييف سياستها تجاه العراق مع الحقائق السياسية والاجتماعية الجديدة في البلاد. في الوقت الحالي، وقبل تشكيل البرلمان الجديد فعليا، من المتوقع أن تتبع إيران نهجا حذرا، مما يعني أنه لن يتم أي تواصل إيراني مباشر مع المستقلين. في الوقت نفسه، بدأت المجموعات الموالية لإيران والصدريون بالتحرك في محاولة جذب شخصيات مستقلة إلى معسكراتهم. وغني عن القول، من سيفوز في معركة النفوذ هذه بين المستقلين، تكون لنتائجها تداعيات على إيران وحلفائها العراقيين.

بشكل عام، من المبكر القول إن إيران الآن في مرحلة السيطرة على الضرر في استراتيجيتها الخاصة بالعراق، لتقليل الآثار السلبية التي احدثها فشل حلفائها في الانتخابات البرلمانية. الركائز الاساسية التي تسعى اليها ايران، هي منع نشوب صراع مسلح أو عنف واسع النطاق يشارك فيه حلفاؤها في العراق، والحفاظ على التماسك بين الجماعات الشيعية، ومنع تشكيل حكومة أغلبية أو أي إعادة هيكلة للدولة العراقية. إلى أي مدى ستنجح المجموعات الولائية في مواصلة العمل معا ككتلة متماسكة، من ناحية، والسنة والأكراد والمستقلين، من ناحية أخرى، لنجاح إيران أو فشلها النهائي.