الفلسفة والاستحمار نقيضان لا يجتمعان، كون الفلسفة طريقة منهجية ومنظمة في التفكير، لكنها لا تعتمد المنهج الاحادي المتفرد، ولا تعترف بالنمطية وسياقات التفكير الأصولي التقليدي الثابت، ولذلك كانت الفلسفات متنوعة ومتعددة عبر التاريخ وفقاً لاختلاف مناهج وطرق الفلاسفة، وبذلك تعددت المدارس والمذاهب الفلسفية، نتيجة ذلك الاختلاف الفكري والمعرفي الذي يعترف به الفلاسفة والذي شكل فضيلة عقلية كبيرة ممتعة يتمسك بها الفيلسوف، ليعبر عن فكره وفلسفته وثقافته بحرية مطلقة دون قيد أو شرط، ودون هيمنة ووصاية ثقافية وأيديولوجية ضاغطة عليه تحرف مسار التفكير الحر وتخرجه من أفقه الرحب ومساحة تفكيره الواسعة. ونتيجة ذلك الطريق والمنهج النقدي والعقلي الحر الذي خطه الفيلسوف لنفسه والذي جعله مبدعاً ومنتجاً وحاضراً بقوة في مجالات مختلفة، فقد تعرض في مقابل ذلك لضغوطات وخصومات وجبهات مضادة له تحاول سحبه الى دوائر الأيديولوجيا والدين والسياسة، وكانت هذه الجبهات تنظر الى الفيلسوف بانه كائن خطر خارج على كل شيء، العقل والتاريخ والمجتمع والعقيدة، ومن لطائف الأمور وأخطرها أن تلك الدوائر الضاغطة ذات الوصاية المطلقة تملك وسائل قوية لأقناع الجماهير وعامة الناس بخطر الفيلسوف وفكره، وبأنه شخص رافض لكل متبنياة وعقائد الجمهور، ومشكك بكل ما يعتقدون، وخطاب أولي الأمر هؤلاء وأصحاب الوصاية الفكرية والدينية أقنع الناس بتلك الأفكار المزيفة الجوفاء، مما جعل الجماهير تؤمن بتكفير الفيلسوف وعده شخصاً خارجاً على الملة، وبذلك استطاع حماة العقائد والأيديولوجيا من تشكيل جيش حقيقي قادر على محاربة الحقائق وتصفية الحق والفيلسوف كما يشتهون، وابقاء سلطة الوصاية والزيف والاستحمار التي هي المحرك الأساس لتوجهات الجماهير.
اذا كان التفكير الفلسفي له قابلية الأنفتاح والتنوير واتساع الرؤى والأفكار، فالأستحمار مضاد له تماماً، الأستحمار طريق الخضوع والتقوقع والسير وراء العامة دون نظر أو تفكير، الاستحمار هو محاولة السير وراء الآخرين معصوب العينين، مهما كان هذا الآخر فرداً أو جماعة أو مجتمعاً أو حزباً أو ديناً أو فكراً أو فلسفة، وكما قال علي شريعتي ( الاستحمار، تزييف ذهن الانسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن “النباهة الانسانية” و “النباهة الاجتماعية” فرداً كان أم جماعة. وأي دافع عمل على تحريف “هاتين النباهتين” أو فرد أو جيل أو مجتمع عنهما، فهو دافع أستحمار ᴉ وان كان من أكثر الدوافع قدسية وأقدسها اسماً…انه لمن سوء الحظ أن لا ندرك ما يراد بنا، فيصرفوننا عما ينبغي أن نفكر فيه من مصير مجتمعنا أو أفكر فيه أنا من مصيري “كانسان” الى أن نفكر في أشياء نحسبها راقية جداً وعظيمة ومشرفة، فيصيبون الهدف دون أن نشعر ᴉ) علي شريعتي. النباهة والاستحمار. ص 44.
اذاً الفكر والوعي والتعقل والثقافة والتنوير والاجتهاد كلها تعد ” نباهة ” في مقابل ” الاستحمار ” الذي يعد زيف وتحريف وتشويه وتقوقع وظلمة وقيود تجعل الانسان أسير لفكره أو جماعته أو أيديولوجيته أو معتقده الذي لا يشارك هو في صناعته، ويتلقاه جاهزاً بالمباشر من قبل الآخرين، كما هو يقاطع الآخر ولا يعترف به شريكاً في الحياة والفكر والوجود، والسؤال هو : اذا كان هناك نوع من الاستحمار الفكري والديني والثقافي والسياسي كما يشير شريعتي لذلك، فهل هناك استحمار فلسفي موجود بيننا، وما هي صورته؟ وهل منا من يسلك طريقه ويرتاد طرقه؟ وهل لهذا الاستحمار من موجه له وما هي مؤثراته على الفكر والمجتمع والحياة والاجيال؟ وهل من محارب وناقد من ذوي النباهة لهذا الاستحمار؟ أسئلة كثيرة في هذا المجال ولربما في ذهن القاريء اللبيب النابه الكثير منها مما تمتع وتوسع من فكرة المقال وتوجهه الوجهة الصحيحة والأرقى، مما يعجز هذا المقال البسيط عن تغطيته بالكامل.
جعل بعض الفلاسفة والمفكرين والباحثين التفكير الفلسفي محصوراً بفئة معينة من الفلاسفة الآخرين وأتباعهم وفق طرقهم وفلسفاتهم بالمطلق لهو نوع من أنواع الاستحمار، لأنه تقليد بالمطلق وسير على الطريق دون نقد أو ابداع او اجتهاد، وهو نوع من أنواع التقديس لزعامات وفلسفات وأفكار معينة ومحددة غير قابلة للتفكير والتحوير، مما جعلها أيديولوجيات موجهة لتحركات فلاسفة ومفكرين ملأوا التاريخ والمجتمعات بالضجيج والأفكار والمعتقدات، كمن يعكف على تقديس أفلاطون أو أرسطو أو الغزالي أو أبن رشد أو هيغل أو ماركس أو نيتشة، ولا يحيد عن طريقهم أبداً، وهذا ما نجده على مر التاريخ الفكري والفلسفي، وتاريخ الفلسفة مليىء بالشواهد على ذلك، ووصلت الأفكار الفلسفية والفلاسفة الى حد التقديس والعصمة، فهذا أبن رشد، الفيلسوف الأندلسي المسلم الكبير يقول بحق أرسطو بأنه الفيلسوف الذي (كمل عنده الحق)، و(أن العناية الالهية أرسلته الينا لتعليمنا ما يمكن علمه) وهذا ما جعل الكتاب والباحثين يصفون أبن رشد بأنه قد غالى وتطرف بتقديس ووصف أرسطو بالكمال والعظمة عن باقي الناس، هذا ما فعله العقل المسلم بتقديس الآخرين، فهل تناسى أبن رشد قول أرسطو المشهور بحق استاذه افلاطون الذي قال فيه : (أنا أحب أفلاطون، ولكن حبي للحقيقة أكبر منه)، ما أجمله من قول فلسفي وفكري كبير يعرض فيه أرسطو قيمة افلاطون وقيمة الحقيقة، وبالتأكيد فالحقيقة أكبر من أي انسان كان، الحقيقة التي يجب أن تعرفها بنفسك كما يعرفها الآخرون، فأفلاطون انسان وأرسطو انسان قبل أن يكونا فيلسوفان شغلا الدنيا بفكرهما وعلمهما، فالانسان يخطأ ويصيب حسب مبلغ علمه ودرجة اجتهاده، وما يكون صالحاً في زمن قد لا يصلح في زمن آخر، وما يطبق في مكان قد لا يصلح في مكان آخر، فلكل زمان ومكان رجاله وعلومه وفنونه وخصوصيته، والقداسة تضر بالانسان ولا تنفعه، فاذا كان الانسان مقدس ككائن له كرامته ووجوده، فهذا لا يعني سيادته واستبداده وتجبره على الآخرين، ويصول ويجول دون رقيب أو حسيب، حتى وأن كان مفكراً أو فيلسوفاً، فنزع القداسة عن أي انسان، مهما علا أو كبر، أمر ضروري لابد منه، كي لا يتغطرس ويتجبر في الأرض، ولكن ينبغي أيضاً أن لا نحط من هذا الانسان وذاك المفكر أو الفيلسوف وأن نحفظ حقه ونُقيم فكره، ولكن وفق الأمر والحد الطبيعي دون أفراط أو تفريط، ودون مغالاة أو تطرف، وينبغي احترام المفكرين والمبدعين وكل من له منزلة علمية ومعرفية، في أي مجال من مجالات العلوم والفنون والآداب، ولكن الذي يجب مراعاته هو عدم تقديس تلك الأفكار والشخصيات وانزالها منزل العصمة والكمال، فكل منجز بشري معرض للنقد والتحليل والفحص والتمحيص، وأن يكون للانسان رأيه وموقفه من كل شيء، وأن يعترف بحقوق الافكار وبصوابها وخطأها، وأن يعمل عقله وتفكيره في تمحيص الافكار وتبنيها، وأن لا يسير ورائها بصورة عفوية وعاطفية دون نظر وتحليل، فأن تقديس الافكار والفلسفات والفلاسفة قد تظر بها أكثر مما تنفعها، وهذا ما يعمل عليه مجموعة من الناس حين يسيرون وراء الافكار سير أعمى وكأنها أُنزلت من السماء.
ومن الاستحمار الفلسفي هذا النوع من التقليد والاتباع الأعمى، فنحن مثلاً في مجال تدريس الفلسفة والافكار تجد منا من لا يتدخل في نقد وتحليل آراء وأفكار الفلاسفة والفلسفات المطروحة، وننقلها للمتلقي بالحرف الواحد من كتب ومصادر معرفية متعددة، والغالب على طبيعة الدرس الفلسفي هو التلقين والملائية التي أبتلينا بها، فمن النادر أن تجد مدرساً للفلسفة بعقل فلسفي ناقد، بل قد تجده منغلقاً حتى على ما درسه أو كتب عنه من مفكر أو فيلسوف أو فكرة أو موضوع ما، يردده بصورة ببغاوية على الطلبة من جيل الى جيل، وكأن وظيفته هي هذه الملائية وترديد ما جاء في الكتب والمصادر، وكتابة الشروحات والمطولات على كتابات الفلاسفة ونظرياتهم، دون أن تكن لنا أفكارنا وفلسفاتنا الخاصة بنا، والتي تعبر عن زماننا وواقعنا الذي نعيشه، كما عبر الفلاسفة عن أزمنتهم وواقعهم ومشكلات عصرهم، بل هناك من الذين لا يطيقون من يحاول الخروج على هذا النسق الجامد، وينظرون اليه نظرة ازدراء وريبة، وقد يكفروه ويسفهوه ويصفوه بالخارج على الملة، ملتهم التي أعتادوا عليها، والاسوار والسلاسل التي قيدوا بها أنفسهم، مما جعلهم يدورون في حلقة مفرغة لا خروج منها، أليس في هذا التفكير وتلك الطريقة نوع من الأستحمار والاستغفال والكسل والتعطيل لما جاءت به الفلسفة من منهج عقلي حر، ولما جاء به الفلاسفة من أفكار وطرق في التفكير؟ أليس في تلك الملائية والببغاوية نوع من قتل للفكر والعقل الذي أمرنا الله به أن نتفكر ونتبصر في كنه الأشياء وكينونة الوجود؟ أليست الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق ؟ فلتكن العقول المفكرة بعدد الخلق وأن نفكر بطريقة محترمة تخلق فينا الحس النقدي والأعتراف بالاختلاف والآخر، وأن لا نؤسس لأسيجة معرفية ولا حدود فكرية توقعنا في متاهات التكفير ولعن التفكير، للدفاع عن حقوق فردية أو حزبية أو أيديولوجية تودي بنا الى حقل الطائفية الفكرية وتكميم الأفواه والحريات.