الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، ضم الدراسات والتعقيبات والمداخلات الخاصة باللقاء السنوي الرابع عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية. ويهدف إلى تنمية فهم مشترك لجذور الاستبداد ومصادره الدينية والحداثية ومسوغاته وآلياته وسبل تفكيكه والعمل على تعطيل آليات إعادة إنتاجه في السياسة العربية. وقد بذلت فيه جهود لكشف الوجه الباطني للاستبداد والتسلط، وكشف أساليب تجديد الاستبداد في الحياة السياسية تحت لافتة الديمقراطية الشكلية المفرغة من المضمون، بالإضافة إلى جهود في بحث جدلية الداخل والخارج في ظاهرة الاستبداد السياسي في النظم العربية الراهنة التي تشهد في الوقت الراهن عودة ثقيلة إلى العامل الخارجي في السياسة الداخلية.
فالعرب جميعاً يدركون وجود ظاهرة الاستبداد المزمن في حياتهم السياسية ويقف الجماعات والأفراد عاجزين عن مواجهتها بشكل جماعي فعال يضع حداً لها. والمجتمعات العربية موصومة بعار القابلية للاستبداد، هذا على الرغم من كثرة الأرواح التي أزهقت في المواجهات والملاحقات وتحت التعذيب، وما شهدته المعتقلات السيئة الصيت من أعداد سجناء الرأي والناشطين من مختلف التيارات وسائر القوى السياسية المعارضة لنوع أو آخر من أنظمة الحكم العربية.
ومع كل هذا الإدراك وتلك المعاناة نشهد الاستبداد يستمر ويشتد ونراه يتجدد بمسوغات حداثية وأخرى تقليدية وتحالفات وتطبيع حتى مع الآخر/ العدو المهيمن عسكرياً ومخابراتياً واقتصادياً يستبد بأمر الحكام ويفرض خياراته على قراراتهم، والحكام لشدة رغبتهم في الاحتفاظ بكراسيهم يتسابقون إلى تنفيذ تلك القرارات.
في هذه الحالة المستدامة من الاستبداد، تتطلب اليوم وقفة نقدية ذاتية متأتية من قبل كل تيار وقوة سياسية أهلية عربية واضعة نفسها أولاً وبقية التيارات والقوى الأهلية تحت المجهر قبل أن يكون بإمكانها وضع أنظمة الحكم وامتداداتها الخارجية في مرمى القول الذي يقترن بالفعل ويكتسب القدرة على التأثير لما يتمتع به من صدقية تعبر عن إرادة التغيير:- (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
إذا كانت الديمقراطية قد سودت فيها صفحات كثيرة بحثت في جذورها وبذورها وشروط قيامها، فإن نقيضها الاستبداد لم يلق العناية نفسها ولا البحث الذي يستحقه، فقد ظل الفكر العربي عندما عاد إلى الاهتمام بالديمقراطية يبحث في الغائب وعنه، وأهمل الحاضر الجاثم فوق الصدور، ومع إن الخلافة الراشدة قد بقيت تتحدد في ضمير المسلمين على مر العصور بكونها الحكم المبني على الشورى، فإن الملك العضوض بلغ من العمر الآن 1380 سنة لم يسبق أن عرف التعريف الذي يعطيه مضموناً يبقى حياً في ضمير الأجيال المتعاقبة.
إن المستبد من تفرد برأيه واستقل به، فقد يكون مصلحاً يريد الخير ويأتيه. أما الطاغية فيستبد طبعاً مسرفاً في المعاصي والظلم، وقد يلجأ في طغيانه إلى اتخاذ القوانين والشرائع ستراً يتستر به فيتمكن ممـا يطمح إليه من الجور والظلم والفتك برعيته وهضم حقوقها. وقد يكيف فضائعه بالعدل فيكون أشر الطغاة وأشدهم بطشاً بمن تناولتهم سلطته.
والاستبداد في جوهره مشكلة معرفية، إذ هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة، فهو حالة من حالات احتكار المعرفة وامتلاك الحقيقة والادعاء بكمال العلم بظاهر الأمور وباطنها أو هو تجسيد لحالة من إطلاق الذات ونسبية الآخر. فالمستبد برأيه هو من لا يرى في آراء الآخرين وأفكارهم وجهاً من وجوه الحقيقة أو معنى من معاني الصحة. ولذلك لا يتعامل مع الآخرين إلا على أساس إنهم قاصرون يحتاجون إلى وصي أو عائل أو ولي أمر يقرر لهم ويتصرف في شؤونهم تصرف الوصي في شأن المحجور عليه عقلاً أو القاصر سناً.
الاستبداد باعتباره من ظواهر الاجتماع السياسي لا يولد اعتباطاً ولا يتراكم جزافاً وإنما تحكمه مجموعة معقدة ومتشابكة من الأسباب والشروط والظروف، يتداخل فيها الذاتي والموضوعي والداخلي والخارجي والاقتصادي والثقافي. فهو ثمرة مجموعة مركبة من القوى والبواعث المختلفة في طبيعتها المتفاوتة في درجة تأثيرها المتشكلة بظروف المكان والزمان.
ففي بحث معنى الاستبداد، ينصرف الذهن إلى معانٍ عديدة منها، الحكم الذي:- يسرف في استخدام القوة.. الذي يستهدف المصلحة الخاصة للطاغية وبطانته.. تكون السيادة فيه للحاكم وليس للقانون.. السيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد… ومع تعدد هذه المعاني فإن المحور الذي تدور حوله هو الإنفراد بإدارة شؤون المجتمع من قبل فرد أو مجموعة عن طريق الاستحواذ والاستيلاء والسيطرة من دون وجه حق، مع استبعاد الآخرين وإصدار مبدأ المساواة في حق المشاركة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
لقد عرف الاستفراد بالسلطة والتحكم في رقاب الناس والاستئثار بخيرات مجتمعهم في تاريخه الطويل بأسماء مختلفة ليس الاستبداد إلا واحداً منها. وربما عُدَّ مفهوم الطغيان من أقدم المفاهيم التي اختلطت بمفهوم الاستبداد حيث استخدما للإشارة إلى أنظمة الحكم التي تسرف في استخدام القوة في إدارة السلطة والسيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد أو باعتبارهما مترادفين غامضين للحكم القسري التحكمي متعارضين مع الحرية السياسية والحكومة الدستورية وحكم القانون.
ويميز البعض بين مفهوم الاستبداد ومفهوم الطغيان من زاوية صفتي القهر والجبر اللتين يشتمل عليهما مفهوم الطغيان، في حين إن الاستبداد لا يتضمنها في معناه بالضرورة، فالاستبداد من حيث هو تصرف غير مقيد وتحكمي في شؤون الجماعة السياسية، يبرز إرادة الحاكم وهواه ولا يعني بالضرورة إن تصرف الحاكم ضاغط بعنف على المحكومين غير مبال بقواعد العدل والإنصاف.
الحالة الاستبدادية شبه المستديمة في النطاقين العربي والإسلامي، تعود بنا إلى الجذور الأولى لقضية الحكم في تاريخنا السياسي. هذا الحكم تعامل مع المعارضة السياسية بأقصى درجات البطش والتنكيل منذ عهد معاوية حتى يومنا هذا.
في الإسلام لا توجد وصفة دينية ملزمة لشكل ومؤسسات الدولة. ولم ينشئ النظام السياسي الذي تولى الحكم بعد النبي (ص) شكلاً محدداً أو آليات معينة لاختيار رأس السلطة أو حاكم الدولة. ولم يوجد نص قرآني لتحديد مؤسسات الحكم أو التشريع بل ترك الأمر لاختيار وتوافق جمهور الناس بما يتوافق مع الزمان والمكان والظروف المتغيرة بما لا يتعارض مع ثوابت ومبادئ الدين الإسلامي.
كان اعتبار الشريعة الدينية أساس الحكم هو السبب في عدم تطوير نظام مدني في ممارسة الحكم، ثم بعد ذلك تفصيل نظريات لاحقة لشرعنة تسلم الحكم والسلطة حيث تم دعمها بالآراء والأحاديث مما أضفى عليها قداسة تعلو على أي نقاش أو محاسبة.
من هذه النظريات: اختيار أهل الحل والعقد، إن الإمامة، تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته. ومنها أيضاً، العهد في الإمام السابق، وتشمل ولاية العهد والميراث، وهناك الاستيلاء أو الغلبة. وهذه النظريات لا ترقى إلى صفة الالتزام الديني أو العقيدي وإنما كانت مستقاة من تجارب تطبيقية أسست في غالبيتها لاستبداد سلطوي صاحبه إرهاب فكري وديني مهد لغرض الوحدة القسرية للجماعة.
تطابق مع ذلك مفهوم ولي الأمر في النظام الرسمي الإسلامي، فعندما يصل حاكم إلى السلطة فإنه يصبح ولياً للأمر، أي حاكماً بأمر الله، ويتم الاستناد في تمتعه بطاعة الآخرين للآية: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فيتم إضفاء الصبغة الدينية على استبداد الحاكم.
ولا تختلف عن ذلك فكرة ولاية الفقيه عند الشيعة التي سعت في تطويرها تجربة الحكم في إيران من خلال شروط ملزمة لمعالم صلاحيات الولي الفقيه حيث لم تمنع أن ينتخب الشعب حاكماً ويمارس حقه في الانتخاب ليصبح الولي الفقيه مراقباً لأداء مؤسسات الحاكم.
وفي المحصلة، يمكن القول إنه تم استخدام الدين بما هو قوة فوق طبيعية لإضفاء الشرعية على سلطة الحكم وتوجيه الناس إلى إطاعة قوة السيطرة والاستبداد. وفي ذلك، قد يتم استخدام سلاح الفكر إلى جانب سلاح القهر – الجبر لتسويغ التحكم بالسلطة.
في غضون ذلك، لم يتم تطوير آليات تلزم أو تعمم مبدأ الشورى، ولم يتم إنتاج صيغة تعاقدية (عقد اجتماعي) لتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكومين وظل الاستخدام الجائر لـ التبعية المعلقة في رقبة الناس وطمست تاريخياً فرصة الاستفادة مما تحتويه المبادئ الإسلامية من قيم إيجابية كان يمكن أن تساهم في تطوير آليات ديمقراطية وعادلة للحكم.
الاستبداد في البلاد العربية هو داع ومبرر للمطالبة المتزايدة اليوم للانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية. فالاستبداد وهو سيد الموقف في الحياة السياسية على المستويين الرسمي والأهلي. وحكم التغلب القسري، على الرغم من انحساره في العالم لصالح نظم حكم ديمقراطية ما زال النموذج السائد لنظم الحكم في الدول العربية مهما اختلفت أشكالها وتعددت مسمياتها.
إن القاسم المشترك بين أنظمة الحكم العربية، الملكية منها والجمهورية، هو حقيقة تغلب حكامها القسري على البلدان التي يحكمونها من دون تفويض من شعوبها، وحاجة هذا التغلب القسري دائماً إلى تجديد آلياته لاحتواء وتحديث أدوات العنف وابتكار سياسات إقصاء المعارضين معنوياً ومادياً وإجبارهم على الانسحاب من الحياة العامة والتزام الصمت السلبي أو دفعهم إلى الانشقاق والتآمر، وربما اللجوء إلى العنف حتى يقعوا في مصيدة الدولة ولعبتها المفضلة باعتبارها الجهة الشرعية لاحتكار العنف.
الحالة الاستبدادية في نظم الحكم العربية تمارس كشكل تسلطي وكسلوك يومي في المؤسسات وكثقافة وقيم. أما آليات إعادة إنتاج هذه الحالة فتستند إلى عوامل أساسية تتمثل في الظروف التي تؤدي إلى شيوع الفردانية الملهمة الكاريزمية واستخدام الآلة الإعلامية في تزييف الحقائق وتزويرها وتفتيت الظاهرة الحزبية وإفراغها من مضمونها وتسلط المؤسسة العسكرية على الحكم بالتحالف مع جماعات المصلحة.
وفي سياق ذلك، فإن الآلية الرئيسية التي تساهم في ترسيخ الحالة الاستبدادية تتمثل في الفجوة المتزايدة بين الدولة والمجتمع، وبعبارة أخرى، الاختلال بين دولة تزداد قدرة على الضبط الرقابي ومجتمع متذّرر مقطوع الأوصال تمكنت الدولة من تجريده من كل ممكنات الفعل والقدرة الحيوية والحصانة.
في هذه الحالة (سلطة البعث الحاكم في العراق نموذجاً)‘ فإن الدولة تتجاهل مقتضيات الحداثة طالما إن التحديث بالشاكلة التي تتوخاها يتفق وأهدافها، التحديث من دون حداثة، حيث يجري توظيف تقنيات وثمار التحديث لصالح تقوية مؤسسات السيطرة وآلياتها وخاصة قطاعاتها الأمنية والاستخبارية.
ففي إطار الأمنوقراطية وسيادة العقلية السياسية الأمنية، صارت الأجهزة الأمنية بديلاً عن الحزب والحكومة والمجتمع المدني واحتكرت هذه الأجهزة العنف شرعياً كان أو غير شرعي.
إن من أهم الآليات التي تعددت، هي قيام حزب البعث العراقي وفي أكثر من حالة عربية، بتوزيع الفرص بين أعضائه ومؤيديه من القيادات المدنية والعسكرية بالاعتماد على معيار الولاء من دون معيار الكفاءة… في غالبية الأحوال ، فإن حزب البعث – وغيره في بقية الدول العربية- لا تتوفر له القاعدة الجماهيرية التي تعضده ومن ثم فإنه يسعى لتكوين تحالفات مع القوى الأخرى في مواجهة انفراد الحزب بالسلطة وسعي لتحالفات متنوعة تحت مظلة الجبهة الوطنية القومية التقدمية. وبتوزيع الفرص والموارد على المؤيدين، فإن ذلك يفضي إلى الإضرار بفرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يترتب على ذلك من التشوهات الاقتصادية وتبديد موارد المجتمع مع الظواهر الأخرى التي صاحبت ذلك، مثل ترييف المدينة وإعادة هيكلة المجتمع المدني وتكوين ولاءات جديدة في التنظيمات المجتمعية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تباطؤ فاعليتها، وذلك من أجل السعي إلى تثبيت نظام الحكم واستدامته. ويمثل النموذج العراقي هذا، الذي يمكن تصنيفه بـ التسلطية المركزية المفرطة، نموذجاً لبؤس النظم العربية.
هذه الأبعاد المتعددة والمعقدة لظاهرة الاستبداد وحكم التغلب الماضية والحاضرة منها والمستقبلية، شكلت محور اهتمام هذا الكتاب الشامل من حيث الاتساع الجغرافي وتنوع النظم والقوى والموضوعات التي غطاها الكتاب.
فقد جاءت موضوعات الكتاب المتعددة والمتنوعة تعبر عن اتساع الاهتمام العربي بمخاطر استمرار ظاهرة الاستبداد وحكم الغلبة في الحياة السياسية العربية، حيث إن الآلام والمعاناة من استمرار حكم التغلب القسري وتفشي الاستبداد في مختلف جوانب الحياة السياسية وتعاظم شروره على حاضر العرب ومستقبلهم ظاهرة شاملة تعم الدول العربية وتطال مختلف المستويات الأهلية منها إلى جانب الرسمية.
احتوى الكتاب ثلاثة أقسام، تناول الأول منها جذور الاستبداد الدينية منها والحديثة. كما تم سبر الوجه الباطني للاستبداد والتسلط إلى جانب تسمية الاستبداد بل الطغيان الظاهر باسمه وتحديد مواقعه وتجلياته. وبذلت جهود لكشف أساليب تجديد الاستبداد في الحياة السياسية العربية تحت لافتة الديمقراطية الشكلية المفرغة من المضمون.
وسعى القسم الثاني إلى فهم الاستبداد والكشف عن جذوره الفكرية والثقافية وتحديد مفاهيمه ومسوغاته، كما جرى التطرق إلى الانشقاق الثقافي والازدواجية الثقافية باعتبارهما من أسباب استمرار الاستبداد وتكريسه في الحياة السياسية العربية عبر العصور.
أما القسم الثالث، فقد رصد مظاهر الاستبداد وتجلياته في الدولة العربية. كما تطرق إلى آليات الاستبداد وإعادة إنتاجه، وإلى روافد الاستبداد وحدود الديمقراطية الراهنة في الدول العربية.
وتضمن القسم بشكل خاص حالات من مصر والعراق والمغرب والجزائر، وتطرق إلى دور المعارضة والشقاق بين أطرافها في تكريس الاستبداد أو استبدال مستبد بآخر.
وتطرق هذا القسم إلى جدلية الداخل والخارج في ظاهرة الاستبداد السياسي في النظم العربية الراهنة التي تشهد في الوقت الراهن عودة ثقيلة إلى العامل الخارجي في السياسة الداخلية.
الكتاب :
الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة ، إسماعيل نوري الربيعي.. وآخ، تحرير – على خلفية الكواري، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية ومشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، بيروت،2005، 571 صفحة.
[email protected]