18 ديسمبر، 2024 4:54 م

إن أي تغيير بفعل قوى خارجية لا بد أن تترتب عليه أثمان فادحة ستواصل الأجيال اللاحقة دفعها عبر عقود من عبودية جديدة لها قوانينها ومنظروها.

عندما تستطيب الأغلبية دور الضحية الضعيفة مسلوبة الإرادة تمسي حالتها دعوةً أكيدة لاستبداد السلطة، وعندما تكون هذه الأغلبية عزلاء معوزة ترهبها الفتاوى والوعيد والتلويح بالقصاص، تنصاع لما يراد لها دونما مقاومة، فلا تبدي حينها رفضا أو مقاومة بل تتقبل الأمر على أنه قدرها المرسوم الذي لا محيد عنه وتقتنع بأن رفضها سيكون دربا سالكة للجحيم، ويصبح انصياعها دعوة معلنة منها لتعزيز استبداد السلطة واستمرارها في مظالمها وتحفيزها على الإتيان بأساليب جديدة لنهب ما تبقى من حقوق لتلك الأغلبية المنهكة وسلبها كرامتها الإنسانية.

في كتابه “تاريخ ويوتوبيا” يعلق أميل سيوران على علاقة الضحية بالمستبد ويقول: “ليس من قائد أو فاتح إلا ويحتقر الشعب، ويتقبل الشعب ذلك لأنه لو توقف عن لعب دور الضحية الواهنة وتمرد على مصيره المحتوم لتبخر المجتمع البشري ومعه التاريخ كله”.

الشعب بقبوله احتقار الحكام له يدعم تجبر سلطتهم وطغيانهم ويعزز احتقارهم للجموع الخانعة، وكلما استمرت هذه الحالة على ما هي عليه، تترسخ سلطة المستبدين يوما بعد يوم وتلبث الضحية المؤبدة في صورة عجزها وانصياعها.

من المحال استمرار سلطة متجبرة دونما شعب مستسلم لمخاوفه، تلك المخاوف التي تتحكم بالسلوك اليومي لأغلبية البشر: الخوف على اللقمة والخشية على العائلة والرهبة من فقدان العمل، وأشد المخاوف حضورا الخوف على السلامة الشخصية. وفي هذه الحالة لا يكتفي الشعب المغلوب على أمره بالصبر وتحمل المحن التي انهالت عليه، بل إنه بخنوعه واصطباره يستدعي المزيد من الكوارث والأذى ويخشى أن ينتفض تحسبا لكوارث قد تكون أشد فظاعة من المحن التي كابدها وعرفها كما توهمه مخاوفه؛ فيسلم مصيره لإرادة السلطة المستبدة ويذعن لمشيئة الخرافة متلذذا بعذابه.

وإذا قيض لشعب ما أن يغادر الإذعان وينتفض، فسيكون من أول أهدافه نهب ممتلكات الدولة أو تدميرها لإشباع شهوة الانتقام وإمعانا في التنفيس عن غضب متفجر جرى كبته بالاصطبار وتنوع المخاوف وحسابات الربح والخسارة؛ فلا تؤدي انتفاضته العاطفية حينئذ إلى تعزيز الآمال أو تحسين الأوضاع التي طالما تشكّى منها، وتمضي الجموع المدججة بالخيبات والعوز والغضب لتقتص من مواثل السلطة وبنية الدولة.

وسرعان ما تتعزز قوة السلطة وطغيانها إزاء تخريب الجموع الغاضبة وتسارع لكبح الفوضى التي فجرها الغضب ومشاعر الثأر وشهوة الانتقام الجامحة، فلا تفضي انتفاضة مثل هذه إلى انتصار حقيقي أو تحقيق بعض أحلام الناس بالعدالة بل تضاعف قوة السلطة وأساليب قمعها واستمرارها في سرقة المال العام والتضييق على معارضيها.

قد تنتهي عهود ظلم وعبودية عندما تسعى بعض الشعوب لتغيير الأنظمة، ويبقى شرط الخلاص مرهونا بنوعية التغيير الحاصل: هل حصل ذلك التغيير بفعل ثورة منظمة من داخل المجتمع الذي تعرض للظلم والعبودية وسلب الحقوق؟ أم أن التغيير جرى بفعل قوى خارجية ساندت مجموعات مختارة من معارضي الأنظمة للوصول إلى السلطة؟

الجواب: إن أي تغيير بفعل قوى خارجية لا بد أن تترتب عليه أثمان فادحة ستواصل الأجيال اللاحقة دفعها عبر عقود من عبودية جديدة لها قوانينها ومنظروها، ويحصل أن تتحقق عدالة جزئية تتعلق بالوظائف وفرص العمل لفئات محددة من مؤيدي السلطة وحاشيتها، وتبدأ صيغة عبودية مختلفة تبتكر أساليبها السلطة الجديدة.

ويبقى الضحايا في حالة تشوش سرعان ما يغادرونها لينشغلوا بتعداد مناقب تضحياتهم وعذاباتهم ويحيون ذكرى عبوديتهم السابقة ويطالبون بتعويضات مادية ليعاد إنتاج العبودية في دورات متصلة يتحول فيها الضحايا إلى جلادين جدد.
نقلا عن العرب