15 نوفمبر، 2024 9:34 ص
Search
Close this search box.

الاستئثار بالسلطة وسلبياتُه

الاستئثار بالسلطة وسلبياتُه

-1-
اذا صح التسليم بقدرة (فردٍ) معيّن على النهوض بكل متطلبات مؤسسته الخاصة ينشؤها وفقاً لنظرياته ومقاساته ويُصرّفُ أمورها ، ويُدير شؤونها.

فان الوضع مختلفٌ بشكل كامل اذا تعلّق الأمر بتصريف الشوؤن العامة في الدولة، لانها لابُدَّ ان تعتمد على المؤسسات والاجهزة لا على رجل واحد يُحكم القبضة على جميع الأمور …!!!

إنَّ هناك سلبيات عديدة حين تتكثف المهام والصلاحيات وتُحصر بيد رجل واحد ..

من أخطرها الاستئثار والاستبداد بالقرار وخاصة في الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية ..

انّ وقوع البلد في دهاليز الحكم الفردي ، الذي يقترن غالباً بإحداث الأزمات والمشكلات والاحتقانات المستمرة، هو من أعظم الكوارث …

إنّ الحاكم بأمره يتحوّل الى سلطوي رهيب لا يترك لغيره شيئاً …

وقد يصل به الحال الى مرحلةٍ يختصر فيها البلد بذاته …

هذا فضلاً عن تراكم الملفات الكثيرة والخطيرة بانتظار البتّ بها من قِبلِهِ..!!

-2-

لقد كتب الراحل (اسماعيل عارف) – وزير المعارف القاسمي- في كتابه (أسرار ثورة 14 تموز ) عن (نوري سعيد) – رئيس الوزراء المزمن

في العهد الملكي –

فقال عنه :

( كان لا يقر له قرار في مكان معيّن عندما كان رئيسا للوزراء ، ووكيلاً لوزارة الدفاع والخارجية …

وغالبا ما يهمل زيارة وزارة الدفاع لعدة أيام، فتتكدس المعاملات والقضايا المهمة التي تستوجب موافقته عليها .

وذات مرة لم يحضر الى وزارة الدفاع لفترة طويلة، وكان من الصعب تحديد وجوده في احدى الوزارات التي يُشغلها فتكدست لديّ المعاملات، وزاد ضغط الدوائر ايضا عليّ ،وانهالت الاتصالات التلفونية من كل حدب وصوب حتى ان رئيس – أركان الجيش لامني على تأخير بعض القضايا.

فقررتُ أنْ ادفع نوري سعيد باي ثمن الى البت في تلك الأمور، وأواجهه بالحقيقة والصعوبات التي تعانيها وزارة الدفاع من جراء إهماله اعمالها، والتهرب من انجاز معاملاتها .

فعلمتُ انه موجود في مجلس الوزراء، حيث يقابل بعض الشخصيات السياسية ، فاتصلتُ به على الهاتف السري وطلبتُ منه أنْ يسمح لي ببضع دقائق من وقته فرفض …

وعدتُ ثانيةً بعد عشر دقائق واتصلتُ به وكررتُ طلبي ، غير انه أصرّ على الرفض قائلاً :

انك تلّح كثيرا وتضيع وقتي ..!!

وبعد فترة قصيرة علمتُ انه قد تحرّك الى وزارة الخارجية فرفعت سماعة التلفون للمرة الثالثة وقلت له :

إنّ المعاملات التي لدي لا تستغرق من وقته سوى خمس دقائق فرفض رجائي، محتجا بانه ينتظر مقابلة السفير البريطاني ، ولديه بعد ذلك اجتماع في البلاط الملكي .

فثارت ثائرتي ، وصرت العن اليوم الذي قبلتُ فيه العمل معه ،

وقد إنتابتني ثورة كادت تحرق أعصابي ،

واذا بجرس الهاتف يرّن بجانبي ، وكان المتحدث نوري السعيد فقال لي:

” سكرتير أين انت ؟

لقد ضيعتَ وقتي ، وانا بانتظارك

اريدك الآن فلماذا لم تحضر …”

فاستغربتُ ذلك أشد الاستغراب، اذ قبل دقيقتين كنتُ أنا الذي طلبتُ مقابلته فرفض وانه بلا شك نسي حديثي معه وكأنّ شيئاً لم يكن .

فأجبته بانني في طريقي اليه …

وهرعتُ الى السيارة وبصحبتي ضابط رسائل الدائرة وأحد الفراشين وهما يحملان أكداس المعاملات المتجمعة .

وبعد دقائق قليلة فتحت باب وزير الخارجية ودخلت عليه ومعي تلك الأكوام من الاضبارات … فوضعتها على طاولته دون أنْ انبس ببنت شفة، فنظر اليّ من فوق نظاراته دون ان يتلفظ بكلمة .

فقلت له :

” باشا ” المسأله بسيطة ، لاتحتاج سوى توقيعك ، وكلها مدروسة بعناية”

وبعد ان أنجز كل شي خلال دقائق … ناديتُ ضابط الرسائل لنقل الاضبارات الى السيارة ، ثم وقفتُ أمامه بكل احترام وادب وقلتُ له أنْ

يسمح لي بكلمة قبل أنْ اغادر الغرفة فلم يجيبني ، ونظر اليّ وقد اتسعت حدقتا عينيه وهو ينتظر ما سأقول ، فقلتُ له :

” باشا أنت تتعب نفسك ومَنْ حولك ودوائر الدولة وموظفيها بهذا النهج الذي لا يستطيع انسان بمفرده ان يؤديه ،

فأنت رئيس وزراء ،

ووزير الدفاع ،

والخارجية ،

وهي واجبات ضخمة ثقيلة على كاهلك ،

أنا كسكرتير لوزارة الدفاع لا يهمني شأن المؤسسات الاخرى التي هي تحت ادارة فخامتك (…) ولكن يؤلمني ان تهمل وزارة الدفاع ومعاملاتها بهذا الشكل .

وأنت تعلم أكثر من غيرك خطورة قضاياها ،

والضغط الذي أتحمله من قبل رؤساء الدوائر لانجازها .

وان البتّ فيها لا يتطلب سوى توقيع بسيط منك، لأنها دُرستْ بعناية من قبل ضباط مخلصين ومن ذوي اختصاص بعملهم .

إنّ حل هذه المعضلة بسيط ،هو تخويل اي فرد في وزارة الدفاع لكي ينوب عنك في التوقيع عليها .

وهذا الامر يتمكن من القيام به اي ضابط في وزارة الدفاع “

فنظر اليّ مبهوتاً ،

فتنبهت لقساوة حديثي ، فأضفتُ قائلاً :

ان رئيس اركان الجيش موضع ثقتكم، فلماذا لا تولونه حق التوقيع عنكم في مثل هذه الامور الروتينية، وتحتفظون لكم بصلاحيته البت بسياسة وزارة الدفاع العليا ؟

عدتُ الى وزارة الدفاع وقبل أنْ استقر في مكاني لأوزع القضايا وافق عليها وزير الدفاع، دق جرس الهاتف السري واذا برئيس أركان الجيش يطلب حضوري فوراً الى دائرته .

فدخلت عليه ووجدتُه يذرع الغرفة ذهابا وايابا وهو بحالة عصبية ، وما أن دخلتُ حتى بادرني قائلاً :

ماذا قلت لنوري باشا ؟

هل نسيتَ نَفْسَكَ انّكَ تخاطب نوري باشا السعيد ؟

ثم قال لي رئيس أركان الجيش :

نوري باشا مُغتاظٌ منك ،

ولا يريدك سكرتيراً لوزارة الدفاع بعد الآن

ويطلب معاقَبتَكَ على جرأتك في الحديث معه ..)) ص 111-113

أقول :

ما الذي حوّل نوري السعيد السياسي المخضرم الى (طاغية) لا يُطيق أنْ يكلمه أحد بما لا يروقُ له ؟!

انها لا شك السلطة، وعِظمُ الصلاحيات الممنوحة له من خلال حيازته لرئاسة الوزارة ولوزارتي الدفاع والخارجية وكالة – وهما من أهم الوزارات السيادية –

ويقول العارف عنه ايضا :

” امتزجت عنده مصلحة العراق الوطنية بمصلحته الشخصية ،

وصار ينظر الى نفسه على انه هو العراق …

وأنّ جميع الساسة المتربصين لاقتناص السلطة هم من صنعه وابتداعه .

وهذا الاعتقاد ساقه الى احتقار كل الآراء السياسية الجديدة

-3-

واذا كان ما سُقناه قد حصل في العهد الملكي البائد ، فانه قد تكرر بأبشع الصور ، إبّان الحقبة الدكتاتورية الغاشمة التي امتدت من تموز 1968 – حتى 9/4/،2003 وأفرزت لنا (القائد الضرورة) الذي فاق الطغاة السابقين جميعا، فأضحى المواطن العراقي أرخص السلع في اسواق بطشه وطغيانه ومغامراته الطائشة، وما ” المقابر الجماعية ” الاّ احدى مظاهر نزعته الهمجية …

-4-

وكنا نأمل أنْ ينعم (العراق الجديد) وأهلُه بالامن والاستقرار، والا تتكرر مأساة اتحكار السلطة ،الاّ ان السنوات العجاف الثمان (2006 – 2014) قد فتحت الباب للمقارنة بين (ماضٍ بائس) عشناه مقهورين، وبيْنَ (حاضرٍ تعيس) زاد على بؤس الماضي بالفساد الفظيع ، الذي مهّد الطريق للأوباش من (داعش) لتدنيس تراب الوطن والاعتداءات السافرة على قيمه ومقدساته وانسانه وحضارته .

-5-

وهكذا تجلّى وجوب الوقوف بوجه الفردانية ، وبكلّ قوّة وصلابة ، ومهما كانت التضحيات ، حفاظاً على مصالح الوطن والشعب ، وصيانةً للدولة ومؤسساتها من التهميش .

انها وقفة الأحرار والحرائر أمام الاستبداد والاستئثار .

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات