منذ سقوط النظام السابق عام 2003 والعراق يعيش تحت ضغط السياسات الأمريكية التي تتلوّن وفق مصالحها، لكن أكثر ما يكشف زيف شعاراتها هو موقفها المتناقض من الحشد الشعبي. فمن جهة، تتذرع واشنطن بأن وجود قواتها في العراق ضروري بحجة بقاء خطر الإرهاب وفلول داعش، ومن جهة أخرى تصرّ على ضرورة حل الحشد الشعبي بحجة أن الخطر قد زال! فأي منطق هذا؟ وأي سياسة تلك التي تريد للعراق أن يبقى عارياً بلا سلاح يحميه؟
الحشد الشعبي ليس تنظيماً طارئاً ولا ميليشيا خارجة عن القانون كما تحاول بعض الأبواق المأجورة تصويره؛ بل هو ولادة وطنية خالصة استجابت لفتوى المرجعية في لحظة تاريخية كادت أن تسقط فيها الدولة. هذا التشكيل هو من وقف بوجه مشروع تقسيم العراق وسقوط بغداد ومدن الجنوب والشمال والغرب بيد داعش، وهو من قدّم آلاف الشهداء والجرحى ليبقى العراق موحداً وسيّداً.
لكن ما يزعج أمريكا اليوم هو أن الحشد الشعبي خرج من معركة الإرهاب أكثر قوةً وتنظيماً وخبرة، وتحول إلى قوة رادعة لا يمكن تجاوزها في أي معادلة أمنية أو سياسية. ولأن واشنطن لا تريد عراقاً قوياً يمتلك إرادته وسلاحه السيادي، فهي تروّج لفكرة تفكيك الحشد بحجج واهية، محاولة إعادة البلاد إلى مربع الضعف والفوضى الذي يناسب مشاريعها ومصالحها.
كل متابع يدرك أن الخطر لم ينتهِ بعد، فخلايا الإرهاب ما زالت تتحرك في أكثر من منطقة، والتهديدات الإقليمية والدولية لم تتوقف. فكيف يُعقل أن يُطالب العراق بتجريد نفسه من أبرز قوة أثبتت كفاءتها وشجاعتها ووطنيتها في أصعب المعارك؟ الحقيقة أن هذه المطالب ليست سوى محاولة لتجريد العراق من أدوات قوته حتى يبقى تابعاً وخاضعاً.
إن الموقف الأمريكي ليس سوى جزء من مشروع أكبر لإعادة تشكيل المنطقة بما يضمن بقاء الهيمنة الأمريكية والصهيونية، ويحول دون قيام أي قوة شعبية أو وطنية يمكن أن تشكل عائقاً أمام هذه المشاريع. والحشد الشعبي، بحكم عقيدته وارتباطه العميق بأرض العراق وشعبه، أصبح شوكة في حلق هذه المشاريع، ولهذا يستهدفونه إعلامياً وسياسياً وحتى عبر الضغوط الاقتصادية والعقوبات.
لكن ما لا تفهمه واشنطن هو أن الحشد الشعبي ليس مجرد تشكيل عسكري يمكن حله بقرار سياسي أو ضغط خارجي؛ بل هو حالة شعبية راسخة، وإرادة جماهيرية تمتد من الجنوب إلى الشمال، ووعي وطني يدرك أن دماء الشهداء لا يمكن أن تُباع في سوق المساومات.
العراق اليوم بحاجة إلى تعزيز هذه القوة الوطنية، لا إلى إضعافها. فمن يريد عراقاً مستقراً وقوياً لا يمكن أن يقف ضد الحشد، ومن يطالب بحله إنما يكشف عن نواياه الحقيقية في إبقاء العراق ضعيفاً وممزقاً ومرتهناً للأجنبي.
إن الرسالة التي يجب أن تصل إلى واشنطن وحلفائها واضحة: الحشد الشعبي خط أحمر، والمساس به هو مساس بسيادة العراق وأمنه ومستقبل أجياله. وإذا كانت أمريكا تراهن على أدواتها السياسية والإعلامية لتشويه هذه الحقيقة، فإن وعي العراقيين وتجربتهم المريرة مع الاحتلال والدمار كفيلان بإسقاط كل هذه المؤامرات.
لقد ولى زمن الإملاءات، والعراق الذي قدّم التضحيات لن يقبل اليوم أن يُعاد إلى بيت الطاعة الأمريكي. الحشد الشعبي سيبقى درع الوطن، وقوة العراقيين جميعاً، ورمز سيادتهم التي حاول الكثيرون كسرها ولم يفلحوا.