23 ديسمبر، 2024 11:00 ص

الارض اعلاه  .. جدلية الوطن والمنفى   

الارض اعلاه  .. جدلية الوطن والمنفى   

اختار الشاعر عبد الحميد الصائح قصيدة “الارض اعلاه” من بين 12 قصيدة او نصا مثلما هو اطلق عليها عنوانا لديوانه الجديد الذي هو السابع في سلسلة اصداراته الشعرية. ومثلما يبدو العنوان مواربا لما يبوح به من دلالات مفتوحة زمانيا ومكانيا معا فان محاولته الهروب من القصيدة الى النص المفتوح عبر اطلاقه على مجموعته هذه بدء من المقدمة تسمية “نصوص” انما هي محاولة  منه  للبقاء في دائرة العلاقة الملتبسة على ما يبدو بين المتن والهامش. ففي كثير من الاحايين ينظر الى العنوان على انه يقف على هامش النص بينما في احايين كثيرة يبدو العنوان عتبة ضرورية تحيل الى المتن. وفي المقدمة التي تصدرت المجموعة يكتب الصائح قائلا ” مجموعة نصوص قطفت على مدى عشرين عاما بين نشرها الاول وما اضيف اليها رحلة شائكة وحياة متناثرة وعراك مباشر بين الوطن والمنفى”.  قصائد الديوان تتمحور حول متوالية المنفى |الوطن. وفي سياق الصلة التركيبية والايقاعية لبنية القصيدة لديه يحاول الشاعر اضاءة ما يبدو معتما على صعيد هذه العلاقة التي تبدو اكثر العلاقات التباسا في الشعر العربي الحديث, ناهيك عن انها واحدة من اكثر الاشكاليات على صعيد الشعر العراقي الحديث ذاته بعد ان وجد عشرات ان لم نقل مئات المبدعين العراقيين في كل مناحي الابداع وحقوله مطاردون في الخارج بـ “تهمة” المعارضة او خائفون في الداخل يلوذون بصمتهم احيانا وبالتأويل الرمزي طريقأ لمخاتلة السلطة أحيانأ أخرى. عبد الحميد الصائح وضع في “الأرض أعلاه” هذه المعادلة نصب عينيه لكنه لم “يتاجر” بها مثلما فعل آخرون لأسباب ودوافع شتى. فالصائح حاول تنقية نموذجه الشعري بجعله نصا مفتوحا على المنفى والوطن في آن واحد حتى لتجد ان كلأ من الوطن والمنفى يتبادلان الأدوار في قصيدة يتزاوج فيها المنولوج الداخلي مع البعد الدرامي من خلال الصوت الاخر الذي يستعين به الشاعر إما في إستذكار مرحلة معينة أو في البوح بما لايبدو قابلا البوح به. ففي قصيدة “ولد ولم يعد” يرسم الشاعر صورة للوطن من خلال المنفى وبالعكس من خلال ايقاع صوتي وايحائي معا ” في البلاد التي لاتراك ـ حيث حقول الليل وطواطم البكاء ـ كانت ناقصة ـ
تواقيع المنجمين على مجيئك ـ ترقب نهاية لطوفان هناك ـ حيث العراق مرتبك يسافر مع اللاجئين” قصيدة ولد ولم يعد ص 46″. لكن ما نلاحظه من خلال قراءة متانية  لنصوص الديوان وما تفرزه  من دلالات ورموز وايحاءات ان  الصورة السمعية هي التي تهيمن على بناء القصيدة لديه لانه يعيش غربة حقيقية وهي البعد عن الوطن ولكنه لايحوله الى اغتراب لانه لا يريد لصلته بالمكان |الارض التي يركز عليها بوصفها هي الحامل لفكرة الوطن والمعبر عنه حياتيا وابداعيا. الصائح يرفض الغربة بل لايعترف بها حيث نجد انه بقدر ما بقي امينا لبيئته الاولى ومدينته الاولى الناصرية وعمقها التاريخي الوجودي معا اور فانه نقل الناصرية معه اينما رحل. ففي القصيدة ـ العنوان :الأرض أعلاه يرسم الشاعر صورة رمزية مكثفة لهذه العلاقة بينه وبينها  “بين مقابر سوق الشيوخ التي ابدلتها بجنات ميتة ـ والهة عاطلين ـ وبين أسرة خارج البيوت ـ وتظاهرات مهددة بقنابل الشهوة- بين المعممين الذين هجروا دماء الإئمة ـ وساحوا الى الرومان ـ وغناء سيد حمدان الذي ظل ريقه ناشفا ـ وصوته لينا بين الحشائش”. ص 143 ـ 144.  واذا كانت “الناصرية” موطن الشاعر الاول  وهي المحور الذي تدور حوله تجربته الشعرية فانها اختزلت فكرة الوطن لديه. ولعل ما عبرت عنه كل نصوصه الشعرية هي انها تدور في هذا الاتجاه لان فكرة الغربة تحتاج الى تجسيد رمزي والا اصبحت فكرة فضفاضة  او متخيلة. اننا نجد ان  الشاعر يحتاج الى منزله الاول ـ ذكرياته الاولى ـ صفه المدرسي الاول ـ حبه الاول وهو ما يشكل في النهاية وعيه الانساني ومن ثم الابداعي لاحقا. وحين انتقل الشاعر من الناصرية الى بغداد كانت قد رافقته هذه المنظومة من الافكار والمشاعر والاحاسيس لتصقلها تجربته في مدينة كبيرة مثل بغداد عاش فيها ردحا من ذكرياته وتجاربة وشكلت الى حد كبير ملامح تجربته الحياتية والشعرية معا دون ان يكون ثمة حضور واقعي او رمزي  لبغداد ـ العاصمة لدى الشاعر حيث لم يرد ذكر لها في اي قصيدة بالديوان بعكس الناصرية ـ سوق الشيوخ ـ اور. فالشاعر انطلق من الناصرية الى الافق البعيد ليؤثث فضاءه الابداعي حتى حين تناول تجارب شخصية مع اصدقاء له ربطته بهم علاقات ذات مستويات مختلفة ” كمال سبتي, رياض ابراهيم  نصيف الناصري” فانه من خلالهم يبني تصورا  ماساويا للعلاقة مع المكان بصرف النظر ان كان بغداد او سواها”حين كان كمال سبتي يتذمر من الدنيا ـ  ونصيف الناصري يفتش في الكهوف عن الكلمات ـ ويطارح الملكات والالهة والملوك ايضا ـ داخل غرفة في مدينة الثورة ـ ان هؤلاء حقائب ملغومة ـ وان الباطني دستورنا السري”  قصيدة الخطأ الذي ارتكبته انك تلفت كثيرا ص 124. وان كان يمكن القول ان كليهما  مثلتا صورة للوطن الواحد  وتماهتا في بعد تصويري ورمزي واحد فان التعبير عنهما جاء منسجما مع رؤية الشاعر للمكان بوصفه امتداد للزمان. ولما كان ذلك يمكن ان يتحول الى نوع من المراثي او النواح فان عبد الحميد اختار مدينته “الناصرية”  رمزا لولادة مستمرة تعيش معه في الغربة. فلم تعد مكانا يتمنى العودة اليه ذات يوم بل زمانا وجوديا مستمرا معه. ففي قصيدة “الآباء” يرسم الشاعر في مخيلته صورة للمدينة الاولى في التاريخ حيث تزدحم الرؤى بالذكريات “هذه البلاد قديمة دائما ـ قديمة امس واليوم وقديمة غدا ـ تنتج الانبياء باستمرار وتتحاور مع الالهة “. ففي هذه الصورة الشعرية المكثفة لدلالات البعد والغياب يصبح من الصعب ان تكون هذه المدينة مجرد مكان يمكن ان يذوي ويضمحل ويتحول الى اطلال يبكي عليها الشاعر مثلما بكى اسلافه من الشعراء بمن فيهم شعراء معاصرون. فالشاعر هنا يعد قارئه بمهمة ابعد من ان تكون مجرد مهمة شعرية بل تكاد تجمع بين الرمز والدلالة في تنوع دلالي يغتني بالصور المستعادة من ذاكرتي الزمان والمكان. “في هذه البلاد تسكن الارواح ـ لاشئ غير الحلم ـ الحلم هو الحياة”. الصورة المركبة هي جزء من التعبير الدلالي للشعر الذي بقدر ما يحاول الابتعاد عن الغنائية من خلال تقمص شخصية رمزية تمثل قناعا له فانه يعود بنا الى الحنين الذي لايعبر عنه الا من خلال الغناء ” في محاولة منه لمؤاخاة الماضي بالحاضر. وفي  قصيدة “الارض اعلاه”  فان الشاعر يرسم صورة بانورامية لتحولات داخلية عاشها هو في اماكن مختلفة في ارض واحدة   “من طوفان نوح  الى معسكرات عين زالة ـ ومن سور الصين الى حلبجة ـ ومن المعراج الى جسر الناصرية ـ اعلو اليهم او يمطرون الي , لافرق ـ فلا خرائط للقيامة, ولا ادلاء محلفون على ما سيحدث ولا راد لك .. لي .. يا انا”. واذا اردنا البحث عن الية التعامل مع العنوان في ديوان “الارض اعلاه” بوصفه تعبيرا دلاليا يكشف جوانب من العلاقة بين الشكل والمضمون او المتن والهامش في القصيدة فان قصيدة “ناس من الناصرية” تفصح عن عوالم ودلالات مختلفة في سياق ما اراد الشاعر البوح به من خلال اختياره مجموعة من الشخصيات من هذه المدينة الموغلة في التاريخ والواقع معا. ومن الواضح انه  يسعى من خلال هذه الاختيارات الى اختزال الماضي والحاضر عبر خلق مزاوجة رمزية دلالية ينهض بها النص المفتوح على كل الاحتمالات في اطار علاقات متباينة مع هذه الشخصيات يختزلها الموت القسري بالحرب او التعذيب او السجون او القهر. ان شخصيات مثل رشيد مجيد “الشاعر الذي لم يغادر مدينته الناصرية منذ 76 عاما حتى توفي فيها” او جبار جبر “صديقي الملاكم الذي انتحر عام 1980” او واثق فالح حسن جبري “صديق” او جاسم محمد عليوي “فنان درس في محو الامية وتعلم الموسيقى بالات صنعها بيديه. تفوق كثيرا
وهو يعيش مما تدره الماشية في بيته. اخذته الحرب ايضا” او سعد الدجيلي “توفي في المكتبة جراء التعذيب”.او سمير هامش “درس السينما. التحق ثملا الى الحرب . مات” هي جزء من موروث الشاعر وميراثه معا. فهي موروث واقعي في سياق علاقات ربطتها به “ابوة بالنسبة لشاعر مثل رشيد مجيد يخاطبه عبد الحميد “يا ابي المخذول ـ الملفوف وحيدا بالكتب” ولجبار جبر صداقة حياتية لا صلة للشعر لكنه رسم نهاية شعرية لها ” جبار ملاكم مات منتحرا” ما اروع هذا التجسيد الشعري بلغة النثر التي بدت اعمق من اية صورة شعرية. ولواثق فالح صداقة فقط برغم ان الشاعر افصح عن مدى عمقها بالقول “طفولتي التي معك ـ هي ما ينقص قصيدتي”. ولجاسم عليوي علاقة ملتبسة بين الفن والحياة ورعي المواشي والحرب وقد افصح عنها الشاعر دلاليا بنص يمثل اقوى بيت شعر هجائي للحرب “وحدها الابقار التي نجت من الحرب ـ تصغي الى الكمان الان”. ولسعد الدجيلي صلة اشكالية بين المكتبة والموت والتعذيب. وبالنسبة لسمير هامش علاقة تفصح عن دلالاتها بين دراسة السينماوالالتحاق بالحرب في حالة سكر والموت. فالموت هو القاسم المشترك لكل هؤلاء وان اختلفت طرائق التعبير عنه دراميا. وقد حاول الشاعر توظيف قصص هذه الشخصيات في اطار بناء فني وجمالي كشف عن اسراره الدلالية من خلال الافصاح عن كينونة كل واحد منهم حيث بدا التعريف بكل واحد جزء لايتجزا من بناء القصيدة الفني. فالشاعر وان كان افصح عن علاقته بكل واحد عبر التعريف لكنه من خلال البنية المضمرة داخل النص اعطى لكل واحد منهم دوره في التعبير عن رسالته في الحياة