18 ديسمبر، 2024 10:20 م

الادب الروسي في الوعي الاجتماعي العراقي

الادب الروسي في الوعي الاجتماعي العراقي

هذه ظاهرة عالمية بلا شك , اذ يرتبط الادب الاجنبي بالوعي الاجتماعي في كل مجتمع من المجتمعات التي تتعرف عليه , و تحدث هذه العملية في كل مجتمع حسب ظروفه, و كم حاولنا – ونحن نعيش او نتعايش مع المجتمع الروسي بشكل او بآخر منذ ستينات القرن العشرين ولحد الان – ان نوضح للروس من حولنا , ان ( السندباد البحري) لم يرجع الى البصرة بعد رحلاته الشهيرة ولا يعيش فيها في الوقت الحاضر , وان ( السجّادة الطائرة او بساط الريح كما نسميها ) لا تهبط في مطار بغداد الدولي , وان ( الجواري ) لا يرقصن الان امام الخلفاء , وان (حرامي بغداد ) يرتبط فقط بالافلام الامريكية التي عرضته آنذاك ( ولا زالت ترعاه وتعرضه لحد الان مع الاسف !!!)… ولكن محاولاتنا كانت تذهب سدى دائما امام الانسان الروسي البسيط , الذي ترسخت في وعيه تلك الصور الفنية المدهشة الجمال لحكايات الف ليلة وليلة , والتي لا يمكن باي حال من الاحوال تغييرها في الوقت الحاضر , او حتى زحزحتها . وهذا هو الحال نفسه في الوعي الاجتماعي العراقي , اذ يرتبط الادب الروسي عند الانسان العراقي بثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 في روسيا والاتحاد السوفيتي
قبل كل شئ طبعا , اي ان هذا الادب يرتبط ايديولوجيا بالافكار اليسارية الاشتراكية والشيوعية بكافة اشكالها وصورها رغم كل الاحداث التاريخية الكبرى التي حدثت منذ 1917 ولحد الان في روسيا والاتحاد السوفيتي والعالم , هذه الاحداث التي أدّت الى تحولات اجتماعية هائلة في العالم قاطبة , بما فيها طبعا تقسيم الاتحاد السوفيتي نفسه الى خمس عشرة دولة مستقلة . صحيح ان المقارنة بين الوعي الاجتماعي الروسي (الذي لا زال يرتبط بحكايات الف ليلة وليلة ) , وبين الوعي الاجتماعي العراقي تكون في صالح العراق من حيث الفترة الزمنية, اذ ان العراقي قد انتقل – مع ذلك – الى القرن العشرين , رغم ان هذه المقارنة من جانب آخر تعني , ان عظمة حكايات الف ليلة وليلة في تلك السنين الخوالي البعيدة جدا تعني , ان الادب الروسي منذ القرن التاسع عشر صعودا الى عصرنا يمتلك نفس تلك العظمة ايضا , ولكن تلك المقارنة تبتعد بنا عن هدف هذه المقالة قليلا , ولهذا فاننا نعود الى ذلك الهدف , اي تحديد سمات الادب الروسي في الوعي الاجتماعي العراقي.
ابتدأ الوعي الاجتماعي العراقي تجاه روسيا بالتبلور تدريجيا في اوائل القرن العشرين , عندما كانت الامبراطورية العثمانية الحاكمة في بغداد ( رجلا مريضا) , وهناك بالذات – وبتأثير من هذه الامبراطورية المتهاوية ومسيرتها التاريخية – ولد تعبير ( المسقوفي ) عند العراقيين نسبة الى تسمية عاصمة روسيا ( مسقفا ) بالروسية (وهي تسمية دقيقة وصحيحة مقارنة بالتسمية الانكليزية ل( موسكو), وا لتي سادت بدخول الانكليز واحتلالهم لبلادنا ) , اي الموسكوفي باعتباره رمزا للقسوة والعنف ( انظر مقالتنا بعنوان – روسيا في الوعي الاجتماعي العراقي ), اما الادب الروسي نفسه فقد بدأ بالتبلور في وعينا بعد وصول صدى الاحداث الهائلة في روسيا , واهمها طبعا ثورة اكتوبر 1917 الاشتراكية , ومحاولة اتصال بعض رجالات العراق بقادة تلك الاحداث بعد ثورة العشرين وكانوا لاجئين في ايران آنذاك, وهي وقائع معروفة ولا مجال للتوقف عندها هنا , وهكذا ظهرت بعض الاشارات الى الادب الروسي في عشرينات القرن العشرين , واهمها طبعا ما كتبه محمود احمد السيد (1903 – 1937) وهو من اوائل الماركسيين العراقيين, والذي قدّم للقارئ العراقي (ترجمة عن اللغة التركية ) خلاصات لبعض نتاجات الادباء الروس مثل تورغينيف وتولستوي انطلاقا من مواقفه الايديولوجية تلك, وقد طرح محمود احمد السيد حتى اسم لينين ضمن ادباء روسيا , وربما يمكن اعتبار ذلك ليس خطأ من قبل السيد وانما نتيجة حماسته لاسم لينين ليس الا , اذ لا يمكن له عدم معرفة قائد الثورة البلشفية آنذاك ( وهذا موضوع قائم بحد ذاته وبعيد عن موضوعنا طبعا) . جاءت ثلاثينات القرن العشرين واصبحت الدولة العراقية الفتية اكثر نضجا , وابتدأ الوعي الاجتماعي بالتبلور والتمحور حول احزاب عراقية تمتلك برامج واضحة ضد الارتباط مع انكلترا بشكل او بآخر, ومنها طبعا الحزب الشيوعي العراقي , وازدادت معرفة الادب الروسي في تلك الفترة , والتي تميّزت بتنوع النشاطات الثقافية و الفنية والعمرانية , واصبح الادب الروسي راسخا في الوعي الاجتماعي العراقي باعتباره رمزا لنضال الشعب الروسي من اجل تثبيت ثورة اكتوبر وتحقيق اهدافها الاشتراكية, وازداد هذا الاحساس اثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها , عندما اصبح العراق سوقا للكتب المصرية والسورية واللبنانية , وعندما ابتدأ المثقف العراقي نفسه بالمساهمة في ذلك الاتجاه بشكل واسع وفعّال, وقد انتبهت الدولة العراقية آنذاك الى هذه الظاهرة الخطرة بالنسبة لها, وبدأت بمنع الادب الروسي وقمع القوى اليسارية , وهذا أدّى الى نتائج عكسية ( فالممنوع مرغوب ) , و قد أدّى هذا القمع الى توسيع تلك القوى وازدياد تأثيرها , وهكذا الى ان جاءت 14 تموز 1958 واحدثت انعطافا جوهريا في مسيرة الاحداث لصالح القوى اليسارية , وعلى الرغم مما جرى بالعراق في النصف الثاني من القرن العشرين , ظل الادب الروسي راسخا في الوعي الاجتماعي العراقي باعتباره ادب نضال مرتبط بثورة اكتوبر الروسية الاشتراكية ومسيرة الاتحاد السوفيتي بشكل عام , بغض النظر عن كل الوقائع والاحداث , وقد أدّت هذه النظرة الضيّقة و غير الموضوعية طبعا للادب الروسي الى تحويل حتى بوشكين وليرمنتوف وغوغول وتورغينيف وغيرهم من اعلام الادب الروسي في العراق الى ادباء مناضلين يدعون في كل نتاجاتهم واعمالهم الابداعية الى بناء الاشتراكية وانتصار الافكار الشيوعية على وفق مبادئ ثورة اكتوبر 1917 البلشفية الروسية, اي تم تحويلهم الى ماركسيين – لينينين , رغم انهم ولدوا و ابدعوا و رحلوا قبل ان يلد ماركس ولينين…