(قراءة في عبثية إستنساخ التجربة المصرية التي اسقطت نظامهم الأخواني)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تعد الأساليب التقليدية جديرة وقديرة وكافية للقضاء على الأفكار الشوفينية ومحقها، وتجارب التاريخ أعطتنا أكثر من دليل على فشل تلك المحاولات ، وفي أكثر من مكان في العالم، وربما منحها ذلك الفشل عناصر قوة وديمومة وإنتشار!.
تعتبر الأحزاب الدينية، أو بشكل أدق الأحزاب التي تتستر بالدين، من بين أبرز تلك المجموعات الشوفينية، ولو كان القدر قد ساعدها وأمسكت بزمام السلطة قبل نصف قرن، لكانت قد عجّلت في كشفت كل برامجها الظلامية البالية ولمنيت بالفشل منذ ذلك الحين، لكن بقاءها في صفوف المعارضة لعشرات السنين هو ما منحها القدرة على التنامي، وهو ما جعلها قريبة من وجدان قطاعات واسعة من الشعب، وتحديدا الجاهلة والمسحوقة منها أو اليائسة من التغيير والمطحونة برحى الأزمات المتتالية التي لازمت الواقع العربي المتردي، إضافة الى ألاعيب خطابها وإدعائها انها حاملة السحر الكوني لحل مشاكلنا، خصوصا بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل في حزيران 1967، وتقنين الثقافة، ومحاصرة المثقف العربي وتراجعه – منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي – أمام تعاظم الأجهزة القمعية للسلطات الفاشية أو لأنظمة الأحزاب الشمولية أو الملكية الحاكمة بأمر الله، ذلك القمع الذي خلق أجيال عربية كانت بمعظمها متردية ذهنيا وفكريا وطبائعيا وسلوكيا، وهو ما وفرّ أرضية خصبة ومناخا ملائما لظهور وإنتعاش الحركات الدينية على اختلافها كبديل ومخلص من كل تلك المحن، ففي الوقت الذي كان فيه المثقف المحاصر يتخفى وراء هذا القناع أو ذاك إذا ما أراد أن يبدي رأياً، كانت المساجد المنتشرة في كل مكان توفر غطاءا آمنا لتجمع الاسلاميين والتلاحم مع مريديهم.
مع التقدم والتطور المتسارع وغير المسبوق لتكنولوجيا المعلومات، والانتشار الهائل لوسائل الاعلام، التي وفرت مجالات واسعة للتواصل الانساني بطريقة لم تعرفها البشرية سابقا، أصبحت تلك الأنظمة القمعية في مواجهة مأزقها التاريخي، إن عاجلا أو آجلا، فما عاد العصر الانساني الحديث يتسع لأدوات تلك النظم البوليسية المصادرة لكل الحقوق والحريات.
وبغض النظر عن كل التنظيرات والتفسيرات والتحليلات والمزايدات، والمصطلحات التي وصفت بها طريقة إسقاط النظام الفاشي في العراق، وما رافقها وما نتج عنها،(1) فان اختيار الغرب لضرب أعتى فاشية في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، كان قد مهّد وسارع في سقوط تلك الأنظمة – وهو أمر لا يقتصر علينا نحن سكان الوطن العربي – بل سيشمل كل ما تبقى من الدول الواقعة خارج المنظومة التي تـُحكم ديمقراطيا.
جملة وحيدة عبّرت في ذلك الحين عما جرى وما سيجري في منطقتنا جاءت على لسان معتوه (الدور جاي علينا كلنا)، تلك التي قالها الحاكم المقتول معمر القذافي في إحدى (القمم) العربية.
ولكن، ساعة هزمت تلك الأنظمة الفاسدة، لم يكن هناك من بديل جاهز وماسك للأرض في دولنا العربية سوى التجمعات الدينية، وهو ما سهل لها استحواذها على كراسي الحكم بسرعة قياسية وعن طريق صناديق الأقتراع !.
ولكن، سيُرتكـَب الخطأ التاريخي الأكبر في عصرنا العربي، لو أزيحت هذه التنظيمات من سدة الحكم بطرق غير ديمقراطية وخارج لعبة الأنتخابات، وحرمانها من الفرصة الكافية لتطبيق برامجها، لأن الداعين لإزاحتها – بالطريقة التي أقدم عليها الجيش في مصر – سيمنحون (الحياة) مجددا لتلك التنظيمات وسيحولونها مرة أخرى الى معارضة (نجيبة) تتحجج بأغتصاب شرعيتها، وعدم إفساح المجال أمام (عصاها السحرية) لحل مشاكلنا وأزماتنا، بل وستزداد شعبيتها، مع كل خطأ يرتكبه البدلاء (مغتصبي الشرعية)، خصوصا وأن الأوضاع العامة في بلداننا متردية تماما وسيكون من الصعب على البدلاء تجاوزها بفترات قياسية كما تتمنى الشعوب، لذلك سنعود الى نقطة الصفر، وستمنح تلك التنظيمات مجددا فرصة مناجاة المشاعر الشعبية الساخطة لتتحدث عن (سحرها السماوي) ومقدرها الرباني القادر على حل معضلاتنا.
كان يجب أن تعطى الفرصة كاملة للأخوان (المسلمين) في مصر، مهما إمتدت، حتى تتكشف آخر أوراقها وتثبت ظلاميتها التي تتعارض مع روح العصر الحالي، وتستنزف كل ما لديها من أدوات الدعاية، ليلفضها الشعب وتموت ميتتها النهائية والى قرون عديدة قادمة.
هذا ما فهمه الغرب قبلنا للأسف الشديد، وهذه قراءتهم لمشهدنا السياسي العربي !!، وهذا ما دفعها الى الدفاع عن شرعية حكم الأخوان المسلمين والوقوف بوجه التغيير الذي أقدم عليه الجيش المصري، وهذا ما حيّر العديد من الجهات الليبرالية وغير الليبرالية في وطننا العربي من الموقف الأميركي الأوربي حيال (الإنقلاب) العسكري الذي حدث في مصر، فالغرب إكتشف قبلنا، ان أنجع وسيلة لأنهاء (عنفوان) المد (المتأسلم) يقوم على إفساح المجال أمامهم لإستلام السلطة والكشف عن برامجهم (الإصلاحية)، ذلك لأن رهانهم قائم على قاعدة أن تلك البرامج من الإستحالة أن تتحق على أرض العصر الإنساني الحالي، وهو رهان لا يختلف عليه إثنان من العقلاء بكل تأكيد.
إن إقصاء ومقاومة الأسلام السياسي لم يعد حلا مجديا ومرضيا ونافعا، كما أن المطالبة بسقوط الأنظمة الحالية التي تحكمها التنظيمات الاسلامية يجافي الرؤية الموضوعية التي أفرزتها تجارب سابقة، ذلك أن إسقاطه بأساليب غير ديمقراطية أو خارج عملية الإنتخاب هو اعادة صياغة لمشهد مليء بالعنف والقتل والتخلف وإيقاف عجلة البناء (اللاحقة) في هذه البلدان.
من حق الجماهير أن تتمرد وتنتـفض وتسقط سلطة نصّبت نفسها عن طريق الانقلابات العسكرية أو المؤامرات أو تزوير الإنتخابات، ولكن سيقع خارج المنطق السوي أن تسقط هذه الجماهير مجموعة حملتها صناديق الإنتخاب الى السلطة، مهما كان فسادها وغيّها ورعونتها، لأن هذا العمل يشرعن للفوضى والعنف، بل ويعطي الحق لتلك المجموعة أو غيرها أن تناوئ وتستخدم الأسلوب نفسه لأسقاط خصومها، ما يجعل هذه الدوامة تدور لسنوات طويلة حاملة معها المزيد من اسباب التفكك والتردي والدمار والتفشي …… تمرد على السلطة، واصل إحتجاجك، مارس كل الاساليب المتاحة للكشف عن زيف وفساد هذه الأنظمة، ولكن، إياك أن تقصيها بأساليب الإنقلابات أو العنف والفوضى، لأنك بهذا ستشرعن للعنف والفوضى وستشرب من ذات الكأس الذي شرب منه خصمك.
يقول الفيلسوف عمانوئيل كانتْ (أعمل دائما على إفتراض أن يكون عملك قاعدة عمل للآخرين).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – وصفت الثورة الفرنسية في أثنائها وأعقابها ولسنوات غير قليلة بأبشع النعوت، لما ارتكبت خلالها من مجازر بشرية، وما نتج عنها من تفشي وفساد وعنف وفوضى، ولكن، في نهاية المطاف كانت هذه الثورة هي من غير وجه التاريخ الانساني في الدول التي انتفعت منها.